قصيدة النثر نص مفتوح عابر للأنواع
تكتسب كتابات الشاعر عز الدين المناصرة حول قصيدة النثر وإشكالياتها أهمية خاصة، تنبع من كونه جرّب كتابة هذا الجنس الأدبي أولاً منذ منتصف الستينيات، حيث نشر في العام 1969 قصيدته النثرية الشهيرة "مذكرات البحر الميت"، كما أصدر مجموعة بعنوان "كنعانياذا" في العام 1983 تتضمن قصائد نثر.. و لكن يبدو أنه ظل قلقاً تجاه هذا الجنس الأدبي، حتى أطلق عليه وصفاً تفرّد به، وهو "قصيدة النثر جنس كتابي خنثى"، في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، والذي أعقبه وصف آخر هو "نص مفتوح عابر للأنواع" تضمنه كتابه "إشكاليات قصيدة النثر" الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
والكتاب ـ كما يصفه د. محمد ناصر الخوالدة في ما كتبه على الغلاف الأخير ـ هو "الأهمّ في مجاله حتى الآن في الوطن العربي كله... إنه كتاب الخلاف والاختلاف، فقد روّج المناصرة لمشروعية قصيدة النثر بذكاء ودهاء، وبدأت أطروحته (الجنس الأدبي المستقل) تلقى تجاوباً من النقاد العرب منذ عام 1997، حتى أنه يمكننا مقارنة كتاب المناصرة الأخير بكتاب نازك الملائكة (قضايا الشعر المعاصر ـ 1962) وكتاب أدونيس (زمن الشعر 1972) من حيث الفاعلية فقط، وبعيداً عن أساليب الجمود والإنكار".
ويخصص المناصرة الفصل الأول لبحث إشكاليات التسمية والتجنيس والتاريخ لقصيدة النثر ، متناولاً كتاب "سوزان برنار" الشهير ("قصيدة النثر من بودلير إلى زماننا" 1959")، وتنظيرات أدونيس وأنسي الحاج النقدية، ثم النبر في النثر والشعر وقصيدة النثر، مروراً بتنظير بول شاؤول في الثمانينيات والتسعينيات حول القضايا آنفة الذكر، وعلاقة مجلة "فراديس" بقصيدة النثر، وانتهاءً بوقفة مع أحمد بزّون في كتابه "قصيدة النثر العربية".
ويشتمل هذا الفصل أيضاً على أفكار وسجالات متعلقة بقصيدة النثر شارك فيها شربل داغر، جودت فخر الدين، محمود درويش، عبد المعطي حجازي، سميح القاسم، عباس بيضون، عبده وازن، د. بسام قطوس، بالإضافة إلى المناصرة نفسه.
ويخلص المناصرة في هذا الفصل إلى أن حركة الشعر المنثور ظهرت ابتداءً من "هتاف الأودية"
(1910) لأمين الريحاني، بينما بدأت حركة النثر الشعري بصدور "دمعة وابتسامة" (1914) لجبران خليل جبران، واستمرت هذه الحركة في كتابات مصطفى الرافعي، ألبير أديب، إلياس زخريا، ثريا ملحس، ثم تريز عواد، حسين مردان، ليلى كرنيك وغيرهم، لتؤكد أن الشعر المنثور والنثر الشعري خصوصاً في النصف الأول من القرن العشرين، كان إمّا تمهيداً لقصيدة النثر، أو أنه كان مرحلة أولى من مراحلها في التطور.
ويرى المناصرة في هذا السياق أن قصيدة النثر التي ظهرت عام 1954 حُكمت بمرجعيتين هما: المرجعية الأورو أميركية "بودلير، رامبو، ويتمان" من جهة، ومن جهة أخرى المرجعية العربية "الكتابات الصوفية كالنفري، أسفار التوراة واللغة الإنجيلية...الخ".
وظل الجدل قائماً، بعد أن ترجم أدونيس مصطلح "قصيدة النثر" عن الفرنسية "1960" حول التسمية، فأطلقت أسماء فرعية كثيرة، ولكن الخطأ الشائع "قصيدة النثر" ظل هو المسيطر طيلة أربعين سنة، ولأن خطأ شائعاً خيرٌ من تسميات فرعية غير معترف بها، يتوقّع المناصرة أن يبقى مصطلح "قصيدة النثر" هو المسيطر، لأنه أخذ شرعية واقعية.
ويؤكد المناصرة أن هاجس التصاق قصيدة النثر بالجنس القديم الحديث "الشعر" ظلّ هاجساً مركزياً لدى كتّاب قصيدة النثر، وإذا كانت قصيدة النثر قد حصلت على اعتراف بشرعيتها كجنس ثالث مستقلّ بعد الشعر والسرد، إلاّ أن الاعتراف بها ـ كشعر كامل رغم شاعريتها العالية أحياناً ـ ظلّ في دائرة الشكّ، حتى هذا التاريخ.
