بحث في: تدخّل ولاة الأمور في المصالح العامة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-
وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك فيستعمل بأجرة المثل، لا يمكّن المستعملون من ظلمهم ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة إليهم، فهذا تسعير في الأعمال.
وأما في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون، والإمام لو عيّن أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا استنفرتم فانفروا أخرجاه في الصحيحين . وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال: على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه .
فإذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج عليه الجهاد بعوض المثل؟ والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن، وقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم أخرجاه في الصحيحين .
فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن، ومن أوجب على المغصوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه، فأوجب الحج على المستطيع بماله، فقوله ظاهر التناقض؛ ومن ذلك إذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا من يبيع طحينا ولا خبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم، فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير، وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون .
وقال: لا يحتكر إلا خاطئ رواه مسلم في صحيحه . وما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن قفيز الطحان فحديث ضعيف، بل باطل، فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز، لعدم حاجتهم إلى ذلك، كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارًا، لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد.
ولهذا لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة، لعجز الصحابة عن فلاحتها؛ لأن ذلك يحتاج إلى سُكْنَاها، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا نحو ألف وأربعمائة، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر فهؤلاء هم الذين قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم أرض خيبر فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: نقركم فيها ما شئنا - وفي رواية - ما أقركم الله وأمر بإجلائهم منها عند موته -صلى الله عليه وسلم- فقال: أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه.
والمقصود هنا أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين:
أحدهما: أن يحتاجوا إلى صناعتهم، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت، فهؤلاء يستحقون الأجرة، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع.
الثاني: أن يحتاجوا إلى من يخبزها ويبيعها خبزًا، لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة الناس المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاءوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررًا عظيمًا، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين، كما يجب على كل من اشترى شيئًا يقصد أن يبيعه بربح، سواء عمل فيه عملًا أو لم يعمل، وسواء اشترى طعامًا أو ثيابًا أو حيوانًا، وسواء كان مسافرًا ينقل ذلك من بلد إلى بلد، أو كان متربصًا به يحبسه إلى وقت النفاق، أو كان مدبرًا يبيع دائمًا ويشتري كأهل الحوانيت، فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجار، وإذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم، أو دخلوا طوعًا فيما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه، فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة، فلا يبيعوا الحنطة والدقيق إلا بثمن المثل؛ بحيث يربحون الربح بالمعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس.
--------------------------------------------------------------------------------
يتكلم شيخ الإسلام -رحمه الله- على تدخل الولاة في المصالح العامة؛ وذلك لأن ولاة الأمور ينظرون في مصالح الرعية، فيما يجلب لهم الراحة، وفيما يؤمِّنَهم وفيما يزيل عنهم الأضرار، ولو كان ذلك يت*** بالأمور الدنيوية، وهو الغالب أن سياسة ولاة الأمور تت*** بالمصالح الدنيوية التي يحصل بها راحة المواطنين، ويحصل بها زوال المشقة والضرر عليهم.
فإذا مثلا بدت الحاجة إلى صناعة أسلحة فلا بد أن يلزم الوالي الصناع بصناعتها، وأن يلزمهم ببيعها بثمن المثل؛ إذا مثلا احتيج إلى الجهاد سواء تعين أصبح فرض عين أو لم يتعين، وإنما هو فرض كفاية على الأمة، ولكن لا بد من أن يقام به.
ثم احتاج المجاهدون إلى الأسلحة، من أين يأخذون الأسلحة؟!! إذا كان الأعداء يصنعون الأسلحة لأنفسهم فإنهم سيتقوون على المؤمنين على المسلمين؛ فلا بد أن المسلمين يتعلمون صناعة الأسلحة التي يردون بها عدوان من اعتدى عليهم. الأسلحة قديما كانت بالسيوف وهي أكثر ما يستعملونه في القتال السيف المعروف، والذين يصنعونه هم الحدادون المعروفون.
وكذلك بالرماح الذي هو محدد رأسه يطعن به يطعنون به العدو أو يقذفونه به، وكذلك يرمون بالنشاب. ما ظهر عندهم إلا الرمي بالسهام، والسهم الذي هو عود محدد رأسه، والقوس الذي يجعل أو يركب فيه السهم ثم يقذف ويرمى به، السهم من خشب من أعواد وكذلك القوس، هذا هو أسلحتهم التي يتعاملون بها.
فيقول: لو احتاج الناس إلى صناعة أسلحة يقاتلون بها العدو وجب على الأئمة والخلفاء أن يلزموا الصناع بصناعتها؛ فيأمرهم بأن يصنعوا ما يقاتل به المسلمون عدوهم، وإذا صنعوها فلا يجوز لهم أن يدّخروها أو يحتكروها أو يخزنوها، بل عليهم أن يبيعوها ولا يخزنوها، وإذا باعوها فعليهم أن يبيعوها بثمن المثل أي: لا يغالون فيها، يأخذون مصلحتهم يحصلون على ربحهم أو على مقابل صنعتهم وما يكفيهم، ولا يضرون المسلمين برفع القيمة عليهم، فهذا في صناعة الأسلحة المعتادة يصنعها الحدادون أو النجارون ونحوهم.
وهكذا يقال أيضا في هذه الأزمنة أن المسلمين بحاجة إلى أن يتعلموا الصناعة للأسلحة الجديدة التي يقاتل بها في هذه الأزمنة؛ أيا كانت كبيرة أو ثقيلة أو خفيفة أو صغيرة، أن عليهم أن يتعلموها، يلزم الأئمة من يتعلم صناعتها وتركيبها وكيفية الرمي بها وكيفية استعمالها، وإذا صنعوها عليهم أيضا أن يبيعوها بحسب ما يكفيهم؛ أي لا يغالوا في الثمن فيضرون المواطنين، بل يأخذون قدر كفايتهم وقدر أجرة مثلهم، يمنعون أن يبيعوها بثمن كثير يضر المشترين.
