أسس الجانب العلمي العقدية (1)
إن تربية طالب العلم على صفات هامة يجب أن يتخلَّق ويتَّصِف بها، من الأمور المهمة؛ لينال العلم بحظ وافر، وينهَل منه، وطالبُ العلم له آداب في نفسه، وآدابٌ مع معلِّمه، وآدابٌ في مجلس عِلمه، وهي كما يلي:
أولاً- الإيمان:
"هو حقيقة مركَّبة من معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتصديق به عقدًا، والأمر به نطقًا، والانقياد له محبة وخضوعًا، والعمل به باطنًا وظاهرًا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان.
وكماله في الحب في الله والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون اللهُ وحده إلهَه المعبود.
والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهرًا وباطنًا، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله"[1].
وبذلك يتكوَّن الإيمان الذي يُطلَب من الإنسان، وأن ما يَحدث في الكون له أسباب، فلا بد من الضروري الإيمان بأمرين آخرين، هما:
أولاً: أن الأحداث ومسبباتها من خلْق الله - سبحانه وتعالى - وأن كلاًّ مَردُّه إلى الله.
ثانيًا: أن هناك أمور تحدُث بشكل مُغاير لسنن الله في الكون، وهذه الأمور هي المعجزات التي يريد الله من ورائها أن يزداد الناس إيمانًا، وأن يُدركوا بأنهم يجب أن يتخطّوا بعقولهم حدود الماديات الظاهرة والمرئية أمامهم" [2].
وتُرسخ هذه المعجزاتُ الإيمانَ الذي يزداد كلما رآها العقل؛ فالإسلام دين المعجزات التي يراها العقل حيثما نظر، وليس بدين المعجزات التي تَكُف العقل عن الرؤية وتَضطره بالإفحام الظاهر إلى التسليم" [3].
وتربية المسلم على الإيمان بكل ما هو ظاهر وغيبي من الأمور التي تُعين على تلقِّي كل أمر غيبي؛ إذ "يؤمن المسلم بالنواميس الكونيَّة أشد من إيمان الدعاة إلى تقرير تلك النواميس باسم العِلم العصري أو العلوم التجريبية؛ لأنه يؤمن بأن النواميس سنَّة الله في خلْقه" [4].
قال الله تعالى: ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43]؛ فالإنسان المؤمن "يؤمن كذلك بإمكان المعجزة؛ لأنها ليست بأعجب مما هو حادث مُشاهَد أمام الأبصار، وليست هي محتاجة إلى قدرة أعظم من القدرة التي نشهد من بدائعها ما يتكرَّر أمامنا كل يوم وساعة، وقد تُسمَّى المعجزات في عُرْف المسلم بخوارق العادات، فلا يجوز لأحد أن يُنكِرها؛ لأننا تعوَّدنا فيما علِمناه في هذا العصر على الأقل أمورًا كثيرة كانت في تقدير الأقدمين من خوارق العادات، وهي اليوم من الممكنات المتواترة، وما جاز فيما نعلمه يجوز فيما نجهله، وهو أكثر من المعلوم لنا الآن بكثير"[5].
إن الإيمان بكل ما جاء من عند الله وما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أوامر وأحكام - هو أساس في تربية المسلم في الجانب العلمي؛ إذ "الإيمان بالغيب وجملة الغيبيات أنها شيء يعلمه الله ولا يعلمه الإنسان، ولكنها لا تُناقِض العقل ولا تُلغيه؛ فليست هي ضد العقل لو عرفها وانكشف الغطاء عنها"[6].
والإيمان بالله - سبحانه وتعالى - وبكل قدرة له من أمور ظاهرة وغيبيَّة لا يُرفض؛ إذ "من قال: إنه يرفض الإيمان بغير المحدود، فكأنما يقول: إنه يرفض الإيمان بما يَستحِقُّ الإيمان؛ إذ لا إيمان على الهدى بمعبود ناقص دون مرتبة الكمال الذي لا تحصره الحدود، إلا أن الفارق عظيم بين ما هو ضد العقل، وما هو فوقه وفوق ما يُدرِك العقل المحدود، فما هو ضد العقل يُلغيه ويُعطِّله، ويمنعه أن يفكِّر فيه وفي سواه، فما هو فوق العقل يُطلق له المدى إلى غاية ذرعه، ثم يقف حيث ينبغي الوقوف، وينبغي له الوقوف وهو يفكِّر ويتدبَّر، إذ كان من العقل أن يفهم ما يُدرِكه وما ليس يُدرِكه إلا بالإيمان"[7].
