بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال رحمه الله تعالى: فصل: التعزير المالي.
والتعزير بالعقوبات المالية مشروع أيضًا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك.
كما دلت عليه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده، ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، ومثل أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وقال له: أغسلهما؟ قال: لا بل أحرقهما.
وأمره لهم يوم خيبر بكسر الأوعية التي فيها لحوم الحمر. ثم لما استأذنوه في الإراقة أذن، فإنه لما رأى القدور تفور بلحم الحمر أمر بكسرها وإراقة ما فيها، فقالوا: أفلا نريقها ونغسلها؟ فقال: افعلوا. فدل ذلك على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بذلك لم تكن واجبة.
ومثل هدمه لمسجد الضرار ومثل تحريق موسى للعجل المتخذ إلهًا، ومثل تضعيفه -صلى الله عليه وسلم - الغرم على من سرق من غير حرز، ومثل ما روي من إحراق متاع الغال، ومن حرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير. ومثل أمر عمر بن الخطاب عليَّ بن أبي طالب بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر.
ومثل أخذ شطر مال مانع الزكاة، ومثل تحريق عثمان بن عفان المصاحف المخلفة للإمام، وتحريق عمر بن الخطاب لكتب الأوائل، وأمره بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص الذي بناه لما أراد أن يحتجب عن الناس، فأرسل محمد بن مسلمة و أمره أن يحرقه عليه، فذهب فحرقه عليه.
وهذه القضايا كلها صحيحة معروفه عند أهل العمل بذلك ونظائر هذا متعددة. ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبهما، ومن قاله مطلقًا من أي مذهب كان فقد قال قولًا بلا دليل، ولم يجئ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء قط يقتضي أنه حرم جميع العقوبات المالية، بل أخذ الخلفاء الراشدون وأكابر أصحابه بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ.
وعامة هذا هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه، وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث. ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية، تنقسم إلى ما يوافق الشرع وإلى ما يخالفه، وليست العقوبة المالية منسوخة عندهما.
والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا من كتاب ولا سنة، وهذا شأن كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة إلا بلا حجة إلا مجرد دعوى النسخ، وإذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة إلا أن مذهب طائفته ترك العمل ببعض النصوص أو توهمه ترك العمل بها إجماع، والإجماع دليل على النسخ، ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلًا على أنه منسوخ؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلال، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له، ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع إذ حقق الأمر عليه لم يكن الإجماع الذي ادعاه صحيحًا، بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاع، ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء.
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد ذكر أن المعاصي فيها عقوبات في الدنيا فتارة تكون العقوبة مقدرة، وتارة غير مقدرة قدر الله عقوبة الزاني أنه يجلد مائة جلدة، أو أنه يرجم إن كان محصنا وعقوبة السارق تقطع يده إذا تمت الشروط، وعقوبة شارب الخمر يجلد أربعين أو ثمانين جلدة ويقتل إذا تكرر ذلك منه أربع مرات وعقوبة القاذف أنه يجلد ثمانين جلدة، وكذلك بقية العقوبات التي قدرت شرعا.
ولكن هناك معاصٍ ما قدرت العقوبة فيها ولا حدد مقدارها في هذه الحال يكون فيها التعزير العقوبة التي يجتهد فيها الحاكم بقدر ما يراه زاجرا والنبي -صلى الله عليه وسلم- عاقب كثيرا من العصاة عقوبات تعزيرية كما سمعنا، وكذلك خلفاؤه عاقبوا على كثير من المعاصي ومن ذلك العقوبات المالية، ولقد اختلف العلماء في هذه العقوبات المالية هل هي باقية أم منسوخة ذهب بعضهم إلى أن العقوبة بإتلاف الأموال منسوخة، وذهب بعضهم إلى أنها باقية.
فمثال ذلك: من غل من الغنائم ورد أنه يحرق متاعه كله يحرق رحله، وقال آخرون: رحله ليس له ذنب كيف يحرق متاعه وليس له ذنب إنما الذنب له، فلماذا لا يؤخذ متاعه كنفقته نقودا أو فرشا أو طعاما ويتصدق به أو يدخل في بيت المال، وهذا قول وجيه، ولكن إذا رأى الإمام إحراقه فله ذلك، وكذلك يلحق به كل من اؤتمن على مال فخانه وأخذ منه ما لا يستحقه.
وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شقق ظروف الخمر مع إمكان الانتفاع بها وذلك تعزير لما خرج، والخمور في زقاق وفي أوعية جاء وأصحابه معهم السكاكين وقال: شققوها لو أراقوا الذي فيها وقالوا لأهلها: انتفعوا بهذه الظروف لكان ذلك جائز؛ لأن المحرم إنما هو نفس الخمر، وأما الوعاء الذي هي فيه من جلود أو نحوها فإنه ليس بمحرم، ولكن من باب العقوبة شققها عليهم حتى تلفت.
وكذلك في غزوة خيبر لما أن كثيرا منهم ذبحوا الحمر الأهلية، ال**** الأهلي كان مباحا أكله، ثم في تلك الغزوة حرمه النبي -صلى الله عليه وسلم- ذبح كثير من الناس الحمر في تلك الغزوة ونصبوا القدور فقال لهم: أكفئوها واكسروها اكسروا القدور عقوبة لهم، ولكن استفصل بعدها بعضهم وقالوا: أَوَنغسلها فقال: أَوَذاك القدور طاهرة وليس لها ذنب، ولكن من باب سخطه على أهلها الذين ذبحوها، قال: اكسروها ثم استثنى وقال: اغسلوها.
وكذلك التعزير بالعقوبات المالية ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في مانع الزكاة: من أعطاها مؤتجرا بها فإن له أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عقوبة أيضا مالية، إذا منع الزكاة وهو قادر عليها فإن من عقوبته أن يؤخذ نصف ماله عقوبة له، فإذا جازت العقوبة بالمال جاز كذلك في بقية المعاصي ونحوها أن يعاقب بالمال ويسمى هذا التعزير بالمال.
يجوز أن يعزر بالمال، فإذا عثر على إنسان قد أذنب ذنبا جاز أن يعزر بالمال ويؤخذ منه مال يضره أو يؤثر على اقتصاده؛ ليعلم بذلك أنه مذنب.
فهناك عقوبات لم تقدر فشاهد الزور يجب أن يعاقب من عقوبته إذا أخذ منه مال جزاء على كذبه جاز ذلك، وكذلك من زوَّر على إنسان جاز أن يؤخذ منه مال عقوبة له، كما ذكر أن رجلا زور على ختم أمير المؤمنين عمر وأخذ به من بيت المال، فلما علم ذلك عاقبه بالجلد وبالحبس وغرمه ذلك المال، وكذلك أيضا غرمه زيادة على ذلك مالا آخر مقابل تزويره.