هذا هو الأصل في وظيفة الأئمة والخلفاء ونحوهم؛ أنهم يلزمون الناس أن يعملوا ما يحتاجه الناس في كل زمان، ولا شك أن هذه الأزمنة التعلم يحتاج إلى زمان؛ تعلم هذه الصناعات سواء كانت من الأسلحة ولو الأسلحة الكبيرة؛ فالبندقيات والرشاشات وما أشبهها، وكالمدافع ومثل القنابل والقاذفات وما أشبهها إذا توقف الجهاد عليها ولم يغن الجهاد بالسيف ولا بالرمح ونحوه فإنه لا بد أن يتعلمها المسلمون حتى لا يتحكم فيهم الأعداء.
في عهد خلفاء بني أمية لما أنَّ ملك الروم خالف المسلمين واعتدى على بعض البلاد التي كانوا قد افتتحوها وغزاهم المسلمون وطردوهم منها، كان المسلمون في ذلك الزمان لا يتعاملون إلا بالدراهم والدنانير التي يعملها الروم هم الذين يصنعون الدرهم والدينار، فتوعدهم ذلك الرومي بأن يكتب على الدينار سب الإسلام، يقول: إذا فعلتم ذلك فإننا سوف نكتب على الدنانير مسبة دينكم، فلما أنه توعدهم بذلك وكان لا بد من الجهاد، عند ذلك أمر خليفة المسلمين وهو عبد الملك بن مروان أن يصنع المسلمون عملة يستغنون بها عن عملة وصناعة الروم، وأن يكتبوا عليها كتابة إسلامية درهم إسلامي ودينار إسلامي، فاستغنوا بذلك ولم يتعرض بعد ذلك الرومي لسب الإسلام في دراهمهم أو دنانيرهم.
فيقال هكذا أيضا عندما تمس الحاجة إلى صناعة ليتقى بها العدو أو كيده، فلا بد أن ولاة الأمور يرسلون من يتعلم أو يأتون بالأدوات التي يحصل بها تعلم صناعة هذه المصنوعات حتى يستغنى عن الكفار وعن الصناعات التي يصنعونها والتي يكيدون بها المسلمين، هذا يعتبر مثالا من الأمثلة التي تجب على الأئمة ويلزمهم أن يعملوها مقابل عمل المسلمين وما يحتاجون إليه.
ذكر بعد ذلك أمثلة أخرى، فيقول مثلا: إذا احتاج الناس مثلا إلى الطحن، الناس ضرورا مضطرون إلى طحن الدقيق البر فلا بد أن يكون هناك من يطحن، فإذا احتاجوا إلى الخبز فلا بد أن يكون هناك من يخبز، فيلزم الولاة طائفة من الناس يقولون لهم: اعملوا كذا حتى تكفوا حاجة الناس.
في العهد النبوي لم يكونوا بحاجة إلى شيء من ذلك، بل كان أهل كل بيت يطحنون ما يحتاجونه من الدقيق بواسطة الرحا التي يديرونها ويطحنون بها الدقيق ونحوه، وكذلك أيضا يخبزون في منازلهم كل أهل بيت يصلحون الخبز في منازلهم ما يكفيهم، ولم يكن هناك حاجة إلى خبازين يبيعون للناس أو يخبزون لهم، ولكن نحن نشاهد أننا في هذا الزمان بحاجة إلى من يتعلم ذلك، فلو ترك الناس مثلا تعلم الخبز أو تعلم الطحن؛ يتضرر المواطنون، فيلزم الإمام أن يُلزم طائفة من الناس أن يتعلموا هذا الشيء وإذا ألزمهم فيلزمهم أن يبيعوا بثمن المثل ولا يضروا الناس لا يضروهم؛ بمعنى أنهم يرفعون عليهم القِيَم بحيث تضرهم ضررا ظاهرا، بل يقتصرون على ما فيه تخفيف للحاجة حاجة المواطنين.
.. فهذا ونحوه وظائف أو واجب الأئمة.
يدخل في ذلك جميع الحاجات التي يحتاج إليها المواطنون، فإن على الأئمة أن يلزموا من يقوم بها، وكذلك أن لا يضروا الناس برفع السلع، برفع سلعهم بحيث يتضرر المشترون ويزاد عليهم في قدرها، وأما ما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- لما ارتفع السعر قالوا: سعر لنا يا رسول الله قال: إن الله هو المسعر القابض الباسط فإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بشيء يعني بمظلمة؛ فهذا فيما إذا كان ارتفاع السعر بسبب قلته فليس لأحد أن يتصرف فيه، ولا أن يملك بيعه برخص، بخلاف ما إذا كان ارتفاعه بسبب إمساك العاملين أو الجالبين ونحوهم فإنه يتدخل، فإذا كانوا مثلا الذين يعملون الخياطة مثلا اتفقوا فيما بينهم على أن يرفعوا السعر فوق المعتاد؛ فلا بد من التدخل بإلزامهم بخفض السعر، وكذلك الذين يجلبون الأشياء التي يحتاجها الناس عامة، إذا تفقوا على أننا لا نبيع إلا بالثمن الغالي وجب على الأئمة أن يأخذوا على أيديهم، وأن يأمروهم بالبيع بالثمن المعتاد الذي ينفعهم ولا يضر المواطنين.
-18-
بحث في: عمل الحسبة في التسعير
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- قد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين: إحداهما: إذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك فإنه يمنع منه في السوق في مذهب مالك وهل يمنع النقصان؟ على قولين لهم. وأما الشافعي -رحمه الله تعالى- وأصحاب أحمد كأبي حفص العكبري والقاضي أبي يعلى والشريف أبي جعفر وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم فمنعوا من ذلك.
واحتج مالك بما رواه في موطئه عن يونس بن يوسف عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا.