وبذلك إن من يؤمن بالعلم وحده وبالقوانين العلمية ويُنكِر ما وراءه كالإيمان بالغيبيات، فهو منكرٌ للإيمان، فيُلقى على عاتقه بالعبء الثقيل الذي لا يستطيع أن يحمله.
إن المُتتبِّع للعلم يرى أنه يُعطي "حقائق مختبَرة، مع ذلك تتأثَّر بحال الإنسان وأوهامه، ومدى بُعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته، ونتائجُ العلوم مقبولة داخل هذه الحدود الكمية في الوصف والتنبؤ، وهي تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي بالاحتمالات كذلك، وليس باليقين؛ ونتائجُ العلوم بذلك تقريبية، وعُرْضة للأخطاء المحتمَلة في القياس والمُفارَقات، ونتائجُها اجتهادية، وقابلة للتعديل والإضافة والحذف، وليست نِهائية"[8].
ونجد أن هذا العلم الذي تعلَّمناه وما زلنا نتعلَّمه بكل ما جاء من "إمكاناته الهائلة لا يُقدِّم إلا معرفةً جزئية عن الحقيقة، ومن ثَمَّ فإنه علينا ألا نجعل السببيَّة والبحث عن الأسباب تأخذنا إلى النقطة التي نحاول أن نَرُدَّ فيها كلَّ حدثٍ ونتيجة في هذا الكون إلى سبب مادي"[9]، فيجب علينا البحث والاجتهاد عن المسببات، ولكن مع توقُّف عند الأمور التي يجب أن نقف عندها؛ كالأمور التي لا يستطيع الإنسان أن يجد لها مسببات.
ولقد عرف الإنسان عدمَ كفاية العلم الذي أراد أن يضعه مكان الدين ومكان موازين القِيَم المعنوية؛ فلقد شهِد العلم نفسُه انهيارَ أساسين وقاعدتين من قواعده، هذان الأساسان اللذان كانا بمثابة البداهة حتى نهاية القرن الماضي.
لذا "قال (أورنال كاي كنت) في اجتماع جنيف بأن الفيزياء والمنطق اللذين هما أساس العلم - العلم الذي قام عليه بناء المدنيَّة الغربية - قد هدما نفسهما بنفسهما، إن مجاعة الدراما ربما لا تكون ظاهرة لكل عين؛ لأن عين غير الخبير لا تكشِف في قطرة دم تحت المجهر علاماتِ مرض قاتل!
ولكن كل خبير يستطيع أن يقدِّر بأن الوضع الذي سقط فيه المنطق والفيزياء اليوم هو أبلغ في الإشارة إلى الأزمة التي تُعانيها مدنيَّتنا من جميع فجائع السياسة والحرب؛ لأن هذين العِلمين كانا بمثابة الصندوق الذي يُخبِّئ فيه الغربيون فائضَهم من الذهب، استعدادًا لاستقبال الأيام المقبلة بأمان وطمأنينة"[10].
إن المتتبِّع لعلوم الفيزياء والمنطق وما حدث فيها من تطوُّر أضحى واضحًا على مدار السنين، ومن خلال أبحاث ودراسة كل من "راسل" و"وايتهيد" وغيرهم قد تغيَّر أساس هذين العِلْمين، يقول (أورنال كاي كنت): "إن مدنيَّتنا أصبحت تعلَم الآن أن أسسها في حالة إفلاس؛ لذلك نراها تَشُك في نفسها، ولكن ليس من الممكن أن تموت حالاً أية مدينة لمجرد هزة شك؛ وإنما على العكس فإني أرى أن المدنيَّات لا تموت إلا من تصلُّب المعتقدات وتَحجُّرها، وكل هذا يُشير إلى أن شكل مدنيَّتنا أو بالأصح شكل المدنيَّة التي يجلُبها الغرب، قد جفَّ وانتهى"[11].