وحكم العلماء أن من سرق من غير حرز فإنه يغرَّم بذلك المسروق مثله معه فإذا سرق ناقة من المرعى وباعها مثلا بمائة غرِّم مائتين، وكذلك لو وجد كيسا ملقى عند باب أهله وأخذه وقيمته مائة غرم مائتين لا قطع في ذلك لعدم الحرز، ولكن يغرم.
وهكذا أيضا قد يغرم بإتلاف ذلك المال عمر -رضي الله عنه- أمر بإحراق المنزل الذي احتجب فيه ذلك الأمير عن الرعية؛ لما أنه أمَّر أميرا على بلد وبنى قصرا ذكروا أنه أراد بذلك أن يحتجب عن الناس فأمرهم بأن يحرقوا القصر وما فيه، هذا أيضا من باب التعزير المالي، وإذا كان هناك شيء فيه مفسدة جاز إتلافه.
عثمان -رضي الله عنه- لما كتب هذه المصاحف المصحف الإمام أمر الناس أن يقتصروا عليها، كان هناك مصاحف فيها زيادات، وفيها تغيير كتبت من غير تثبت؛ فأمر بإتلافها حتى لا يختلط القرآن بما فيه شيء ليس منه أو نحو ذلك. وهكذا بقية ما سمعنا من هذه التعزيرات؛ فإن ذلك دليل على أنه يجوز التعزير بالمال تنكيلا لمن عمل هذا الذنب.
وكذلك أيضا ما يفعل في الكثير من الدول من تعزير بعض المخالفين للتعليمات تعزيرا ماليا حتى يرتدع عن مثل تلك المخالفات، فكل ذلك مما تقتضيه المصلحة.
وأما إتلاف الأموال وإحراقها فيظهر أن ذلك إفساد لماليتها، وأنه لا يجوز ولو كانت اكتسبت بمال محرم أو كسب محرم، وإن كان كثيرا من العلماء أجازوا إحراقها وإتلافها؛ فمثلا إذا عثر على امرأة تزني وقد جمعت من الزنا أموالا، هذه الأموال محرمة مهر البغي محرم فإذا جمعت مثلا عشرة آلاف أو مائة ألف، واشترت منزلا واشترت أطعمة وأمتعة وفرشا ولحفا وما أشبه ذلك، ثم عثر عليها فإنه تؤخذ تلك الأموال ولا تتلف؛ لأنه لا ذنب للمال، وإنما أخذها ومصادرتها هي العقوبة التي تلحق تلك الزانية مثلا.
وقد اختلف فيها؛ فمعلوم أنه لا يجوز أن ترد هذه الأموال على الزاني، إذا قالت: إن الذي زنا فلان، فلا يجوز أن نردها عليه ليزني بها مرة أخرى، والمرأة إذا أظهرت التوبة وندمت وأرادت التخلص من هذه الأموال، فليس لها أن تحرق الدراهم التي لا ذنب لها، ولا أن تحرق الطعام -التمر، البر وما أشبهه- فإنه طاهر في نفسه وإنما حرمته لأجل اكتسابه بوجه محرم، ولكن الوسيلة هي الصدقة به، أو إدخاله في بيت المال.
ولا بأس بأكله لمن تصدق به عليه، ولو كان مدخله عليها محرما، فأكلها له هو المحرم، وكذلك أيضا أعمالها إذا تصدقت لا تقبل منها كما يقول بعض الشعراء:
وكافلـة الأيتام من كـد فرجهـا
حنـانيك لا تزنـي ولا تتصدقـي
وهكذا إذا اكتسب إنسان أموالا من ثمن المخدرات أو من ثمن الخمور، وأراد التوبة فإن التوبة أن يتخلص منها، وأن يدخلها في بيت المال، أو يعطيها لمستحقيها من أهل الصدقات من الفقراء والمستضعفين ونحوهم، من باب التخلص.
وإذا عثر عليه فإنما يستحق العقوبة، إذا عثر على هذا المروج استحق العقوبة ولو أن تصادر أمواله، إذا كان يروج مخدرات أو يصنع مسكرات استحق أن يصادر ماله كله؛ عقوبة له، ويكون ذلك من العقوبة المالية أو من التعزير المالي.
وهكذا كل العصاة الذين يعملون معاصي، وتكون تلك المعاصي يحصلون منها على مال؛ كالربا المعاملات الربوية ، التخلص منها إخراجها من ملكية الإنسان، فلا يأكلها ولا يبقيها تركة له، بل يتخلص منها بإدخالها في بيت المال أو إعطائها للجمعيات الخيرية، أو ما أشبه ذلك هذا هو الذي يستحقه مثل هؤلاء الذين يعملون أعمالا محرمة، إن تابوا بأنفسهم قَبِل الله توبتهم بشرط التخلص من تلك الأموال التي أخذوها بغير حق، وإن عثر عليهم فإن للحكومة عقوبتهم بمصادرة تلك الأموال، وعقوبتهم أيضا بتعزيرهم بأموال أخرى، عقوبتهم بسجن أو بتأديب أو بجلد، أو ما أشبه ذلك فبذلك ينزجر العصاة ولا يعودون إلى تلك المعاصي.
-27-
<!-- / message -->
أقسام واجبات الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-
وأيضا فإن واجبات الشريعة التي هي حق الله ثلاثة أقسام:
عبادات: كالصلاة والزكاة والصيام. وعقوبات: إما مقدرة وإما مفوضة. وكفارات..
وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني ومالي، وإلى مركب منها؛ فالعبادات البدنية كالصلاة والصيام، والمالية كالزكاة، والمركبة كالحج والكفارات المالية كالإطعام، والبدنية كالصيام، والمركبة كالهدي بذبح، والعقوبات البدنية كالقتل والقطع، والمالية كإتلاف أوعية الخمر، والمركبة كجلد السارق من غير حرز، وتضعيف الغرامة عليه، وكقتل الكفار وأخذ أموالهم.
وكما أن العقوبات البدنية تارة تكون جزاءً على ما مضى؛ كقطع السارق، وتارة تكون دفعا عن المستقبل كقتل القاتل، وكذلك المالية فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر، وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف وإلى تغيير وإلى تمليك الغير.
فالأول المنكرات من الأعيان، والصفات يجوز إتلاف محلها تبعا لها مثل الأصنام المعبودة من دون الله، لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها إذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها.