وأجاب الشافعي وموافقوه بما رواه فقال: حدثنا الدراوردي عن داود بن صالح النمار عن القاسم بن محمد عن عمر أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرها؟ فسعّر له مُدَّين لكل درهم، فقال له عمر قد حدِّثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبًا وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت.
فلما رجع عمر -رضي الله عنه- حاسب نفسه، ثم أتى حاطبًا في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، قال الشافعي وهذا الحديث مقتضاه ليس بخلاف ما رواه مالك ولكنه روى بعض الحديث أو رواه عنه من رواه، وهذا أتى بأول الحديث وآخره، وبه أقول؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم وهذا ليس منها.
قلت: وعلى قول مالك قال أبو الوليد الباجي الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به هو السعر الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمروا باللحاق بسعر الجمهور، لأن المراعى حال الجمهور، وبه تقوم المبيعات، وروى ابن القاسم عن مالك لا يقام الناس لخمسة. قال: وعندي أنه يجب أن ينظر في ذلك إلى قدر الأسواق، وهل يقام من زاد في السوق أي: في قدر المبيع، بالدرهم مثلًا كما يقام من نقص منه؟ قال أبو الحسن بن القصار المالكي اختلف أصحابنا في قول مالك ولكن من حط سعرًا فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية.
وقال قوم من المصريين: أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة. قال: وعندي أن الأمرين جميعًا ممنوعان؛ لأن من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة أفسد على أهل السوق بيعهم، فربما أدى إلى الشغب والخصومة، ففي منع الجميع مصلحة. قال أبو الوليد ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق.
وأما الجالب ففي كتاب محمد لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون الناس. وقال ابن حبيب ما عدا القمح والشعير إلا بسعر الناس وإلا رفعوا، قال: وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، إن أرخص بعضهم تركوا، وإن كثر المرخص قيل لمن بقي: إما أن تبيعوا كبيعهم وإما أن ترفعوا.
قال ابن حبيب وهذا في المكيل والموزون: مأكولًا أو غير مأكول، دون ما لا يكال ولا يوزن، لأن غيره لا يمكن تسعيره، لعدم التماثل فيه. قال أبو الوليد يريد إذا كان المكيل والموزون متساويًا، فإذا اختلف لم يؤمر بائع الجيد أن يبيعه بسعر الدون.
--------------------------------------------------------------------------------
يتكلم -رحمه الله- عن التسعير؛ وهو أن يحدد الإمام أو وكيله للناس سعرا في الأسواق، لا يبيعون بأرخص منه فيتضرر أصحاب السلع المجلوبة، ولا بأغلى منه فيتضرر المستهلكون الذين يرغبون الشراء؛ بل يحدد لهم سعر هذا هو ما يسمى بالتسعير.
وقد وردنا حديث في النهي عنه: أنه غلا السعر في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله سعّر لنا قال: إن الله هو المسعر القابض الباسط وإني لأرجو أن أخرج من الدنيا وليس أحد يطلبني بشيء ومعنى ذلك أنه إذا تدخل في أهل السلع وفرض عليهم سعرا فقد يكون في هذا ضرر, ضرر على المستهلك إذا كان رفيعا، وضرر على البائع إذا كان قد اشترى غاليا وألزم بأن يبيع رخيصا.
ولكن رأى العلماء أن هناك مصلحة تقتضي التدخل في ذلك، ورووا هذه الآثار عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وغيره من الصحابة الذين رأوا هذا الفعل الذي هو تحديد سعر لسلعة أو للسلع ونحوها، وبالأخص السلع التي يحتاج إليها الناس كثيرا وهي الأغذية والأكسية وما أشبهها، فإنها من الضروريات في هذه الحياة والأكثرون الذين يستهلكونها قد يكونون من ذوي الحاجات ومن الفقراء، وهي لا بد من الحصول عليها لا بد من شرائها لأجل التغذي بها.
فقد يكون في وقت من الأوقات الباعة أهل جشع وأهل طمع شديد فيتفقوا على أن يرفعوا السعر، فيتضرر المشتري الذي يريد الاستهلاك، أو يتفقوا على أن يخفضوا من السعر فيتضرر أهل الإنتاج الذين يجلبونها والذين يتعبون في استخراجها وإنتاجها، فيكون عليهم ضرر فيحصل بعد ذلك كساد في هذه السلع، وعدم اهتمام بإنتاجها فيما بعد.
فمثال ذلك في هذه الأزمنة: أنه يحدث أن كثيرا من أهل الإنتاج؛ إما أهل المصانع وإما أهل المزارع وما أشبهها إذا جلبوا إلى الأسواق؛ يتفق أهل الأسواق على أنكم لا ترفعوا السعر، وأنكم لا تشتروا إلا بسعر كذا وكذا، فإذا جلبت هذه المنتجات ثم لم يرتفع سعرها ولم ترد قيمة تعبها ولا نصفه ولا ربعه، وحصل على أهل المزارع وأهل الإنتاج خسارة فادحة كان ذلك سببا لعدم اهتمامهم بذلك في الأزمنة المتقدمة؛ كتقليلهم من هذا الإنتاج مما يسبب ارتفاع السعر على المستهلكين في السنوات المقبلة؛ فيحصل بذلك ضرر، يحصل ضرر أولا على أهل الإنتاج بكسادها في تلك السنة، ثم لا يهتمون بإنتاجها في السنة القابلة فيرتفع السعر جدا فيتضرر الذين ينتجونها، وهذا واقع.
كذلك أيضا الاتفاق على رفع الأسعار؛ يحدث أيضا أن كثيرا من الباعة يشترونها رخيصة، ثم بعدما يملكونها يتفقون فيما بينهم على رفع قيمتها، حتى إذا طلبها المستهلك لم يجدها إلا عند أناس قد تحجروها واختصوا بها فلا يجدها إلا بثمن مرتفع بسعر رفيع مما يتضرر به؛ حيث يبذل فيها مع كونها ضرورية ثمنا كثيرا، لا شك أيضا أن هذا ضرر.