فما علينا إلا أن نقوم بمعرفة الأهم؛ حيث إن الذي يرفض علاقات السبب والنتيجة التي لا يَعتدُّ بها مِثل الخرافات والأوهام والقوى فوق الطبيعة، والذي يُصِر على التفكير الحر، ورفْض أي عقيدة تُفيد التفكير؛ إذ العمل يُبنى على "العقيدة التي لا يتعب بها الإنسان أصلاً بعد استيقانها بعقله وفَهْمه، بل تكون له منها قوة يَنشرِح بها صدره، ويستعين على القيام بالناحية العملية التي ليست بسهلة في حدِّ ذاتها سهولة الناحية الاعتقادية؛ لانطوائها على تكاليف وتضحيات.
وبانضمام العمل إلى العقيدة، يحصل الكمالُ في الإسلام، ويَنتفِع المسلم العامل بدينه في الدنيا قبل أن ينتفع في الآخرة"[12].
إن العقيدة هي الأساس الذي يقوم عليه العلم، "والذي يُصمِّم يُبنى على عدم التسليم بالآراء أو الأفكار أو المعتقدات التي تُحدِّدها سلطة مُطلَقة ممثَّلة في نفسه أو غيره من أصحاب النفوذ أو الجاه أو المركز أو السن أو الغالبية أو التحزب أو التعصب، طالما غير مبنيَّة على الملاحظة والتجريب بأوسع معانيه"[13].
وتظهر أهمية الإيمان بالغيب الذي يُلازِم الإنسانَ مدى حياته، ولا يمكن لأي "أحد يجرؤ - مثلاً - على أن يقول باسم العلم: إن الإلهام بالغيب مستحيل؛ لأنه إذا جزم باستحالته، وجَب عليه قبل ذلك أن يجزم بأمور كثيرة لا يستطيع عالِمٌ أمين أن يُقرِّرها معتمِدًا على حُجَّة أو سند قويم.
يجب على العالم الذي يجزم باستحالة الإلهام بالغيب أن يُقرِّر أنه عرف حقيقة الزمن، وعرف - من ثَمَّ - حقيقة المستقبل، ويجب عليه مع ذلك أن يُقرِّر تجريد الكون من عنصر العقل غير عقل الإنسان والحيوان"[14].
وموقف الإسلام من قضية الإيمان بالسببيَّة واضح، فالسببيَّةُ في التصور الإسلامي نسبيَّةٌ تُرَد فيها كل الأمور من مُسبّبات وأحداث في النهاية إلى الله - سبحانه وتعالى - ولا وجود للسببية المُطلَقة، التي تَرُد الأمور بعدم التعامل مع غير المحسوس، ومن ثم تَرُد كلَّ الأحداث إلى مسببات مادية.
فالمسلم يؤمن بالسببية النسبية، ولكنه يرفض السببيَّة المُطلَقة التي تَطلُب منه عدم التعامل مع الإيمان بالغيبيات؛ إذ بذلك يرفض الإيمان بالوحي الذي ينزل على الأنبياء؛ على أساس أن الإيمان ضربان، هما: الإيمان بعالَم الشهادة، وبعالم الغيب الذي لا يمكن إخضاعه للملاحظة والتجريب.
وبما أن الإنسان يعيش في هذا العالم الذي يُحيط بنا، والعوالم تُخرِج هذا العالم الذي نعيش فيه، كل ذلك ليس على نمطٍ واحد.
فالكون به عالَم يُدرَك بالحواس، وعالم لا يُدرَك بالحواس، فالأشياء التي اتَّصلت بها حواسنا هي في عُرْفنا أشياء مادية، وهذه الأشياء تُسمَّى (عالم الشهادة).
إلا أن هناك أمورًا لا تتَّصِل بحواسنا وهي موجودة، ومن الخطأ ألا نُقِر بها، وإن كانت غائبة عن حواسنا وشهودنا، فهذا العالم يُسمَّى (عالم الغيب)، "الذي يتَّصِل بذات الله - عز وجل وعلا - وصفاته والحياة الآخرة والملائكة والجن"[15].