وكذلك آلات الملاهي مثل الطنبور يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء، وهو مذهب مالك وأشهر الروايتين عن أحمد ومثل ذلك أوعية الخمر يجوز تكسيرها وتخريقها، والحانوت الذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه وقد نص أحمد على ذلك هو وغيره من المالكية وغيرهم واتبعوا ما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي وقال: إنما أنت فويسق لا رويشد.
وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أمر بتحريق قرية كان يباع فيه الخمر. رواه أبو عبيدة وغيره.
وذلك لأن مكان البيع مثل أوعية، وهذا أيضا على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما.
ومما يشبه ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث رأى رجلا قد شاب اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه، وهذا ثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل؛ ذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع.
وذلك بخلاف شوبه للشرب لأنه إذا خلط لم يعرف المشتري مقدار اللبن من الماء، فأتلفه عمر .
ونظيره ما أفتى به طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل بجواز إتلاف المغشوشات في الصناعات، مثل: الثياب التي نسجت نسجا رديئا أنه يجوز تمزيقها وتحريقها. ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب على ابن الزبير ثوبا من حرير مزقه عليه، وقال الزبير أفزعت الصبي. فقال: لا تكسوهم الحرير.
وكذلك تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كما يتلف من البدن المحل الذي قامت به المعصية، فتقطع يد السارق وتقطع رجل المحارب ويده.
وكذلك الذي قام به المنكر في إتلافه نهي عن العود إلى ذلك المنكر، وليس إتلاف ذلك واجبا على الإطلاق، بل إذا لم يكن في المحل مفسد جاز إبقاؤه أيضا إما لله وإما أن يتصدق به.
كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل أن الطعام المغشوش من الخبر والطبيخ والشراء كالخبز والطعام الذي لم ينضج، وكالطعام المغشوش وهو الذي خلط بالرديء، وأظهر للمشتري أنه جيد، ونحو ذلك يتصدق به على الفقراء، إن ذلك من إتلافه.
وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع فلأن يجوز التصديق بذلك بطريق الأولى؛ فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه.
وعمر أتلفه لأنه كان يغني الناس بالعطاء، فكان الفقراء عنده في المدينة إما قليلا وإما معدومين، ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به وكرهوا إتلافه.
ففي المدونة عن مالك بن أنس أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أدبا لصاحبه، وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم ورأى أن يتصدق به، وهل يتصدق باليسير فيه قولان للعلماء.
--------------------------------------------------------------------------------
مما يت*** بالعبادات، ذكر أن العبادات تنقسم إلى عبادات بدنية محضة كالصلاة؛ فإنها عبادة بدنية وكذا الصيام. وعبادات مالية كالزكاة عبادة مالية. وعبادات مركبة منهما كالحج والجهاد فإنه عبادة بدنية ومالية.
كذلك العقوبات؛ العقوبات: عقوبات بدنية، وعقوبات مالية؛ فالعقوبات البدنية كالجلد جلد الزاني وكذلك رجمه، وكذلك جلد القاذفوجلد شارب الخمر، وقطع السارق هذه عقوبات بدنية؛ لأنه يعاقب للزجر بآلام يتألم بها.
وكذلك أيضا العقوبات المالية التي هي مثل تمكين الذين يغشون في المبايعات ونحوها، فإنها يجوز عقوبات بأخذ تلك الأموال ومصادرتها، كل من غش في معاملة أو خادع الناس فإن عليه أو يستحق أن يعاقب فيفرض عليه عقوبة مالية قليلة أو كثيرة؛ ليحصل بها انزجاره، أو يصادر ذلك المال الذي غش فيه أو نحو ذلك.
والصحيح أن إتلافه لا يجوز، وما ذاك أن فيه إتلاف للمال المحترم، والمال ليس له ذنب، إنما الذنب لصاحبه، وما روي من الإراقة والإحراق ونحو ذلك فعل لأجل الانزجار ظاهرا.
ذكروا أنه إذا غل من الغنيمة -أخفى شيئا منها- أنه يحرق متاعه، يحرق رحله ومتاعه إلا المصحف وما فيه روح، ولكن إحراقه لا ينتفع به، الأولى أنه يصادر فيؤخذ رحله: نقوده وطعامه وفرشه وثيابه وأوانيه، ويتصدق بها، يوجد من يستحقها. فهذا يكون عقوبة له.
وكذلك أيضا من يعمل أعمالا سيئة يستحق أن يعاقب عقوبة مالية بأن يُضرب عليه ضريبة وتلك الضريبة تؤخذ ويتصدق بها وتصرف في وجوه الخير، وهكذا الأموال المحرمة ما ينبغي إتلافها إلا إذا كانت محرمة.
فإذا عثر على الخمور فلا بد من إراقتها ولكن هل تشقق الظروف التي هي فيها، ورد أنها شققت في العهد النبوي؛ جاءوا بالسكاكين فشققوا الظروف والدنان التي فيها الخمر حتى سالت في الأسواق.
وذهب بعضهم إلى أنها تراق من أوعيتها وينتفع بها؛ ينتفع بالأواني وتصادر على أهلها، ينتفع بها ببيعها والصدقة بثمنها وما أشبه ذلك.
وما ورد من الإتلاف يعتبر من باب الزجر؛ ففي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم في خيبر لما رأى الناس ذبحوا الحمير ونصبوا القدور قال: أهرقوها واكسروها من باب الزجر؛ يعني اكسروا القدور فقال قائل: أَوْ نهرقها ونغسلها قال: أَو ذاك. فعدل عن تكسيرها لأنه ينتفع بها إذا غسلت بعد ذلك اللحم النجس انتفع بها.
فكذلك إذا غسلت ظروف الخمر انتفع بها بيعت وتصدق بثمنها، ولا ترد على الخمارين لأنهم يستعينون بها لعمل خمر فيها مرة أخرى.
وكذلك إذا عثر على مال محرم، إذا عثر مثلا على زانية وقد جمعت من الزنا أموالا فإن تلك الأموال طاهرة في نفسها، ولكن مكسبها حرام عليها -على الزانية- فإذا وجد عندها فرش أو عندها دراهم أو أطعمة وأمتعة أو أكسية أو ممتلكات -كقصور أو نحوها- فلا يجوز أن تهدم البيوت، ويقال: إنها جاءت من ثمن حرام من الزنا، ولا أن تحرق الفرش؛ لأنها في نفسها منسوجة من نسيج طاهر، ولا تحرق الثياب، ولا تحرق الدراهم، ولا تحرق الأطعمة التمور والأرز والخبوز والدقيق ونحوه طاهرة، ولكن تصادر، تؤخذ منها ويقال هذا من كسب حرام عليك.