فلا مانع من أن يتدخل الحاكم أو ولي الأمر أو وكيله في تحديد هذه السلعة سواء المجلوبة أو المطلوبة، استثنوا من ذلك ما اشتهر من النهي عن بيع حاضر لباد، وقالوا: ورد الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وأبطلوا هذا الفعل إذا اجتمع فيه خمس صفات:
الصفة الأولى: كون الجالب قادما لبيع سلعه سواء كانت قوتا أو حيوانا أو فواكه أو نحو ذلك جاء لبيعها، أما إذا جاء ليخزنها أو ليستعملها فإنه لا يدخل في النهي.
الشرط الثاني: عزمه على بيعها بسعر يومها الذي تساويه، أما إذا لم يجزم ببيعها في ذلك اليوم بل سوف يتأنى بها ويصبر عليها مدة؛ يعني يومين أو ثلاثة حتى يبيعها على مهل ففي هذه الحال لا يدخل في النهي.
الشرط الثالث: أن يقصده صاحب البلد يأتي إليه ويقول: أنا أعلم منك فأعطني لأبيعها لك وأتولى بيعها؛ فأني أعرف منك، أما إذا جاء هو إلى صاحب البلد ووكله على البيع فإنه لا يدخل في النهي.
والشرط الرابع: إذا كان الجالب جاهلا بالأسعار لا يدري ما تساوي فإنه -والحال هذه- هو الذي ينهى عن البيع له، وأما إذا كان عالما بالأسعار وعارفا بقيم السلع فإنه لا يدخل في الحكم؛ لأن أهل البلد لا يزيدونه على ما عنده من العلم.
أما الشرط الخامس: فهو كون الناس في حاجة إليها، إذا تحجرها إنسان أضر بهم، وإذا باعها صاحبها اشتركوا في شرائها، وحصل بذلك ربح وتوسعة على أهل البلد الذين يأخذونها أو يشترونها للاستهلاك كغذاء أو كسوة أو شيء مما هو من ضرورياتهم في هذه الحياة.
وكل ذلك دليل على أن الشرع نهى عن الضرر على الجانبين؛ الضرر على البائع والضرر على المشتري، فأما إذا جلبها الجالب وهو عارف بالسعر فالواجب على أهل البلد أن لا يكون الذي يشتريه واحدا، كونهم يتفقون على أنه لا يشتريه إلا فلان حتى يبيعها برخص، ويبيع خضاره أو فواكهه أو إنتاجه رخيصة إذا لم يأت إليه إلا شخص واحد، هذا ضرر، بل عليهم أن يتركوا الناس يشترون حوائجهم، فيزيد هذا ويزيد هذا إلى أن تصل إلى سعر يناسب المنتج الذي تعب في إنتاجه، وينتفع بالثمن الذي حصل له.
وهناك أيضا في بعض الدول ما يسمى بحماية الإنتاج؛ وهو منع الاستيراد من البلاد الأخرى إذا كان الإنتاج في الداخل فيه كفاية للبلد وللمواطنين، فإنه لا مانع من أن يُمنع الاستيراد؛ حتى يتصرف أهل الإنتاج، فينتجون ما يكفيهم وما يسد حاجة البلد وما يغنيهم أو يسد حاجتهم، ولا يتضررون برخص ولا بإفساد ولا بكساد.
هكذا يعمل كثير من الدول يمنعون إذا كان هناك استيراد يمنعونه حتى يتعزز أهل الإنتاج الوطني لا مانع أيضا من ذلك، ولكن إذا كان الذين ينتجون يبيعون بما يناسبهم وبما ينفع أهل البلد؛ لا يتحجرون ذلك ولا يرفعون السلع ولا يضرون أهل البلد المستهلكين، ولا يخزنونه حتى يرتفع سعره ثم يبيعونه بثمن مرتفع، فأما إذا باعوا كما يناسبهم فمن المناسب أن يمنع الإيراد ولا يمنع التصدير؛ إذا كانوا بحاجة إذا اكتفت البلد وكان في إنتاجها كفاية لها وزيادة أن يصدره إلى البلاد التي تحتاجه.
وبكل حال هذا دليل على أن الشرع جاء بمصالح المواطنين المسلمين حتى في أمورهم الدنيوية؛ يعني فيما يت*** بحاجاتهم وببيعهم وشرائهم وما أشبه ذلك جاء بمراعاة مصالحهم، ورفع أو دفع الضرر الذي يضر أهل البلد سواء التجار أو المواطنون والمستهلكون، لا يجوز لهؤلاء أن يضروا هؤلاء فلا يجوز للمستوطنين وللمواطنين أن يستوردوا من الخارج ما تكسد به السلع التي في البلد، ولا يجوز لأهل البلد أو المنتجين أن يرفعوا السعر حتى يضروا بأهل البلد لا ضرر ولا ضرار .
هذا هو السبب في تدخل الدول فيما يسمى بالتسعير، وتحديد البيع لمن يبيع ومنع أهل الجشع من الزيادة الضارة، وكذلك منع الذين ينزلون في الأسعار ويرخصونها رخصا زائدا؛ لئلا يضروا بالآخرين، بل يكون السعر موحدا متوسطا.
والعمل على هذا حتى في الأمور الكمالية وفي الأمور التي ليست من الضروريات مثل المصنوعات؛ الصناعات التي تصنع بالداخل أو في الخارج وتستورد يجوز أيضا تحديد الأرباح فيها، وكذلك الفرش والأكسية والأواني وما أشبه ذلك، كل هذه الكماليات ومع ذلك الناس بحاجة إليها، فإذا تملكها أشخاص ورفعوا سعرها أضروا بالمستهلكين، وإذا تنافس كثير منهم وأرخصوا السعر كثيرا تضرر التجار وتضرر المستوردون فلا ضرر ولا ضرار. والله أعلم.