والرُّوح في أجسامنا لا نراها بأبصارنا، ولا نسمعها بأُذننا، ولا نلمَسها بأيدينا، ولا نتذوَّقها، ولا نَشمُّها.
وقد نبَّه القرآن الكريم إلى انقسام العلم بالنسبة للمخلوقات إلى قِسمين:
1- عالم الغيب.
2- عالم الشهادة.
قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحشر: 22]، وقال: ﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 8 - 10]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [السجدة: 4 - 8].
أما معرفة الطريق إلى كل منهما:
فعالم الغيب: "طريق الوصول إلى معرفته معرفة حقيقية هو الوحي الإلهي الذي جاء به الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ويَصِل إلينا ذلك الوحي عن طريق الخبر الصادق المتواتر، غير أن الإنسان قد يَصِل إلى معرفة شيء من ذلك عن طريق التأمل والتفكير والنظر العقلي، أما عالم الشهادة، فطريق الوصول إلى معرفته التأمل والتفكير والنظر العقلي والتجرِبة والمشاهدة"[16].
إن تربية المسلم على الجانب العلمي تدعو إلى القيام بتربيته على الإيمان بالغيب؛ إذ فيه صلاحه، وقيامه بتزكية فِكره؛ إذ الطريقة التي يُفكِّر بها العقل في وجود الإيمان حيث تُرشِده إلى إصابة الحقيقة في أمور الحياة، وترشده إلى الخير والصلاح.
فالإيمان يؤدي إلى الخصائص التالية:
أ- سَعَة النظر:
الإيمان يوسِّع أمام العقل مجالَ النظر المعرفي إلى أكبر مدى ممكن، فتنفتح له مادة العلم ومعطياته بأكثر ما يُمكِن؛ لأن الإيمان يجعل نظر العقل يَنبسِط بين عالَمين اثنين: عالم الغيب، وعالم الشهادة، وإذا انبسط نظر العقل على هذا المدى الفسيح، فإنه حينئذٍ سيتجاوز ما هو محسوس إلى ما هو غير محسوس؛ ليتَّخِذ منه مجالاً في تقدير الحقيقة، "وإذا ما اقتصرت حركة الفكر على الجَوَلان فيما هو محسوس فقط من الموجودات، فإنها حينئذٍ تسقط معطيات كثيرة من معطيات التكوين الوجودي عامة، بل تسقط معطيات كثيرة من معطيات التكوين في نطاق عالم الموجودات نفسه"[17].
هل يتم إدراك الموجودات والتفاعلات التي لا يدركها الحس الإنساني؟
"إن ما لا يشاهد كالذرة والفيروسات الضئيلة، لم يكن لعهد قريب معلومة للإنسان حتى يتَّخِذ منها عناصر للنظر المعرفي، وما يزال كثيرٌ من أمثالها في مجال المادة محجوبًا عن علم الإنسان، حتى إن كثيرًا من العلماء أصبحوا لا يُميِّزون حدودًا بين عالم المادة وعالم ما وراء المادة من الغيبيات"[18].
إن إفساح النظر العقلي ليشمل عالم الشهادة وعالم الغيب هو أدْعى إلى الكشفِ عن الحقيقة؛ فالإيمان يفسح مادة النظر العقلي في نِطاق عالم الشهادة نفسه بما لا ينفسح للنظار من غير المؤمنين بالله؛ إذ الإيمان يوجِّه النظرَ إلى كلِّ ما في الكون من مادة ومن ظواهر وأحداث باعتبارها شواهد على الوحدانيّة الإلهية في كلِّ شيء مهما بدا في الظاهر عظيمًا أو حقيرًا.
إن المؤمن بالله يصبح له الشمول في النظر العقلي ليشمل ما هو محسوس وما هو غير محسوس، فتصبح خاصية الشمول في مادة المعرفة فقهًا لفكرة الإسلام، وبخاصية الشمول في الفكر الإسلامي كان الإبداع في المعرفة المشهودة؛ إذ جمعتْ بين الإبداع في العلوم الطبيعية وبين الإبداع في العلوم الإنسانية والرُّوحية، وليس استيعاب التراث العلمي والفلسفي القديم ونقله إلى الناس إلا مآثر إسلامية متأتية بشمول النظر في الفكر الإسلامي[19].