فإذا أدخلت في بيت المال طهرت، كما تؤخذ من أموال المشركين، وتدخل في بيت المال. المشركون يجمعون أموالا من مهر الزنا ومن ثمن الخمور، ومن قيمة الخنازير ومن الغصب ونحوه، وإذا غنمها المسلمون إذا غنموها في القتال طهرت؛ يعني أصبحت يعني حلالا للمسلمين يقتسمونها ويأكلونها حلالا؛ لأنهم غنموها يقول الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا .
وكذلك الأموال التي اكتسبت من كسب محرم؛ ثمن الخمور التي يعثر عليها في معامل الخمر، إذا وجد أن هؤلاء يعملون الخمر، إن استغني عن الأواني وحطمت وكسرت جاز ذلك، وإن وجد من ينتفع بها تصدق بها على من ينتفع بها، فيوجد عند الخمارين -يوجد عندهم- مثلا قدور يطبخون فيها، وكذلك ظروف يعبون فيها، يعبون في جيكات ويعبون في قدور وما أشبه ذلك، وهذه إذا غسلت طهرت وانتفع بها، فمصادرتها تكفي عقوبة عليهم، أنهم فقدوها، وأنهم عوقبوا بذلك.
وكذلك الأشياء المحرمة ولو كان تحريمها جزئيا يجوز إحراقها في بعض الأحوال، ولكن الأولى الانتفاع بها.
قصة عبد الله بن عمر رأى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين، والثياب المعصفرة من لباس النساء لا من لباس الرجال، فقال: أمك أمرتك بهذا -فعرف أنه أنكره- فقال: أغسلهما؟ قال: بل أحرقهما .
يعني من باب الزجر لا شك أنها إذا كانت تصلح للنساء فلا تحرق ولا تتلف، يكتفى بغسلها إن صلحت للرجال أو إعطاؤها للنساء فإنها مباحة لهم، وهكذا جميع الأشياء التي حصل عليها من كسب حرام إتلافها فيه إتلاف لماليتها وهي طاهرة في نفس الأمر.
فمن كان عنده مال حرام وتاب منه؛ من ثمن خمر أو من ثمن مخدرات أو من سرقة أو نهب أو أموال جحدها فإنه لا يتلفها، لا نقول: أحرق هذه الدراهم، ومزق هذه الثياب التي سرقتها، بل نقول: إن علمت أهلها ردها عليهم وإن لم تعلمهم فإنك تتصدق بها حتى تتخلص منها، من باب التخلص أعطها للفقراء وللمعوزين ونحوهم، وبذلك تتخلص منها حتى لا تحاسب بها في الآخرة، واجعل أجرها لمن أخذت منه.
وإذا كانت مأخوذة برضاه يعني كالرشوة، التي بذلها صاحبها راضيا وكالمعاملات الربوية التي تبذل بين متراضيين وصاحبها قد يكون انتفع بها، وكمهر البغي؛ إذا أعطى الزانية دراهم وزنا بها فلا يجوز أن ترد على أهلها.
فالزاني قد استوفى المنفعة فلا نردها عليه يزني بها مرة ثانية، ولكن تصرف في المصالح الخيرية.
وكذلك أيضا كذلك ثمن الخمر الذي شرب خمر لا نرد عليه دراهمه ليشرب بها خمر مرة أخرى أو دخان أو مخدرات أو نحوها، بل تصرف في المصالح الخيرية وفي وجوه البر.
وكذلك أيضا المرتشي، الراشي الذي دفع الرشوة حصل على مقصوده فلا ترد إليه دراهمه يدفعها كرشوة مرة أخرى؛ بل تصرف في الوجوه الخيرية ولا تحرق لأنه لا ذنب لها.
الدراهم طاهرة في نفسها وإنما خبثها من حيث المكتسب -من حيث اكتسابها- وكونه اكتسبها من جهة محرمة، فهذا ما ذكره فيما يت*** بإتلاف الأموال المحرمة وكيف يتخلص منها.
-28-
<!-- / message -->
بحث في: الأشياء المغشوشة وكيفية مصادرتها
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-
وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية، وقال: لا يُحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسًا، لكن الأول أشهر عنه.
وقد استحسن أن يُتصدق باللبن المغشوش في ذلك، وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه ونفع المساكين بإعطائهم إياه، ولا يهراق. قيل لمالك فالزعفران والمسك أتراه مثله، قال: ما أشبههم بذلك إذا كان هو غشه فهو كاللبن.
قال ابن القاسم هذا في الشيء الخفيف منه، فأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك، وعلى صاحبه العقوبة لأنه يذهب في ذلك أموالا عظام -يريد في الصدقة بكثيره-.
قال بعض الشيوخ: وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره، وخالفه ابن القاسم فلم يرَ أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا.
وذلك إذا كان هو الذي غشه، وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك.
وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان قال في الملاحف الرديئة النسج تحرق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق وقال تقطع خرقا وتعطى للمساكين، إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا، وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين.
فأنكر عليهم ابن القطان وقال: لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه.
قال القاضي أبو الأصبغ وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله؛ لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين وابن عتاب أضبط في أصله في ذلك وأتبع لقوله، وإذا لم يرَ ولي الأمر عقوبة الغاش في الصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش؛ إما بإزالة الغش وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره.
قال عبد الملك بن حبيب قلت لمطرف بن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب فما وجه الصواب عندكم فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قال: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما كثر من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب.
قال عبد الملك بن حبيب ولا يرده الإمام إليه، وليؤمن ببيعه عليه من يأمن أن يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر ويسلمه لصاحبه ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه، هكذا العمل فيما غش من التجارات.
قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم .
--------------------------------------------------------------------------------
نتكلم هنا على الأشياء المغشوشة وكيف تكون مصادرتها؛ وذلك لأن الغش بلا شك محرم قال النبي صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا لما مر على صاحب طعام كتمر أو بُر وقد نشره أدخل النبي صلى الله عليه وسلم يده فأصابت بللا؛ أي رطوبة فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء -يعني أصابه المطر- قال هلا جعلته أعلاه كي يراه الناس، من غش فليس مني .
بمعنى أنك غششت؛ حيث أنك أخفيت ذلك المتندي، الذي ترطب من ماء السماء، أخفيته وجعلته في داخل ذلك الطعام؛ يريد إذا جاءه من يشتري أخذ له من أسفل الطعام ذلك المبتل، وترك اليابس أعلاه.
يقول: واجب عليك أن تظهر هذا المبتل الذي ترطب بالماء، وأن تريه الناس الذين يشترون، فأما إخفاؤه فإن ذلك من الغش.