ويرى المناصرة أن قصيدة النثر من منتصف الثمانينيات هي "قصيدة العولمة"، وهو تعبير طبيعي عن حالة التشظي العربية منذ نهاية الحرب الباردة، وهو أيضاً تعبير عن "حالة التجريد" و"تبريد اللغة الشعرية" الذي ترغبه السلطة، لأنه يلتقي مع مفهوم "محو الأمية" الذي تريده العولمة.
وفي الفصل الثاني الذي جاء بعنوان "تبريد اللغة الشعرية" يختار الشاعر المناصرة عينة عشوائية من قصائد النثر كتبها "نصّاصون" بعضهم ترسّخ في مجال الكتابة، وبعضهم الآخر في الطريق، منهم عباس بيضون، أنسي الحاج، فاضل العزّاوي، بول شاؤول، شربل داغر، بسام حجّار، زكريا محمد، قاسم حداد، نوري الجراح، رفعت سلام، زياد العناني، نجوان درويش، حسين البغوثي، وفاء العمراني، سلوى النعيمي، رانة نزال، غادة الشافعي، عبده وازن، أحمد الشهاوي وخليل صويلح.
وهذه النصوص المختارة، تمثّل الإطار العام لقصيدة النثر في الثلاثين سنة الأخيرة تمثيلاً صادقاً، فهي توضّح الخطوط الرئيسة في الأساليب التركيبية المستخدمة في واقع قصيدة النثر، مثلما توضّح تعددية "المنظور" إلى العالم، وترصد محطّات التحوّلات في الأساليب، وأول سماتها هي التعددية.
ويرى المناصرة أن "ضعاف النصوص" من كتّاب قصيدة النثر هم الذي يرفعون الشعارات التي تعلن القطيعة، تحت اسم المغايرة والاختلاف والانشقاق والتجاوز و التخطّي، لكن نصوصهم ركيكة لغوياً وأسلوبياً إلى درجة عدم الاتساق والانسجام النصّي، بينما تصبح "نصوص الأقوياء" نموذجاً، يُحتذى إلى درجة "الاستنساخ".
فالمغايرة والاختلاف ـ والكلام هنا للمناصرة ـ يحدثان في المفاصل التاريخية، مثل الموشحات وحركة الشعر الحديث "التفعيلة" وظهور قصيدة النثر نفسها في الخمسينيات.
وقد تمّ التأسيس لقصيدة النثر كتركيب أسلوبي وكنمط في الخمسينيات، ثم تولّدت وقفة جديدة في السبعينيات مضيفةً بعض الأساليب الجديدة بتعميق ما سبق، ثم كانت الدفعة الثالثة في التسعينيات، بإيصال التجريب اللغوي إلى الحد الأقصى، إلى درجة الإشباع.
ويقول المناصرة أن أبرز ظاهرة في قصيدة النثر هي الميل إلى ما يسميه "تبريد اللغة الشعرية"، أي الميل إلى التأمل الهادئ للأشياء، بسبب الاهتمام باللغة السردية التي تجعل النص يميل إلى النثرية.
كذلك هناك ظاهرة الانفصال عن الأشياء التي تساهم في تبريد النص، وطغيان السرد على النصوص الجديدة، فنجد "نموذج القصة القصيرة جداً" و"التحليل الفلسفي للأشياء" و"معاجم النباتات والحيوانات والبحار" و"السطور الهامشية التفسيرية" و"الخطاب التقريري المباشر"... هناك سرد نثري عقلاني خالص، وهناك جمل سردية تأخذ شاعريتها من التشكيل الجديد لها، أو من طريقة استخدامها في السياق.
ويلاحظ المناصرة تطورات جديدة مثل "الكثافة الشعرية" التي تنوجد في السطر وفي الفقرة وفي النص كله أحياناً، مما يولّد الصفاء الشعري، لكن نصوصاً كثيرة لا علاقة لها بالكثافة، فهي إنسيابية مترهلة وتقترب من الهوامش التفسيرية، كما لاحظ وضوح ظاهرة "التكرار" الأسلوبي في كثير من النصوص، وقد لعب هذا التكرار عدة أدوار منها إشباع الإيقاع بأسلوب يركز على السطر أو الكلمة، ومنح الصور الشعرية تعددية تنويعية.