وهذا ما جاء به القرآن الكريم بالدعوة إلى سَعة النظر؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].
وهي دعوة باتخاذ المجال الفسيح في خلق الله للبحث عن الحقيقة؛ فالسعة في النظر بما يضمن تحرّي الحقيقة هي إحدى ثمار الإيمان بالله.
ب- تحرُّر الفكر:
يتحرُّر الفكر إذا ابتعد عن الأسباب الداخلية في الإنسان كالهوى والشهوات التي ترسُم نتيجة معيَّنة؛ فالإيمان يُحرِّر الفكر من الهوى والشهوات؛ وذلك لأن التوحيد الخالص يقتضي الانصياع لأوامر الله وحده، ومجانبةَ الوقوع فيما تشتهيه النفس من تحقيق لذة مادية، أو كسب لمال، أو نصرة لقريب ظلمًا، وكذلك كل ما فيه هوى أو شهوة سيئة العاقبة، أو خرافات وأساطير، التي توجِّه العقلَ إلى تفسير وتعليلات لا تَمُتُّ بصِلة إلى المعطيات الواقعية، فيقع كذلك في الخطأ.
إن الإيمان يُحرِّر من التوجهات الخاطئة؛ إذ يقتضي التسليم لله وحده دون غيره من الوسائط التي تحرف عنه بالترغيب والترهيب، والتسليم لله وحده يدفع إلى النظر في ملكوته للتعامل الموضوعي مع ما يجري عليه من سنن وقوانين ثابتة تُرشِد إلى العلم الحق، لا إلى الضلال الذي يوجِّه إليه أصحابُ الأهواء.
إن التحرر الذي نرغبه من الإيمان بالله هو الذي يَبعُد عن التفكير في نطاق معين، مع العلم أن الذين تحرَّرت عقولهم في ضوء التفكير في المادة "ظلَّوا مُكبَّلين في مجـال القيم والأخلاق بالأهواء والشهوات ومَنازِع التعالي والتكبر على شعوب الأرض، فضلّوا فيها الضلالَ المبين، الذي يرى اليوم في الانحلال الخُلُقي، والجفاف الرُّوحي، وهو المُنذِر بالدمار لما هو قائم من حضارة المادة"[20].
ج- وحدة الفكر:
من مقتضيات الإيمان بالله أن يرى الكون وما يجري فيه من أحداث محكومًا بقانون موحَّد، هو قانون الله تعالى وسننه في تدبير الكون، ومن مقتضياته أيضًا أن يربَّى ويُنشَّأ الإنسان موحِّدًا في وسائل انفتاحه في تدبير الكون ليُدرك حقيقتَه، وقد بيَّن الله أن التفكير في الآيات الكونية من خلال الآيات القرآنية صفة من صفات الإنسان المؤمن بالله؛ قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191]، والتفكير السديد وظيفةٌ أمَر الله بها عبادَه المسلمين، وهم الجديرون بها، وما يَنتُج عنه من فِكر هو فِكْر إسلامي قام به المسلم وَفْق ضوابط الشرع، ومن مُنطلَق الإيمان؛ فالفكر الإسلامي هو الذي يَستنِد على الإيمان بالله، وينطلِق من نصوص الوحي في بحثه واجتهاده في مختلف مجالات الحياة، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [آل عمران: 191، 192].
إن الإيمان يجعل العقل يحتكِم إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فبذلك تتوحَّد مشاعر الناس وعواطفهم وأهدافهم، ويوجّه سلوكهم فيتلاحم الأفراد، ويصبح المجتمع كالجسد الواحد، وتَقِل فيه نوازع الفُرْقة، "أما العقل المُشرِك، فلا تتأتَّى له هذه الوَحدة الفكرية والمعرفية؛ وذلك لأنه إما أن يوزِّع الأسباب بين الشركاء، فلا يَنضبِط له قانون في البحث عن الحقائق، فإذا هو يُثبِت وقائع كونيَّة إلى مصدرين من معبوداته، ويَنسب وقائع أخرى إلى مصادر أخرى، وتضيع الحقيقة بين هذا وذلك"[21].