وكذلك أيضا يكون الغش في اللبن بأن يعرض اللبن وقد شابه بماء، فإذا جاء من يشتري ظنه لبنا خالصا، وإنما هو قد شِيبَ بماء؛ فيكون هذا أيضا من الغش.
ويكون أيضا في السمن إذا خلط سمن بقر بسمن الإبل أو سمن الغنم بسمن بقر، أو خلطه بسمن صناعي كزيت ذرة؛ يعني أو شيء من الزيوت التي هي صناعية خلطها بذلك السمن، وأوهم الذين يشترونه أنه كله سمن خالص، فإن هذا أيضا من الغش.
وكذلك الأقط إذا خلطه مثلا بدقيق -دقيق حنطة أو دقيق ذرة- أوهم الذين يشترونه أنه كله من أقط اللبن؛ فيعتبر هذا غشا.
وكذلك إذا غش في الزعفران أو الورس أو العصفر، وخلطه بما ليس منه يعتبر هذا من الغش.
وكذلك من الغش ما يقع فيه كثير من الناس في هذه الأزمنة الغش في اللحوم أن يخلطوا السمين بالهزيل، أو يظهروا ما هو لحم ويخفوا العصب والعظام، حتى إذا رأى المشتري ذلك اللحم الأحمر ظن أنه كله مثله، فيكون هذا من الغش.
وكذلك الخبوز قد تغش أيضا ذلك بأن يخلط مع دقيق البر دقيق ذرة أو دقيق شعير أو ما أشبه ذلك، ويوهم أنه كله من البر فيكون غشا.
وكذلك الغش في الأكسية قد يخلطون عند النسيج القطن الجيد بقطن رديء؛ بحيث أنه يكون سريع البلى وسريع التمزق، فيكون هذا من الغش.
الباعة الآن يغشون غشا كثيرا؛ فتجد مثلا الذي يبيع القهوة بالميزان يجعل في أعلى الزنبيل شيئا من الجيد -من النوع الجيد- وفي أسفله الرديء إذا جاء المشتري أخذ له من أسفل حتى يبيعه من ذلك الرديء، وهو يرى أن ظاهره جيد.
وكذلك الهيل يجعلون في أعلاه شيئا جيدا وفي أسفله رديئا، يعتبر هذا من الغش. وكذلك الفواكه الرطب إذا بيع وهو رطب قد يجعلون أسفله رديئا أو خائسا متغيرا، ويكونون يريدون بذلك أن يتوهم أنه كله من الرطب الطيب.
وهكذا الفواكه والخضار؛ كالطماطم والباذنجان وما أشبهها، والفواكه والتفاح والليمون والموز وما أشبه ذلك من هذه الفواكه.
نقول: إن مثل هؤلاء إذا وقع منهم الغش فإنهم يستحقون أن عاقبوا، كيف يعاقبون؟ أجاز بعض العلماء مصادرة تلك الأشياء التي وقع فيها هذا الغش، فإذا صودرت فكيف يفعل بها؟ يجيز بعضهم إحراقها، ولكن الصحيح أن الأموال محترمة لا يجوز إحراقها؛ لأنه لا ذنب لها، وإنما عقوبة صاحبها الذي غش تفويتها عليه؛ أن تصادر وتؤخذ منه، وحينئذ إذا كان ينتفع بها فإنه يتصدق بها على المساكين، ويجوز بيعها بعد الإعلام للمشتري أنها مغشوشة بمثمنها الذي تناسبه، وتُدخل قيمتها في المصالح الخيرية؛ في المبرات الخيرية وما أشبهها.
وأما إذا كانت لا ينتفع بها كالخاوية الفاسدة من الفواكه التي أكلها يورث ضررا ومرضا؛ فهذه الصحيح أنها تتلف ولا يمكن صاحبها أن يبيعها، ولو وجد هناك من الفقراء وضعاف النفوس من قد يأخذونها ويلتقطونها.
كما يشاهد أنهم يتتبعونها في أماكن الإلقاء مع النفايات ونحوها؛ فيلتقطون الطماطم الخاوي والبطيخ الخاوي، ويأخذونه؛ إما أنهم يأكلونه على تلك الحال، أو أنهم يطعمونه دوابا أو ما أشبه ذلك.
صحيح أنه قد ينتفع به وقد تأكله المواشي، ويكون غذاء لها ولا تتضرر، ولكن عقوبة صاحبه تفويته عليه، تفويت ماليته عليه حتى لا يعود إلى هذا الغش.
وكذلك يرتدع أيضا أمثاله فلا يعودون إلى استعمال هذا الغش في مثل هذه المعاملات.
وإذا كان مما ينتفع به فلا يجوز إتلافه؛ فاللبن ولو شيب بماء لا يقال إنها ذهبت ماليته، يشربونه وهو مشوب بماء، ويكون غذاء ويكون علاجا ويكون رواء وشرابا ينفع.
وكذلك المغشوش من الخبز أو من السمن أو من الأقط يمكن أن ينتفع به ولا تذهب ماليته، ولا يقال: إنه ضار بمن استعمله؛ بل بقيت فيه مالية وفيه منفعة، فلا يجوز إتلافه.
وكذلك اللحوم إذا أدخلوا فيها شيئا ليس منها واعتبر هذا غشا، فلا نقول: إنها ذهبت ماليتها وأنه يجب إحراقها أو إلقاؤها مع القمامات؛ فإنها لا تزال محترمة، ويوجد من هم بحاجة إليها من الفقراء والمساكين والمستضعفين، فإذا صودرت فإنه يتصدق بها، وإن كان لها قيمة جاز بيعها وبعد بيعها يتصدق بثمنها، أو يجعل ثمنها في المشاريع الخيرية، ولا يجوز إتلافها ولا إحراقها.
ويفعل كذلك بالأموال المحرمة إذا صودرت؛ إذا وجد مثلا امرأة تجمع المال من الحرام؛ أي ممن يزني بها وجمعت مالا فهذا المال حرام عليها، ولكن ليس حراما في نفسه، بل يصرف في المصالح النافعة.
فإذا وجد في بيتها فرش وسرر وأكسية وأحذية وأواني وأطعمة وأشربة ولحوم وفواكه، وعرف أنها اشترتها من الحرام أو أنه بذل لها مقابل أن يفعل بها، فهذه الأموال لا يقال: إنها نجسة، بل هي طاهرة، وإنما نجاستها وحرمتها على من اكتسبها بذلك الكسب الحرام، فيكون حراما عليها وحلا لغيرها، لا يعاد إلى الزناة الذين زنوا؛ يجمع لهم بين العوض والمعوض ولا يترك لهذه الزانية، ولكن يصرف في المصارف الصالحة التي تنفع الإسلام وتنفع المسلمين.