-19-
<!-- / message -->
عمل الحسبة في التسعير ( تابع )
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- قلت والمسألة الثانية التي تنازع فيها العلماء في التسعير: ألا يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه مع قيام الناس بالواجب، فهذا منع منه جمهور العلماء حتى مالك نفسه في المشهور عنه، ونقل المنع أيضًا عن ابن عمر وسالم والقاسم بن محمد وذكر أبو الوليد عن سعيد بن المسيب وربيعة بن أبي عبد الرحمن وعن يحيى بن سعيد أنهم أرخصوا فيه، ولم يذكر ألفاظهم.
وروى أشهب عن مالك وصاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل، وإلا خرجوا من السوق. قال: إذا سعّر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق. واحتج أصحاب هذا القول بأن هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم، والإفساد عليهم، قالوا: ولا يجبر الناس على البيع، إنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري، ولا يمنع البائع ربحًا ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس.
وأما الجمهور فاحتجوا بما تقدم من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد رواه أيضًا أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسول الله! سعّر لنا، فقال: بل أدعو الله . ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر لنا! فقال: بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة قالوا: ولأن إجبار الناس على بيع لا يجب أو منعهم مما يباح شرعًا ظلم لهم والظلم حرام.
وأما صفة ذلك عند من جوزه، فقال ابن حبيب ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل السوق ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهارًا على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا، ولا يجبرون على التسعير، ولكن عن رضا. قال: وعلى هذا أجازه من أجازه.
قال أبو الوليد ووجه ذلك أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعّر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس. قلت: فهذا الذي تنازع فيه العلماء.
وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ويعاقبون على تركه، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع أن يبيع إلا بأكثر منه: فهنا يؤمر بما يجب عليه ويعاقب على تركه بلا ريب.
ومن منع التسعير مطلقًا محتجًّا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال فقد غلط، فإن هذه قضية معينة ليست لفظًا عامًّا، وليس فيها أن أحدًا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل.
ومعلوم أن الشيء إذا رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم، والمدينة كما ذكرنا إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالبًا من الجلب، وقد يباع فيها شيء يزرع فيها، وإنما كان يزرع فيها الشعير، فلم يكن البائعون ولا المشترون ناسًا معينين، ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو إلى ماله؛ ليجبر على عمل أو على بيع، بل المسلمون كلهم من جنس واحد، كلهم يجاهد في سبيل الله، ولم يكن من المسلمين البالغين القادرين على الجهاد إلا من يخرج في الغزو، وكل منهم يغزو بنفسه وماله، أو بما يعطاه من الصدقات أو الفيء، أو ما يجهزه به غيره، وكان إكراه البائعين على أن لا يبيعوا سلعهم إلا بثمن معين إكراهًا بغير حق، وإذا لم يكن يجوز إكراههم على أصل البيع فإكراههم على تقدير الثمن كذلك لا يجوز.
وأما من تعين عليه أن يبيع فكالذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قدر له الثمن الذي يبيع به ويسعر عليه، كما في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من أعتق شركًا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ولا وكس ولا شطط، فأعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد فهذا لما وجب عليه أن يملك شريكه عتق نصيبه الذي لم يعتقه ليكمل الحرية في العبد قدر عوضه؛ بأن يقوَّم جميع العبد قيمة عدل لا وكس ولا شطط، ويعطى قسطه من القيمة.
فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند جماهير العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد ولهذا قال هؤلاء، كل ما لا يمكن قسمه فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك، ويجبر الممتنع على البيع، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعًا؛ لأن حق الشريك في نصف القيمة كما دل عليه هذا الحديث الصحيح، ولا يمكن إعطاؤه ذلك إلا ببيع الجميع.
فإذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل لحاجة الشريك إلى إعتاق ذلك، وليس للمالك المطالبة بالزيادة على نصف القيمة فكيف بمن كانت حاجته أعظم من الحاجة إلى إعتاق ذلك النصيب؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام واللباس وغير ذلك. وهذا الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من تقويم الجميع بقيمة المثل هو حقيقة التسعير.
وكذلك يجوز للشريك أن ينتزع النصف المشفوع من يد المشتري بمثل الثمن الذي اشتراه به، لا بزيادة، للتخلص من ضرر المشاركة والمقاسمة، وهذا ثابت بالسنة المستفيضة وإجماع العلماء، وهذا إلزام له بأن يعطيه ذلك الثمن لا بزيادة، لأجل تحصيل مصلحة التكميل لواحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك ولم يكن له أن يبيعه للشريك بما شاء؟ بل ليس له أن يطلب من الشريك زيادة على الثمن الذي حصل له به، وهذا في الحقيقة من نوع التولية.
-20-
<!-- / message -->
حث الشريعة على العدل بين العباد في المعاملات ورفع الضرر عنهم
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد ذكروا أن لولاة الأمور والسلاطين والملوك التصرف في البلاد بما هو الأصلح والتدخل في شئون العباد بما فيه مصلحة ومنفعة، والمنع لمن أراد الإضرار بالمسلمين في أموالهم وفي أبدانهم ونحو ذلك؛ فمن ذلك ما سمعنا فيما يت*** بتحديد الأسعار للذين يبيعون هل يجوز لولاة الأمور أن يحددوا للناس أسعارا ويقولون: لا تبيعوا بأكثر من ذلك أو لا تبيعوا بأقل، والظاهر أنه يجوز إذا خيف ضرر.