وبذلك يتمادى صاحب العقل غير المؤمن، فيتجرَّأ على مدْح الكفر والإلحاد، والتشكيك والاستهزاء بمسلَّمات الدين بلا خوف ولا حياء.
[1] محمد بن أبي بكر بن القيم، الفوائد، دار النفائس، بيروت، 1406هـ - 1986م، ص140.
[2] حمدي أبو الفتوح عطية، التربية وتنمية الاتجاهات العلمية، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة، 1415هـ - 1995م، ص 108، 109.
[3] عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، نهضة مصر، القاهرة، 1423هـ، 2005م، ص81.
[4] المرجع السابق، ص 81.
[5] المرجع السابق، ص 81، 82.
[6] المرجع السابق، ص 85.
[7] المرجع السابق، ص86.
[8] مجموعة من العلماء، الله يتجلى في عصر العلم، ترجمة الدمرداش عبدالمجيد سرحان، مقال (درس في شجر الورد)، دار وحي القلم، دمشق، 1428هـ، 2007م، ص 21.
[9] حمدي أبو الفتوح عطية، التربية وتنمية الاتجاهات العلمية، مرجع سابق، صـ109.
[10] يوسف القرضاوي، الإيمان والحياة، مكتبة وهبه، 1398هـ، 1978م، ص317، 318، ط6.
[11] المرجع السابق، ص318.
[12] مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، دار إحياء التراث، بيروت، د. ت، ج 1، ص 14.
[13] محمود محمد عوف، دراسة تجربية لإنشاء مقياس للاتجاه العلمي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية جامعة عين شمس، القاهرة، 1389هـ، 1959م، ص55.
[14] عباس محمود العقاد، مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية، موسوعة عباس محمود العقاد، المكتبة العصرية، بيروت، 1427هـ، 2006م، ط1، ص27.
[15] منصور زويد المطيري، الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع، الدواعي والإمكان، سلسلة كتاب الأمة، عدد 33، 1413هـ 1993، ص104، 105.
[16] مصطفى سعيد الحسن، محيي الدين ديب مستو، العقيدة الإسلامية، دار الكلم الطيب، بيروت، 1417هـ، 1996م، ص61.
[17] عبدالمجيد عمر النجار، الإيمان وأثره في الحياة، دار الغرب الإسلامية، بيروت، 1418هـ 1997، ص184.
[18] يحيى هاشم، العقيدة الإسلامية بين الفلسفة والعلم، مكتبة المكتبة، أبو ظبي، د. ت، صـ 447 (بتصرف).
[19] عبدالمجيد عمر النجار، مرجع سابق، صـ180.
[20] المرجع السابق، ص 191.
[21] المرجع سابق، ص193.
- أسس جهاد النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم(مقالة - ملفات خاصة)
- اتجاهات النقاش حول أسس إصلاح الصحافة القومية بعد ثورة 25 يناير(مقالة - ثقافة ومعرفة)
- الاستلزام الحواري من أسس انسجام الخطاب(مقالة - حضارة الكلمة)
- البذل من أسس بناء الأمة الوسط(مقالة - الإصدارات والمسابقات)
- أسس كتابة القصيدة الحديثة للأطفال وتقنياتها (4/ 7)(مقالة - حضارة الكلمة)
- أسس كتابة القصيدة الحديثة للأطفال وتقنياتها (3/7)(مقالة - حضارة الكلمة)
- روسيا: المسجد الكاتدرائي في "إيجيفسك" يعلم أسس الإسلام(مقالة - المسلمون في العالم)
- أسس كتابة القصيدة الحديثة للأطفال وتقنياتها (2/7)(مقالة - حضارة الكلمة)
- أسس كتابة القصيدة الحديثة للأطفال وتقنياتها (1/7)(مقالة - حضارة الكلمة)
- أسس بناء الدولة(محاضرة - مكتبة الألوكة)
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/53200/#ixzz2QzaD9lhS