فكذلك هذه الأموال التي هي مغشوشة سواء كانت من الأكسية أو من الأطعمة أيا كانت أو من الأدم أو من الأدوية أو ما أشبه ذلك، فإذا تُحقق أنها مغشوشة فلا يجوز إبقاؤها عند أهلها، بل تصادر منهم.
فرق بعض العلماء كما سمعنا بين الكثير والقليل؛ إذا كانت كثيرة، إذا كان عنده مثلا أعداد كثيرة من القرب عسلا؛ يعني تبلغ عشر قرب عسل، ولكنه مغشوش؛ مغشوش بدبس أو بسكر أو ما أشبه ذلك.
فلو صودر منه لأفلس ولافتقر، قد يكون جمع كل رأس ماله في هذا العسل، فالصحيح أنه لا يصادر هذا منه كله، ولكن يعزر بأخذ بعضه، فيؤخذ منه قربة أو قربتان؛ تباع ويتصدق بثمنها على المستضعفين.
فأما أن يؤخذ منه عشر قرب، قد تكون القربة قيمتها عشرة آلاف أي نحو مائة ألف، فإن في ذلك ضررا عليه وتعريضا له إلى الإفلاس.
وهكذا لو كثر السمن لو وجد عنده مثلا عشرة ظروف للسمن وفيها غش؛ يعني خلط لها بما ليس منها، أو كذلك عشرة أكياس أو عشرين كيسا من الأقط مغشوشة فإن مصادرتها كلها تعريض للضرر به، فلا يصادر إلا بعضه ولكن ينبه يؤكد أنها مع مغشوشة؛ عند البيع لا يبيعها كما يبيع السليمة، لا يبيعها كما يبيع الصحيحة التي ليس فيها غش، بل يخبر من يشتري بأن فيها من الغش مقدار كذا وكذا، حتى يكون المشتري على بصيرة.
وأما إذا اشتراها وهي كذلك؛ يعني إنسان وجد هذه الأكياس من الأقط أو الظروف من السمن أو من العسل، واشتراها وإذا هي مغشوشة؛ والبائع إما أن يكون هرب وإما أن يكون اختفى؛ ففي هذه الحال هذا المشتري بذل فيها ثمنا فلا يصادر منها شيء؛ لأنه ما صدر منه شيء من الغش، وإنما ينبه الناس على ما فيها، ويبيعها بيع المغشوش لا يبيعها بيع السليم الصحيح ولو خسر؛ لأنها لا تساوي ما يساويه الصحيح، يقال: أنت تسرعت حيث اشتريتها من مغشوش، ووقعت فيما وقعت فيه عن عجلة، والأولى لك أن تتثبت، والآن لا تبعها كما يباع السليم ولا نصادرها عليك.
هناك أيضا كثير من المصادرات غير المغشوشة؛ كالتهريب الذين يهربون بعض السلع ويدخلونها بغير ترخيص يستحقون العقوبة؛ إما بمصادرتها إن كانت قليلة لا تسبب إفلاسهم، وإما بتنكيلهم بشيء من المال؛ تغريمهم يعني زيادة على ما يؤخذ منهم من الرسوم، يزاد عليهم مقابل تهريبهم، وقد يجوز مصادرتها إذا كانت لا تؤدي إلى إفلاس من استوردها.
نعرف من هذا أن الشرع جاء بوجوب النصح للمسلمين وأن المسلم عليه أن ينصح لإخوانه المسلمين وأنه لا يجوز له أن يبيع شيئا مغشوشا، بل عليه أن يبين ما فيه من الغش وما فيه من المرض، إذا جاء مثلا بشاة يبيعها وهي مريضة فلا بد أن يخبر بمرضها.
وكذلك إذا جاء بأداة من الأدوات فاسدةً كسيارة أو ماكينة أو ثلاجة أو نحو ذلك وفيها خراب، فلا يجوز له أن يبيعها كما يباع السليم، بل عليه أن ينبه على ما فيها من الخراب والفساد حتى يدخل المشتري على بصيرة، فلا يكون بذلك داخلا في الحديث من غش فليس مني .
بل يكون ناصحا للمسلمين مبينا لهم ما يجب أن يعرفوه، ورد فيه حديث: لا يحل لمسلم أن يبيع عيبا حتى يبينه يعني: إذا كان هناك عيب فلا بد أن يبينه ويظهره للمشتري ليشتري على بصيرة.
هذا ما يت*** بهذا الغش وأمثلته كثيرة كما معروف، فيتجنبه المسلم حتى يكون ناصحا لإخوانه المسلمين.
-29-
<!-- / message -->
لعقوبات المالية
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال -رحمه الله تعالى-
فصل: وأما التغيير فمثل ما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس فإذا كانت الدراهم أو الدنانير جائزة فيها بأس كسرت.
ومثل تغيير الصورة المجسمة وغير المجسمة إذا لم تكن موطوءة؛ مثل ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فقال إني أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل عليك البيت إلا أنه كان في البيت تمثال رجل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت ***، فأمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، وأمر بالستر يقطع فيجعل في وسادتين منتبذتين توطآن، وأمر بال*** يخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا ال*** جرو كان للحسن والحسين تحت نضيد لهم .
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
وكل ما كان من العين أو التأليف المحرم فإزالته وتغييره متفق عليها بين المسلمين؛ مثل إراقة خمر المسلم، وتفكيك آلات الملاهي، وتغيير الصور المصورة، وإنما تنازعوا في جواز إتلاف محلها تبعا للحال، والصواب جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد وغيرهما، والصواب أن كل مسكر من الطعام والشراب فهو حرام. ويدخل في ذلك التبغ والمزر والحشيشة القنبية وغير ذلك.
وأما التمليك فمثل ما روى أبو داود وغيره من أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيمن سرق من الثمر الم*** قبل أن يؤويه إلى الجرين- أن عليه جلدات النكال وغرمه مرتين، وفيمن سرق من الماشية قبل أن تأوي إلى المراح أن عليه جلدات النكال وغرمه مرتين.
وكذلك قضى عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أن يضعف غرمها. وبذلك كله قال طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره.
وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع فأضعف الغرم على سيدهم ودرأ عنه القطع.
وأضعف عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمدا أنه تضعف عليه الدية؛ لأن دية الذمي نصف دية المسلم وأخذ بذلك أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- .
--------------------------------------------------------------------------------
هذه من العقوبات المالية لمن فعل جرما أو ذنبا يستحق أن يعاقب بعقوبة مالية تزجره وينزجر أمثاله، وقد يضاف إلى هذه العقوبة المالية عقوبة بدنية.