إذا كان هناك ضرر يخاف على المواطنين منه؛ سواء رخص أو غلاء فإن كلا منهما ضرر، فمثلا ما يت*** بالرخص قد يضر كثيرا من الناس، فإن الباعة الذين يشترون السلع ثم يفرقونها قد يضرون الجالبين ويخسرونهم خسرانا شديدا، يشاهد أو يحكى أنهم إذا قدم الذي جلب ماشية يتفقون على أنه لا يشتريها إلا فلان، ثم بعد ذلك نقتسمها نحن ونتصرف فيها، وكذلك الذي يجلب فاكهة أو خضرة أو نوعا من أنواع الخضر المجلوبة لا يجوز أنهم يتفقون على ألا يشتريها إلا فلان أو لا يسومها إلا واحد، فإن ذلك ضرر على ذلك الذي جلبها؛ فقد يكون تعب في جلبها، وكذلك الذي أنتجها صاحب المزارع ونحوها قد ينفق نفقات طائلة على أرضه حرثا وزرعا وسقيا، فإذا جلب نتاجها وثمرتها ولقي من أولئك الذي يشترون أنهم توافقوا بينهم على أن لا يزيد فيها إلا فلان، أو على أنها إذا وصلت إلى كذا وكذا فتوقفوا حتى تكون رخيصة لكم وحتى تربحوا فيها على المستهلكين وتبيعوهم بأضعاف الثمن، فيشترونها مثلا بمائة ثم يبيعونها بألف أو نحو ذلك.
لا شك أن للدولة أن يتدخلوا في ذلك فيمنعوهم لما في ذلك من الضرر، ولو كان ذلك سببا في قلة قيمتها سببا في رخصها، ولكن في ذلك ضرر على المنتجين الذين تعبوا في الإنتاج وأنفقوا نفقات؛ مما يسبب أنهم لا يعودون لمثلها، بل يعدلون إلى صنعة غيرها يكون فيها ربح لهم أو ما يرد نفقاتهم، فهذا يجوز التدخل فيه.
كذلك بالنسبة إلى البيع أيضا قد يحصل اتفاق الباعة الذين يستوردون السلع على أن يحددوا الثمن بأكثر، فإذا جلبوا السلع وحصلت لهم واشتروها مثلا بعشرة، فيتفقون فيما بينهم جميع الباعة على أن لا تبيعوها إلا بثلاثين أو بخمسين أو بمائة، فيتضرر الذين يشترونها من الأفراد الذين لا حاجة لأحدهم إلا في سلعة واحدة كثوب مثلا أو عمامة أو حذاء أو ما أشبه ذلك، فإذا وقع مثل هذا فإن الحكومة لها أن تحدد الأرباح التي تكفيهم حتى لا يضروا المواطنين ونحوهم.
يشْكل على ذلك الحديث الذي فيه: أن السعر غلا ارتفع مرة بالمدينة فجاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: سعر لنا؛ أي تدخل وحدد للناس أن لا يبيعوا إلا بكذا ولا يرفعوا السعر فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط وإني أرجو أن أخرج من الدنيا وليس أحد يطالبني بمظلمة بمعنى أن ارتفاع السعر في هذه الحال ليس هو لجشع الباعة ولا لجشع التجار ولا لتصرفهم، ولكن سببه قلة الوارد، كأنه قل ورود الأطعمة كالبر والشعير والذرة والتمر ونحوه ولما كثر الذين يشترونه عند ذلك ارتفع سعره بسبب قلة الوارد فأرادوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتدخل ويأمر الناس بألا يبيعوا إلا بكذا ولا يزيدوا أن يكون الصاع مثلا بدرهم أو بدرهمين.
فارتفاع الأسعار كما في هذه الأزمنة ليس هو دائما بسبب جشع وتصرف الباعة، وإنما يكون بقلة الوارد أو بأسباب من الأسباب التي يحصل بسبها ارتفاع السعر كقلة الإنتاج أو رخص الدراهم وقلة قيمتها أو ما أشبه ذلك، ولا بد أن يكون في مثل هذا المرجع إلى ما عليه الناس؛ فأما إذا عُرف بأن التجار الذين يختصون بإيراد هذه السلع يخاف أنهم يرفعون الأسعار فإن على الحكومات أن تحدد لهم ربحا معينا يكفيهم حتى لا يتضرروا وكذلك لا يتضرر المستهلكون الذين يشترون لأنفسهم.
يقع أن كثيرا من التجار يهتبلون غفلة الناس الذين لا يعرفون السلع فيضاعفون عليهم الثمن، وأما الذين يعرفونها فيبيعون عليهم بالسعر المعتاد، يأتيهم إنسان يعرف قيمة الثوب أو قيمة الحذاء فيشتريها مثلا بعشرين وآخر جاهل بالقيمة فيشتريها بثلاثين أو نحوها، فيكون هذا البائع الذي زاد على ذلك الجاهل ظالما له.
ولو قال إنه باختياره وإنني ما ظلمته ولكن عرضت عليه فقبل، فالجواب أن عليك أن تبيع كما يبيع الناس وأن لا تزيد على الجاهل أكثر من العالم.
من الأدلة على جواز التحديد الحديث الذي ساقه المؤلف -رحمه الله- وهو ما في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من باع شقصا له من عبد قوم عليه قيمة عدل أعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق صورة ذلك إذا كان عبد مملوك بين أربعة لكل واحد ربعه أعتق أحدهم ربعه نلزمه بأن يشتري سهام شركائه كيف يشتريها؟ نعرض العبد على أهل المعرفة، فيقال: يا أهل المعرفة كم يساوي هذا العبد؟ لا تظلموا المشتري ولا تظلموا البائع فيحددون القيمة فإذا حددت القيمة دفعها لشركائه، إذا كان قادرا وصار العبد حرا؛ لأن كونه حرا بعضه ورقيقا بعضه يضره ذلك، فهو يريد أن يكون كله حرا؛ فكونه يقول: قوِّم عليه قيمة عدل، من الذي يقومه؟ يُقَوِّمُه أهل المعرفة أهل الخبرة وأهل المعرفة هم الذين يحددون قيمته، ولا شك أن هذا دليل على جواز تحديد قيم السلع وأشباه ذلك مما يتدخل فيه ولاة الأمر.
