مع كامل الاحترام للغة العربية الفصحى، إلا أن بعض الكلمات العامية يصعب أن تجد لها بديلا يمكن أن تضعه مكانها، بل إن اللفظة العامية هذه تشعر عند نطقك إياها أو سماعك لها أنها تحمل في حروفها دلالات وإشارات تنقل إليك المعنى مباشرة دون أي حاجة إلى إضافة أو توضيح.. من هذه الكلمات مثلا لفظة "حريقة".. وهي مأخوذة من كلمة "حريق" الفصحى.. ورغم أن معناهما واحد بالطبع -اشتعال النيران- إلا أنه فور سماع كلمة "حريقة" يتداعى إلى ذهني دوما النار والدمار والدخان والاختناق والموت وضياع الأحلام والأماني.

وهذا ما حدث فور أن سمعت بحريقة الناس الغلابة في "قلعة الكبش" بـ"السيدة زينب".. هؤلاء الذين كانوا يسكنون -مشيها مجازا يسكنون- في عشش -مشيها برضه في عشش لأن الفراخ تسكن في أماكن أكثر براحا وراحة-.

إلا أن نتيجة الحريقة على أرض الواقع بعد أن تشرد الناس وخرجوا بـ"الحلل" والبطاطين والملايات والغسالات وبقايا الهدوم بدا أنها تفوق قدرات اللغة العربية العامية والفصحى وربما الإنجليزية والفرنسية أيضا على التعبير، الأمر تجاوز هذه المرة رائحة الخشب المحترق ورماد الأحلام ودموع الموجوعين؛ ليصل إلى ما هو أعمق وأكثر إيلاما لأن المعنى الوحيد الذي يمكن أن تخرج به من كل هذا الجنون والفوضى التي حدثت هناك في "قلعة الكبش" وهي المنطقة المحسوبة على العاصمة -واخد بالك مش عزبة في أعماق بحري أو الصعيد- المعنى الذي ربما تكون النيران قد كتبته على الجدارن وهي تأكل الخشب هو أن كونك مصريا وتقيم على أرض مصرية فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن تتمتع بأدنى حقوقك كبني آدم -وليس كمواطن حتى- ليس هذا فحسب بل عليك أن تسكت وتنخرس ولا ينفتح فاهك بكلمة واحدة اعتراضا، ولا بأس من أن تصلي صلاة شكر لكونك تعيش في المحروسة.

تابع من فضلك أول تصريح أدلى به رئيس الوزراء بعد "الحريقة" حتى تعرف أن هذه حقيقة علمية.. قال إن قلعة الكبش كانت على قائمة التطوير والتحديث قبل الحريق، وهو ما سيجعلهم يسارعون في تطويرها الآن!

طبعا العيب هنا يقع على النار التي كانت أسرع من خطط الحكومة في نجدة الناس! معنى هذا - لو لاحظت- أن الكل كان يعرف من قبل أن المنطقة خارج نطاق التاريخ.. وأنها تعدت العشوائية بمراحل وأصبحت مكانا أقرب للعصور الوسطى منها لأي عصر آخر.. وأن فيه أسرا يتجاوز عددهم الأفراد العشرة ويعيشون في أكشاك ضيقة يمارسون فيها كل أنواع النشاط الإنساني بكل ما فيها من خصوصية.. وأنه لا ماء ولا صرف صحيا، وأنها أصبحت أرضا خصبة لكل أنواع البلطجية والعصابات بعد أن رفعت الحكومة يدها عنها وكأنها قطعة أرض لدولة أخرى.

ومعنى هذا أن كل المسئولين الكبار والصغار كانوا ينامون مرتاحي الضمير والقلب دون أن يصحو أحدهم من نومه مفزوعا على كابوس يتخيل فيه نفسه وقد انتقل هو وأسرته من مصر الجديدة مثلا للعيش في قلعة الكبش.

ليس هذا فحسب بل إن طريقة التعامل مع "الحريقة" نفسها تؤكد الكلام ذاته.. فرئيس مجلس الشعب د."فتحي سرور" الذي هو عضو مجلس الشعب عن دائرة السيدة زينب التي تضم قلعة الكبش المنكوبة لم يذهب إلى هناك، ولم يتصل بالناس الموجوعة.. بل حتى لم يصدر بيانا يعتذر فيه عن أنه كان مشغولا في حفلة التعديلات الدستورية فمش فاضي بقى يروح للناس في دايرته.

ثم أن خرجت الصحف الحكومية تبارك للمنكوبين بأن النظام سيوفر لهم تليفزيونا وغسالة وثلاجة -لاحظ أهمية التليفزيون طبعا لأنه الجهاز الذي سيشاهدون من خلاله إنجازات السيد الوزير والمحافظ وسيشاهدون فيه أنفسهم وهم يزغردون ويصفقون ابتهاجا باحتراق مساكنهم شاكرين أجهزة المطافئ لأنها تأخرت ساعتين على الحضور إليهم!

ليس هذا فحسب بل إن الشقق التي وفرتها لهم محافظة القاهرة بعد الحريقة اتضح أنها غير مخصصة لكل أسرة! وإنما الشقة الواحدة المكونة من ثلاث غرف وحمام سيسكن فيها ثلاثة أسر! وكأنه لا يصح أبدا لهؤلاء الناس أن يخرجوا من كشك إلى شقة وإنما إلى كشك آخر ملحق به حمام مشترك.. وأهي فرصة بقى الناس تتعرف على بعضها أكتر ويشغلوا التليفزيونات التلاتة في وقت واحد!

بل إن الكارثة الأكبر ستتضح عندما تعرف أن الناس المساكين كان يستأجرون الأكشاك التي شبت فيها "الحريقة" من الحكومة! التي بدا وكأن وظيفتها في هذه الحالة هي "كسر نفس" البشر وإسكانهم في أكشاك غير آدمية حتى لا يطالبوا ذات يوم بحقوق آدمية "كمياه شرب نقية مثلا أو صرف صحي حقيقي أو وسائل مواصلات محترمة أو مثلا مثلا الشر بره وبعيد بديمقراطية وحرية وانتخابات غير مزورة".

ربما المشهد الوحيد الإيجابي في مرحلة "ما بعد الحريقة" هو أن معظم الأهالي المتضررين نظموا شبه مظاهرة واتجهوا بها نحو مجلس الشعب مطالبين بحقهم في حياة آدمية.. صحيح أنهم فعلوا ذلك متأخرا.. فعلوه بعد "الحريقة" وربما لو كانوا فعلوه من قبل لما وقعت "الحريقة" من أصله.. لكن لا بأس.. ضع ذلك جنبا إلى جنب مع مظاهرات العمال التي أصبحت خبرا أسبوعيا ثابتا تقريبا تطالب بحقوقها المسلوبة.. حط ده برضه جنب اعتصام الفلاحين في قرى دكرنس بالدقهلية وسراندو بالمنوفية ضد الإقطاعيين الجدد الذين يريدون أخذ أراضيهم بالقوة.. ستكتشف أن السيل فعلا قد بلغ الزبى.. وأن الحريقة الكبرى قد تشب في أي لحظة.. وهي حريقة لن يفلح في إطفائها تلاجة جديدة أو غسالة زيرو أو حتى تليفزيون ملون يذيع إنجازات السيد... الوزير!

  • Currently 101/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
34 تصويتات / 860 مشاهدة
نشرت فى 25 مارس 2007 بواسطة MYHYA

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

173,599