ويتابع المناصرة أن نصوص البياض ما زالت تجريبية، حيث يتم الخلط بين "بنية المكان" في الصفحة، بما يتعلّق بشكل الصفحة، أي "المتخيّل"، وبين "الفضاء" خارج الصفحة، أي "المتخيّل"، حين يصبح القارئ شريكاً في النص... وفي النصوص المختارة تبرز "اللافتة الشعرية" التي غالباً ما تكون سطراً شعرياً مكثفاً، له ملامح الحكمة والخلاصة، بعد تأمل عصارة تجربة ما، لكن الانزياح في بعض النصوص "اللافتة" لم يصل، فظلّت اللافتة أحياناً "ما قبل شاعرية"، أي في منطقة "الفكرة الفلسفية الشعرية".
وتسيطر على النصوص أساليب "الدفاع عن الذات النرجسية" في مقابل "قطيعة الجماعة"، ورغم أن بعضها لا يستخدم الاستعارات أو اللغة الشعرية الموروثة، إلا أننا نشعر بأجواء شاعرية عندما نقرأها، وهذا ما يسميه المناصرة "نصّ الحالات الشاعرية"، كما أن في بعض النصوص صوفية (إسلامية ومسيحية)، لكن الكثير منها يعبر بلغة صوفية مصطنعة، أو يعيد إنتاج صوفية موروثة.
ويلاحظ الشاعر عز الدين المناصرة أن في نصوص التسعينيات اهتماماً أكبر بالتعبير عن "الجسد" بتجلياته السطحية والعميقة (الشهوة، البوح الداخلي، سوء الفهم، الولع النسائي) بما يعني تغيّر معاني الحب، لكن تعبيرات المرأة في التراث عن نفسها أكثر ثورية من التعبير المعاصر، كما أن بعض كاتبات قصيدة النثر اكثر جرأة من كثير من كتّاب قصيدة النثر (الذكور).
وهناك في النصوص تبلور ما يسميه المناصرة "النص ـ اللقطة السينمائية"، وهو نص مشهدي دائري يستخدم لغة السيناريو السينمائي بفعله المضارع، وهناك أيضاً "النص التوقيعة" المكثف جداً.
وتشتمل بعض النصوص على سخرية سوداء سريالية عبثية، تعبّر عن الاسترخاء العبثي تجاه العالم، حيث يتم قلب الأشياء بواسطة الاستعارة.. كما أن في النصوص عموماً حضوراً للغة الحياة اليومية ورسم الصور التفاصيلية، واهتماماً بأسطرة اليومي أو تحويل الأسطوري والتاريخي إلى عادي، فالشاعرية لا تنبع من المعجم بحدّ ذاته، وإنّما من السياق.
ويتضمن الفصل الثالث نتائج الاستفتاء الميداني الذي قام به المناصرة، وشارك فيه أربعة وأربعون شاعراً وناقداً ومثقفاً وباحثاً من فلسطين، الأردن، الجزائر، المغرب، العراق، سوريا، لبنان، السعودية وتونس، حيث أجاب هؤلاء عن أسئلة يتراوح عددها بين السبعة والخمس عشرة، وصفها المناصرة بأنها أسئلة القراء والواقع، مؤكداً عدم اتفاقه مع بعض الأسئلة، ولكن الهدف منها نقل الحوار السطحي السائد في الصحافة واستبدال مستوى علمي أكثر دقة به واستخراج "المسكوت عنه" بإيصال الحوار إلى حدّه الأقصى من خلال جمع الأسئلة الأكثر واقعية من الواقع بعيداً عن الانفصال بين النص والتنظير.
وفي إجاباتهم عن أسئلة المناصرة، يخلص شيخ النقاد العرب الدكتور إحسان عباس إلى أنه لم يعثر على الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر، ويؤكد الناقد المغربي نجيب العوفي أنها وُلدت من رحم قصيدة التفعيلة، ويشدّد الناقد السعودي د. محمد مريسي الحارثي أن هذه القصيدة لم تخرج عن جنس النثر، ويصفها الشاعر زهير أبو شايب بـ "الكتابة البرزخية"، ويعتبرها الشاعر حكمت النوايسة جنساً نثرياً أو مستقلاً، ويذكّر الباحث اللبناني د. عبد المجيد زراقط بالمرجعية الفرنسية لقصيدة النثر، بينما تبدو في نظر الشاعر العراقي شاكر لعيبي نوعاً شعرياً مخادعاً، ويعتقد كاتب قصيدة النثر العراقي رسول عدنان بفكرة أن الشعر بدأ في الحضارات القديمة من قصيدة النثر، وهو يعود إليها الآن، ويؤكد الباحث الجزائري د. حبيب مونسي أن "النثيرة" ليست شعراً، وليست بديلاً عن الشعر، ويكتفي كاتب قصيدة النثر التونسي حاتم النقاطي باعتبار هذه القصيدة كتابة إبداعية وكفى، في الوقت الذي يطالب فيه الشاعر السوري محمد عبد المولى أن تنضمّ قصيدة النثر إلى النثر "العظيم"!