فـ فمن العقوبات المالية إتلاف المحرمات على أهلها ؛ إذا اقتنوا شيئا من المحرمات التي يحرم اقتناؤها فإن إتلافها عقوبة لهم، ولو اشتروها بأموال طائلة، فإنها لما كان محرما اقتناؤها والعمل بها لم يكن لها قيمة، ولم يكن لها حرمة فتتلف على أهلها.
فيدخل في ذلك الخمور؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أتلفها على أهلها لما حرمت، وأتلف أيضا أوانيها وظروفها؛ حيث جاء ومعه بعض الصحابة معهم السكاكين فمزقوا تلك الظروف حتى سالت الخمر التي فيها؛ وذلك لأنها أصبحت لا قيمة بها.
ويلحق بها أيضا إتلاف المخدرات التي هي أيضا من جملة المحرمات، مثل: الحبوب المخدرة، فإنها ضارة وفيها آفات وفيها شرور، فإذا عثر عليها فإنها تتلف، ولو كان قد بذل فيها أموالا كثيرة، ولو كان هناك من يشتريها بأموال طائلة، لا قيمة لها.
وكذلك أيضا ما يسمى بالحشيش، الحشيشة وهي نبات يأكلون أوراقه يحدث لهم أمراضا، وفيه أيضا خسارة ولو كان لذيذا عندهم فإنه محرم وضار.
وذكر شيخ الإسلام يقول: إن مثل الخمر كالأبوال، ومثل الحشيشة كالعذرة؛ يعني تقبيحا له وتبشيعا لهذه الحشيشة التي يستحسنها هؤلاء الذين انتكست فطرهم، نعوذ بالله، إذا عثر عليها فإنها تتلف وتذهب ماليتها على أهلها.
ومثل ذلك أيضا هذا التتن الذي هو دخان التبغ لما كان ضارا ولا فائدة فيه، وإنما فيه خسارة كان إتلافه هدرا إذا استولي عليه يتلف ويحرق، ولو أن أهله اشتروه بأموال طائلة؛ فإنه لا قيمة له، وأنه محرم ضار ليس فيه فائدة أصلا، وإنما فيه مضار وفيه الخسران المبين.
ذكر لنا بعض مشائخنا لما فتحت مكة في عهد الملك عبد العزيز -رحمه الله- نوب جماعة من المشائخ من العلماء أن يطهروا مكة عن ما فيها من المحرمات، فطلبوا منه أن يعطيهم الصلاحية فأعطاهم الصلاحية.
فكانوا يدخلون على المستودعات وفيها مخازن التنباك فيخرجونه ويحرقونه في الأسواق، وكذلك ما يجدونه من الحشيشة ونحوها يحرقونه والناس ينظرون، ويعاقبون من يشربه؛ من وجدوه يشرب الدخان جلدوه أربعين جلدة، جلدوه أمام الناظرين؛ لأنه يتعاطى شيئا محرما ضارا غير مفيد أصلا، فإتلافه إهدار لماليته، وعقوبة من يتعاطاه زجر لأمثاله، زجر له وزجر لمن يتعاطاه من الذين يشربونه أو يقعون فيه.
كذلك أيضا ما يعرف بالقات الذي هو شجر ينبت في بعض البلاد الجبلية، ثم يؤخذ ورقه ثم يأكله بعض الناس بعد أن يبذلوا فيه أموالا طائلة، يشترونه بأموالهم ولا فائدة فيه؛ بل فيه مضرة فرائحته كريهة وطعمه كريه، ولو استحلوا طعمه فإنهم ليسوا عبرة.
فإن هناك من يستحلي ما هو مر؛ كبعض الدواب التي تستحلي الحنضل.
فعرف بذلك أن هذه المحرمات لا قيمة لها، وأنه إذا عثر عليها فإن العقوبة إتلافها على أهلها.
وكذلك أيضا الصور المنصوبة يجب أيضا إتلافها ولا غرامة على من أتلفها؛ وذلك لأنها -كما سمعنا- تمنع دخول الملائكة، إذا كانت صورا كاملة مصورة مرسومة، لها الرأس والوجه والفم والأنف والجبين والخد والذقن والعنق ونحو ذلك.
في هذه القصة أنه كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ستر ستارة على نافذة من النوافذ، وفي تلك الستارة تمثال -تمثال إنسان- وأن الملك جبريل لم يدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوجود ذلك التمثال، ولوجود *** فيه، والملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة ولا فيه ***، فجبريل أمر أن يُطمس رأس ذلك التمثال حتى يكون كهيئة الشجرة، إذا طمس رأسه بقيت الجثة ليس فيها حركة، والغالب أنها لم يكن لها قوائم فيكون كهيئة شجرة.
وأمر بذلك القرام الذي فيه هذه الصور أن يشقق وأن يجعل منه وسائد؛ يعني مخدات أو مساند يجلس عليها وتمتهن وتكون منبوذة؛ وذلك بعدما تشقق، والتشقيق يأتي على الصورة فيطمسها ويشقها ولا يبقى لها جرم، فجعل ذلك إتلافا لها.
فإذا عثر على هذه على هذه الصور فإنها تتلف ولا قيمة لها، ولا غرامة على من أتلفها، ولو كان أهلها اشتروها أو بذلوا فيها مالا؛ لأن ذلك اقتناء لفعل محرم.
ثم لا شك أيضا أن العقوبة أو الإتلاف يأتي على ما يشابه ذلك؛ في هذه الأزمنة توجد آلات اللهو؛ فالأفلام الخليعة لا قيمة لها تتلف إلا إذا كان ينتفع بها فيسجل عليها شيء له فائدة، وكذلك أشرطة الكاسيت إذا كانت أغاني وملاهي من أتلفها فلا غرامة عليه، وإن كانت يستفاد منها بأن يسجل عليها محاضرات أو تذكير أو نحو ذلك صودرت على أهلها ولا يعطون لها قيمة؛ لأنه لا قيمة لها إذا كانت كذلك؛ أي فيها هذه الأغاني.
يلحق بذلك جميع آلات الملاهي؛ فالعود الذي يلهى به إذا أتلف فلا قيمة له، وكذلك الرباب لا قيمة لها إذا أتلفت، وكذلك الطبول لا قيمة لها إذا أتلفت ولا غرامة على من أتلفها، وكذلك الشطرنج وما أشبهه من آلات الملاهي فمن أتلفها فلا غرامة عليه إذا كان قصده من إتلافها الغيرة، أنه أراد بإتلافها أنها محرمة.