فالحاصل أنه لا يجوز ظلم البائع ولا ظلم المشتري؛ فظلم البائع كونهم يتفقون على ألا يشتروه إلا بنصف الثمن أو بربع الثمن يضره، وظلم المشتري كونهم يتفقون على ألا يبيعوه إلا بمثل الثمن مرتين أو ثلاثا يضره ذلك. فلا ضرر ولا ضرار.
إذا تدخلت الولاة، وجعلوا للناس حدا لا يتجاوزنه ولا يضرون به هذا وهذا فإن ذلك لهم، والله أعلم.
-21-
<!-- / message -->
بحث في: العادات التي تعمل على إحياء الأنفس وإنقاذها ووجوب العمل بها
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين قال -رحمه الله تعالى- إن التولية: أن يعطي المشتري السلعة لغيره بمثل الثمن الذي اشتراها به، وهذا أبلغ من البيع بثمن المثل، ومع هذا فلا يجبر المشتري على أن يبيعه لأجنبي غير الشريك إلا بما شاء، إذ لا حاجة بذاك إلى شرائه كحاجة الشريك.
فأما إذا قدر أن قومًا اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكانًا يأوون إليه إلا ذلك البيت، فعليه أن يسكنهم، وكذا لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثيابًا يستدفئون بها من البرد، أو إلى آلات يطبخون بها، أو يبنون أو يسقون، يبذل هذا مجانًا، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلوا يستقون به أو قدرًا يطبخون فيها، أو فأسًا يحفرون به، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟ فيه قولان للعلماء؛ في مذهب أحمد وغيره، والصحيح وجوب بذل ذلك مجانًا إذا كان صاحبها مستغنيًا عن تلك المنفعة وعوضها، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ وفي السنن عن ابن مسعود قال: كنا نعد (الماعون) عارية الدلو والقدر والفأس.
وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لما ذكر الخيل قال: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها تغنيًّا وتعففًا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من حق الإبل إعارة دلوها وإضراب فحلها .
وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن عسيب الفحل وفي الصحيحين عنه أنه قال: لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره وإيجاب بذل هذه المنفعة مذهب أحمد وغيره.
ولو احتاج إلى إجراء ماء في أرض غيره من غير ضرر بصاحب الأرض، فهل يجبر؟ على قولين للعلماء: هما روايتان عن أحمد والأخبار بذلك مأثورة عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال للممتنع: والله لنجرينها ولو على بطنك، ومذهب غير واحد من الصحابة والتابعين: أن زكاة الحلي عاريته، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره.
--------------------------------------------------------------------------------
هذا الكلام يت*** بحاجة المحتاج الذي احتاج، إذا احتاج واضطر إلى شيء وهو موجود عند آخر، فإن عليه بذله؛ إما مجانا إذا استغنى عنه وإما بأجرة المثل أو بثمن المثل؛ وذلك لأنه يوجد كثير من المضطرين ضرورة شديدة؛ بحيث أنه لو لم يبذل لهم لحصل عليهم ضرر؛ مرض أو موت أو جهد أو جوع شديد.
فإذا وجد في البلد إنسان عريان لم يجد ما يستر به عورته، وعند آخر كساء زائد عن حاجته وجب على صاحب الكساء أن يبذله لهذا العريان؛ إما مجانا وإما بأجرة المثل، وإما بثمن المثل ولم يجز له منعه.
وكذلك لو اضطر أناس في شدة جوع إلى طعام، مع إنسان نوع من الطعام زائد عن حاجته لو كانوا في سفر واضطروا إلى هذا الطعام لو لم يعطهم لماتوا، يلزمه أن يبذله لهم؛ أن يبذله لهم لينقذ أنفسا حتى لا يهلكوا، ولهم أن يعطوه ثمنه إذا وصلوا إلى البلد، وهكذا كل من احتاج إلى شيء إلى سلعة وهي موجودة مع آخر وجب عليه أن يبذلها، ذكر بعض العلماء أنه يبذلها مجانا، ولعل الأقرب أنه يبذلها بثمن المثل ولا يجوز له زيادة.
المضطر ضرورة شديدة لا يجوز أن يُشَدّد عليه يقول: هذا يشتريها ولو بمثل ثمنها خمس مرات سأزيد في ثمنها ولا أبالي حرام عليه والحال هذه؛ إذا لم يبذلها مجانا فعليه أن يبذلها بثمن المثل، فسر بذلك الماعون في قوله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ وذكرت الأمثلة في تفسير الماعون؛ منها أنه القِدْر يطبخ فيه، إذا احتاج إنسان إلى قِدْر يطبخ فيه ليلة وهو زائد عندك فتمنعه فإن ذلك من منع الماعون، هذا مضطر.
وكذلك فسر بأنه الدلو الذي يُستقَى به من البئر، إنسان واقف على بئر يكاد أن يموت عطشا، ولا يجد ما يغترف به الماء وأنت عندك دلو أفتتركه يموت عطشا، أعطه الدلو ليستقي بها أو ليسقي بها دوابه، وكذلك بقية الأدوات.
ذكر في بعض الطرق في هذه الأزمنة أناس سلكوا طريقا على سيارة، ثم في أثناء الطريق كانوا في سيارتهم، وفي أثناء الطريق حصل أن أحد العجلات انضرب وقفوا في هذه البرية، مع السيارة الأخرى عجلة زائدة؛ cover زائد، فشحوا، قالوا: إذا أعطيناكم هذا نخشى أننا نتعطل نحن فكادوا أن يقتتلوا عليه، إذا لم تعطونا فإننا سنهلك، معنا عدد أنفس، فأخذوه بشبه قوة، وقالوا: نعطيكم ثمنه، ثم ساروا قليلا حتى وصلوا إلى بعض القرى التي يوجد فيها وأعطوهم ثمنه أو اشتروا لهم بدله.