وتتوالى الإجابات التي تراوحت في طولها وفي دقّتها وشموليتها، حتى يخلص الشاعر عز الدين مناصرة إلى عدد من النتائج، أبرزها أن الشعر المنثور أو النثر الشعري مهّد لظهور قصيدة النثر منذ أوائل الخمسينيات، حيث صدرت مجموعة "ثلاثون قصيدة" لتوفيق صايغ (1954)، كما كان لترجمة الكتاب المقدّس تأثير على تجلّيات قصيدة النثر، كذلك كتابات الصوفية والنصوص الكنعانية والمصرية وملحمة جلجامش، إضافة لترجمات قصيدة النثر الفرنسية والشعر الأوروكي، وأن قصيدة النثر بدأت من "وحدة السطر" و"وحدة الفقرة"، حتى وصلت إلى "التدوير الكامل" وفي التسعينيات وصلت قصيدة النثر إلى درجات عالية من الشاعرية، ودرجات عالية أيضاً من النثرية، حتى أنه يمكن تسميتها بـ "النص المفتوح" و"الكتابة الحرة".
وبالنسبة لمسألة التجنيس، فقد اتسعت قصيدة النثر من حيث كمية ونوعية المنجز منها، حتى باتت تشكل ظاهرة كبرى تميل إلى الاستقلال عن الشعر بمفهومه الموروث، وعن النثر أيضاً، وهي في ذات الوقت تميل إلى الجمع بين السرد والشعر، ولم تعد مواصفات "سوزان برنار" قائمة في واقع النصوص، فالقصيدة ليست شرطاً، والكثافة بوجود السرد المهيمنة تكاد تتضاءل، ويغيب التوتر الشعري في ظلّ تبريد اللغة الشعرية، ومع انهيار الحيطان الحديدية بين الأنواع، تكاد قصيدة النثر، تشكل نصاً يجمع الأنواع الأدبية.
ويضيف المناصرة أن قصيدة النثر طيلة الأعوام الخمسين الماضية لم تحصل على "الشرعية" من التنظير النقدي، لأن هذا التنظير كان شعاراتياً متناقضاً، وبسبب وجود فجوة بين التنظير وبين النصوص. لكن قصيدة النثر اكتسبت شرعيتها من كمية المنجز النصّية المتنوع والنوعي في النصوص أحياناً. فقد صدرت آلاف المجموعات من نوع قصيدة النثر، مما يوحي ويقرر أن "الاحتياج" للظاهرة متوافر لدى المثقفين العرب، لكن الصراع بين "الشفهي الصوتي" وبين "الصامت المقروء" ظلّ عائقاً أمام وصولها للجماهير.
ويؤكد المناصرة أن الجدل التفاضلي بين "شكل" و"شكل" جعل "الشكل" مقولة مقدّسة!! والصحيح ـ فيما يرى المناصرة ـ أن "الشكل" لأي نوع أدبي لا يمنحه صفة القداسة ولا شرعية المفاضلة.. ويدلّل الشاعر المناصرة على أطروحته باعتبار قصيدة النثر جنساً مستقلاً، بمجموعة من الدلائل أبرزها الإيقاعات التي لا تحصى في هذا الجنس الأدبي، والتداخل بين الأنواع الشعرية والنثرية مما يوصل قصيدة النثر إلى "نصّ الأنواع" أو النص المفتوح، والمنجز النصي الواسع جداً بصدور آلاف المجموعات المطبوعة، مما جعله ينتقل من مرحلة "التبعية للشعر" و"التبعية للنثر" إلى مرحلة وضوح ملامح الهوية الخاصة، بالإضافة إلى السردية النثرية، وهي نوعان: نثري يوغل في النثرية، وشعري يحقق درجة أولى أو ثانية من الانزياح.
ويختتم المناصرة الكتابَ بتأكيده على أن قصيدة النثر جنس مستقل ونصّ مفتوح على الأنواع وعلى الآخر "هجين". أما أيديولوجيتها فهي أيديولوجيا العولمة "التشظّي" بجمالياتها الشكلية ووحشيتها المرعبة.. إنها التعبير عن "الحوار مع الآخر" بشروط غير مثالية.
ومثلما يقترح د. عز الدين تعبير "نص عابر للأنواع" للتدليل على قصيدة النثر، فهو يقترح لكاتب هذا النص وصف "نصّاص" بدلاً من شاعر!
ساحة النقاش