د .محمد ناصر الخوالده
اسرائيل وأمريكا تختنقان
هناك على ما يبدو لحظة تبدأ فيها كل دولة قوية بالاختناق من قوتها وعظمتها. هي قوية جدا ومسلحة حتى أخمص قدمها إلا أنها عاجزة في مواجهة قوي أصغر منها بكثير وأقرب إلى البدائية لدرجة أن الإحباط وخيبة الأمل تؤدي وحدها إلى تغذية القتال ـ وليس الإستراتيجية أو الأهداف المرسومة أو المكانة الاعتبارية، ما يحركها فقط هو غطرستها الحمقاء.
دولتان شقيقتان وقعتا في أسر هذه الوضعية: الولايات المتحدة في العراق وإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة . واشنطن حققت كل مطالبها في العراق تقريبا : الرئيس صدام حسين سقط ، وحكومة جديدة تشكلت ، والعراق لم يعد تهديدا استراتيجيا إقليميا كما كان قبل الحرب، إلا أن النتيجة الحقيقية لهذه الحرب كانت: الدمار الكامل، ذلك لان الدولة العراقية ليست قائمة تحت مظلة النظام الجديد الذي أُقيم فيها، وكأن احد ما قد خطط لتدمير الدولة العراقية حتى لا تشكل تهديدا بالمرة.
مئات آلاف المدنيين قُتلوا والملايين هربوا، أما أجهزة التعليم والقانون والرفاه فحدِّث ولا حرج. سوق السلاح مزدهر ولم يعد بإمكان أحد أن يحصي عدد العصابات والميليشيات والخلايا الإرهابية وعدد التنظيمات المقاومة التي تتحرك هناك بكل حرية. حتى إيران طولبت بالمساعدة، والممثلون الأمريكيون قاموا بإجراء المباحثات مع قادة الميليشيات التي تفتك بالناس بلا تمييز , والأمريكان أنفسهم أنشئوا ميليشياتهم الخاصة بهم من صحوة وآخرين يقومون بعمليات خاصة . الهدف الوحيد الذي بقي لهذه الحرب هو الانسحاب السريع من هناك.
بعد سقوط الآلاف من الجنود الأمريكيين أصبح الأمريكيون يبحثون عن متطوع لأخذ زمام المسؤولية عن الساحة العراقية. ولهذا سارعوا في تقديم الجيش العراقي المصطنع ليتقدم الصفوف بمواجهة كل المقاومين العراقيين .
إسرائيل عالقة على مسافة ألف كيلومتر من بغداد في دائرة خانقة ـ توأم. هنا أيضا تبدو الأمور وكأنها انجاز محقق: حكومتان في أراضي السلطة الفلسطينية الفلسطينية مشلولتان ، والعالم يقاطع إحداهما ويدعم الأخرى كما طمحت إسرائيل ، ولا حوار مع ( الإرهاب ) ولا توجد أي ضغوط لتحريك العملية السياسية الجدية. ولكن حاسوب الجيش الإسرائيلي قد أصيب بالاضطراب واختلطت عليه الأمور من كثرة العمليات التي قام بتخزينها في ذاكرته بشتى الأسماء. تلك العمليات التي يُمطر بها الجيش الإسرائيلي قطاع غزة بكيلومتراته المربعة الصغيرة وسكانه المليون ونصف. يتحدثون عن العملية الموسعة المزمعة، مع أنها في ذروتها الآن. مئات المطلوبين الكبار قتلوا. المعابر الحدودية مغلقة. المواطنون الفلسطينيون يُقتلون يوميا. الصراع الجاري بين الجيش والفصائل الفلسطينية المقاومة تبدو وكأنها قد استنسخت من العراق . أجهزة التربية والرفاه والاقتصاد انهارت وأصبحت مصطلحا نظريا.
وفي إسرائيل أيضا كما في العراق بدئوا يتحدثون عن الحاجة إلى إيجاد أحد ما ـ مقاوم أو رجل مافيا ـ لتحمل المسؤولية عن قطاع غزة. وكان اقتراح ليبرمان ـ تحويل غزة إلى الشيشان وإيجاد بطل محلي لعقد صفقة معه ـ??.
ما الذي يدفع الولايات المتحدة وإسرائيل إلى مواصلة الاختناق في داخل قوتهما؟ والدوران في دوامة النشوة الذاتية وكأنه لا يوجد طريق آخر؟ المسألة هي أنهما غارقتان في الرغبة في إحراز نصر واحد ومن ثم المغادرة. الأهداف الإستراتيجية منسية، والصراع الأساسي تقزم الي مستوي حرب الجيش ضد العصابات، والسؤال الملح الآن هو أي مطلوب كبير سنقتل غدا. تماما مثل إحصاء عدد رؤوس نشطاء القاعدة المقتولين في أفغانستان، أو عدد المقاومين المقتولين في العراق.
هناك حل لوضع هاتين الدولتين البائس، ولكنه حل مهدد من الناحية السياسية. في العراق يعني هذا الحل انسحابا أمريكيا كاملا واعترافا تاما بالفشل وهذا لم يحصل بسبب توقيع الأتفاقية الأمريكية العراقية التي حفظت ماء وجه القوات الأمريكية إلى حين. وربما نقل العراق إلى تأثير إيران المباشر وتقسيمه إلى فيدراليات وربما تغيير السياسة تجاه إيران لضمان عدم تحول العراق الي تهديد استراتيجي مرة أخرى .
أما في إسرائيل فيعني ذلك العودة إلى خطة الانطواء والتفاوض بشكل شبه متواصل ومن تحت الطاولة مع حكومة الضفة الفلسطينية – عباس - . أما استحقاق أيلول ودفع القضية الفلسطينية نحو الأمم المتحدة كي تحن بالموافقة على استحداث اعتراف بدولة فلسطينية على أراضي 67 والإدراك بأنها لن تنال الاعتراف من قبل إسرائيل أو أمريكا وأنها ستكتفي بهدنة طويلة أو قصيرة. في كلتا الحالتين يتعلق الأمر بالتنازل عن مبادئ كانت منطقية قبل الحرب، ولكنها أصبحت حجر عثرة على طريق إنهائها.
السؤال الآن هو فقط متى ستترجم مشاعر الاختناق التي تسببت بها هذه المبادئ إلى سياسة منطقية؟ أمريكا بدأت بالازرقاق، أما إسرائيل فلم تفهم بعد أنها غارقة عميقا داخل ربطة عنقها.
ساحة النقاش