لو تركوهم والحال هذه في برِّيةٍ؛ متى يجدهم من يسعفهم أو ينقذهم؟ لا شك أن بذل هذه الحاجات من إحياء الأنفس؛ فلذلك يجب على من رأى إنسانا مضطرا أن يسعى في إنقاذه.
يوجد أن كثيرا من أهل النفوس الضعيفة وأهل الطمع أنهم يبالغون في زيادة الثمن، إذا رأوا مضطرا إلى شراء سلعة ضاعفوا عليه الثمن، وقالوا: سوف يشتري هذا ولو قلنا بمئات أو بأضعاف الثمن، لا شك أن هذا ظلم وأن على من رأى مضطرا أن يسعى في تخفيف الآلام التي عليه وفي إنقاذه، نحن لا نقول تصدق عليه إلزاما، بل نقول: أن أنقذه بما تستطيع، أعطه ما تنقذه به من الحاجات من الموت إلى الحياة.
وكذلك الدواب لو رأيت دابة تكاد أن تموت عطشا ومعك ماء زائد أو معك دلو وأنت على بئر، فإن من الرحمة أن تنقذها وأن تسقيها، كما ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أنه غفر لبغي سقت ***ا، رأته يكاد يموت عطشا فسقته، نزعت موقها ونزلت البئر وأخرجت فيه ماء وسقته. هذا دليل على أن إنقاذ الحيوانات من الهلاك أن فيه أجر حتى قال -صلى الله عليه وسلم- في كل كبد رطبة أجر .
ويقال كذلك أيضا: إذا رأينا أناسا من المسلمين مضطرين رأيناهم في ضرورة إلى إنقاذهم، كما يحصل الآن في كثير من البلاد الإسلامية التي ضيق عليها الأعداء وشددوا عليها الخناق وبطشوا بهم ونكلوا بالمسلمين؛ إذا كنا وكان المسلمون في البلاد الإسلامية يقدرون على تخفيف الآلام عنهم وإنقاذهم من الشر وإنقاذهم من الموت ونصرهم على عدوهم، فإن ذلك من إحياء الأنفس والله تعالى يقول: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا .
فهذا ونحوه دليل على أن الله تعالى رغب عباده في أن يتعاونوا وأن يساعدوا إخوانهم عند الحاجة الضرورية، وأن يسعوا في إنقاذ المضطر ويبذلوا ما في وسعهم من التخفيف عليه وألا يمنعوه شيئا ينفعه ولا يضرهم، وأن يكونوا متعاونين على الخير متعاونين على البر والتقوى كما أمرهم الله تعالى، سمعنا بعض الأدلة على ذلك وهي ظاهرة لا تحتاج إلى تفسير.
-22-
<!-- / message -->
بحث في: المنافع التي تبذل للمحتاج وأنواعها
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
والمنافع التي يجب بذلها نوعان: منه ما هو حق المال، كما ذكر في الخيل والإبل وعارية الحلي، ومنه ما يجب لحاجة الناس.
وأيضًا فإن بذل منافع البدن يجب عند الحاجة كما يجب تعليم العلم، وإفتاء الناس، وأداء الشهادة، والحكم بينهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وغير ذلك من منافع الأبدان، فلا يمنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج، وقد قال الله تعالى: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وقال سبحانه: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ .
وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال، هي أربعة أوجه في مذهب أحمد وغيره.
أحدها: أنه لا يجوز مطلقًا.
والثاني: لا يجوز إلا عند الحاجة.
والثالث: يجوز إلا أن يتعين عليه.
والرابع: يجوز. فإن أخذ أجرًا عند العمل لم يأخذ عند الأداء.
وهذه المسائل لبسطها مواضع أخرى. والمقصود هنا أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر، إما بثمن المثل، وإما بالثمن الذي اشتراه به: لم يحرّم مطلقًا تقدير الثمن، ثم إن ما قدر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية، وذلك حق الله، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله، ولهذا يجعل العلماء هذه حقوقًا لله تعالى، وحدودًا لله بخلاف حقوق الآدميين وحدودهم، وذلك مثل حقوق المساجد ومال الفيء، والصدقات والوقف على أهل الحاجات والمنافع العامة ونحو ذلك، ومثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر، فإن الذي يقتل شخصًا لأجل المال يقتل حتمًا باتفاق العلماء، وليس لورثة المقتول العفو عنه، بخلاف من يقتل شخصًا لغرض خاص، مثل خصومه بينهما، فإن هذا الحق لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفو باتفاق المسلمين.
وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة: ليس الحق فيها لواحد بعينه، وتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره بتقدير الحرية، لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء. وهنا عموم الناس عليهم شراء الطعام والثياب لأنفسهم، فلو مكن من ذلك مَنْ يُحْتَاج إلى سلعته أن لا يبيع إلا بما شاء لكان ضرر الناس أعظم.
ولهذا قال الفقهاء: إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير كان عليه بذله له بثمن المثل، فيجب الفرق بين من عليه أن يبيع وبين من ليس عليه أن يبيع، وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي -رحمه الله تعالى- ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل.
وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة، ولهم فيه وجهان، وقال أصحاب أبي حنيفة لا ينبغي للسلطان أن يسعّر على الناس إلا إذا ت*** به حق ضرر العامة. فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك فنهاه عن الاحتكار، فإن رفع التاجر فيه إليه ثانيًا حبسه وعزره على مقتضى رأيه، زجرًا له أو دفعًا للضرر عن الناس.
فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديًّا فاحشًا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، سعّر حيئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وإذا تعدى أحد بعدما فعل ذلك أجبره القاضي، وهذا على قول أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحَجْر على الحر، وكذا عندهما، أي عند أبي يوسف ومحمد إلا أن يكون الحَجْر على قوم معينين.
ومن باع منهم بما قدره الإمام صح، لأ
ساحة النقاش