ومثلها أيضا هذه الأجهزة التي هي الطباق التي في ظهور بعض البيوت؛ الدشوش التي تتلقى الأشياء المحرمة؛ تبث الصور الفاتنة والصور المحرمة فينتج من آثار اقتنائها وقوع في الفواحش وفي المنكرات وما أشبه ذلك، هي أيضا من الآلات المحرمة. هذا في إتلافها.
ذكروا أيضا عقوبة من يتعاطاها، وأنه قد لا يقتصر على الإتلاف، بل يعاقب بجلدات؛ أن يجلد جلدات تزجره وتزجر أمثاله سواء كانت له أو لغيره؛ فمثلا الذين يستعيرون هذه الصور وهذه الأفلام للفرجة وللنظر أو يستأجرونها، لا شك أنهم يعتبرون عصاة، فقد لا ينزجرون إذا أتلفت، لأنها ملك لغيرهم، ولكن يعاقبون بالجلد، يجلدون جلدات ينزجر بها أمثالهم، ويرتدعون عن تعاطي هذه المحرمات، هذه من العقوبات.
وذلك لأن ترك هذه المحرمات تتفشى سبب لفشو المعاصي؛ فإن الأغاني فتنة يكون من آثارها فساد العباد والبلاد، يكون من آثارها فشو المعاصي فشو الزنا وارتكاب الفواحش، وما أشبه ذلك كما هو الواقع؛ كالذين يشاهدون تلك الصور التي تتلقى بواسطة القنوات الفضائية التي تبث هذه الشرور، فإذا أتلفها إنسان لو رماها مثلا فتلف هذا الطبق فلا قيمة له، وقد يعاقب من يقتنيه يعني حتى يرتدع عن اقتنائه.
فالحاصل أن ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- من عقوبات هذه المعاصي وإتلافها قياسا على إتلاف الصور المحرمة وما أشبهها هو القول الذي يؤيده الدليل؛ لأنه من تغيير المنكر.
ذكر أيضا بعد ذلك التغريم لمن فعل على ذنبا، ويسمى أيضا التنكيل، هذا التنكيل تغريم أموال، عقوبات مالية يغرمها الإمام أو وكيله لأهل المخالفات؛ فمثلا السرقة من غير حرز لا قطع فيها ولكن فيها التغريم، لو جاء إنسان إلى أكياس في الأسواق، جاء في الليل وليست في حرز فأخذ منها كيسا وذهب به، ثم عثر عليه فعقوبته التغريم؛ أنه يرد ذلك الكيس ومثله معه عقوبة مالية.
وكذلك لو جاء إلى البُر بعد حصاده وهو في الجرين الذي يجمع فيه حتى يصفى، فأخذ منه صاعا أو آصعا بغير إذن أهله؛ لأن أهله قد ينامون في الليل ولا يحرسونه، إذا عثر عليه فإنه يغرم بأن يرد ما أخذ ومثله معه أو أكثر منه إذا رئي ذلك زاجرا. هذا من العقوبات المالية.
كذلك المخالفات النظامية أيضا يغرم أصحابها بهذه المخالفات؛ وذلك لأن تعاليم البلاد التي ينظمون بها بلادهم، ويسببون بها تماسك البلاد وعدم الفوضى فيها، انتظام هذه النظم مما يأمن للبلاد استقرارها وأمنها ورخاءها، لا شك أن هناك من يخالف هذه التنظيمات وما أشبهها، فيجوز للإمام معاقبة هؤلاء الذين يخالفون تلك التعليمات التي فيها مصلحة وأمن للبلاد والعباد، وإبعاد للضرر عن المواطنين، إبعاد للضرر الذي يلحق بقية المواطنين ونحوهم.
ولو كانوا قد يقولون: إننا نتصرف في أموالنا كما نشاء، فالجواب: أن هذا التصرف إذا كان فيها ضرر فإنه ممنوع؛ فمثلا إذا حدد بيع سلع أية سلع، ثم جاء من نقص من ذلك السعر، وقال: الناس يبيعون بعشرة وأنا أبيع بخمسة، سواء كان يربح أو لا يربح، لا شك أنه يضر بالآخرين؛ حيث إن الناس ينصرفون إليه مثلا ويتضرر الآخرون الذين تكسد سلعهم، فيجوز معاقبته؛ حيث أنه كسر سعر الأسواق.
ومثل ذلك أيضا المخالفات الأخرى؛ فإذا منع مثلا توريد بعض السلع -فجاء بها من- وردها تهريبا استحق أن يعاقب وأن يغرم.
وكذلك أيضا إذا منع بيع بعض الأشياء الضارة أو الفاسدة؛ كالفواكه والخضار التي هي فاسدة، وأكلها يحدث أمراضا، فجاء من يبيعها ويغش بها يستحق أيضا أن يغرم وأن يعاقب؛ لأنه قد يوقع الذين يأكلونها في أمراض، وقد يقعون في غش بحيث يعتقدونها صالحة وهي ليست صالحة.
وهكذا لو أدخل مع الحلال حراما ولبّس فيه؛ كما لو خلط لحم مذكاة بلحم ميتة، وباعها وهو يعلم أن هذه ميتة فعثر عليه فإنه يغرم ويعاقب.
وهكذا من يتعاطى أنواعا من أنواع الغش الذي فيه ضرر بالمتعاملين يستحق أن يغرم وأن يعاقب بما ينزجر به.
ونعرف بذلك أن الشريعة جاءت لمصالح العباد وأن كل ما فيه مصلحة العباد والبلاد فإن الشرع يهدف إليه، ولو لم يكن عليه آية أو حديث منصوص، لكنه يدخل في القواعد العامة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار .
وكقوله صلى الله عليه وسلم: من ضار مسلما ضاره الله ومن شاق مسلما شق الله عليه وأشباه ذلك من القواعد.
فينتبه لمثل هؤلاء ويرفع بأمرهم حتى لا يعم ضررهم وللكلام صلة يأتي في الدروس الآتية إن شاء الله . نستمع إلى الأسئلة.
الأسئـلة
س: هل يجوز تكسير أشرطة الأغاني المحرمة والموجودة في سيارات بعض الأقارب دون علمهم، أو رمي هذه الأشرطة من السيارة وذلك عندما أستعيرها من أحدهم ؟
إذا كانت أغاني ماجنة فإنه يجوز إتلافها إذا قدرت عليها، ولم يترتب على ذلك ضرر؛ أما إذا خشيت من قطيعة ومن ضرب ومن تنكيل أو شكايات أو مرافعات فإن الشرور تدرأ بما يستطاع .
-30-
فصل: في ك
ساحة النقاش