قراءة نفديه لقصيده تميم البرغوثي في القدس
بقلمي الأستاذ أبو الأغر هندي دويكات
القصيدة التي أوصلت تميم إلى قمة شاطئ الراحة
أن تكتب الشعر فهذه ميزة، ولكنك أن تجيد معه فن الإلقاء فهذا هو التميز والإبداع بعينه، ذلك هو تميم البرغوثي الشاعر الفلسطيني الذي صدح بصوته من على منبر شاطئ الراحة في دولة الإمارات العربية المتحدة عبر قناة أمير الشعراء الفضائية وأبو ظبي وإمارات إف إم، ذلك الذي أباح بكل سخرية مرة وموجعة أحداث وأخبار وتاريخ محنة القدس وما آلت إليه، فهو لا يُنطق النص فحسب، بل أنطق الحجر والشجر والبشر وكل ما خلق الله، اسمع إليه وهو يصف المدينة العريقة فيقول: "امرر بها واقرأ شواهدها بكل لغات أهل الأرض" فهو ينطق الشواهد والأحجار ليجعلها شاهدة العصر على عروبتها ويقول: " في القدس أبنية حجارتها اقتباسات من الإنجيل والقرآن" ويقول عن الملل التي سكنت أو عبرت هذه المدينة العريقة التاريخية: "الكل مروا من هنا فالقدس تقبل من أتاها كافراً أو مؤمنا امرر بها واقرأ شواهدها فيها الزنج والإفرنج والقفجاق والصقلاب والبشناق والتاتار والأتراك وأهل الله والهُلاك والفقراء والملاك والفجار والنساك فيها كل من وطئ الثرى أرأيتها ضاقت علينا وحدنا يا كاتب التاريخ ماذا جدّ فاستثنيتنا يا شيخ فلتعد القراءة والكتابة مرة أخرى". يقول تميم هذا لمن يستكثرون علينا أن نعيش بكرامة فيها، يقول باستنكارٍ عجيب لهذا الآخر الذي توطن واستوطن فيها، أترى هل أنت أحق منا بالعيش فيها حتى ضاقت علينا بما رحبت؟ فلم لا يكون لنا وطن مثلما هي وطن للقادمين مما وراء النهر ومن جميع الأنحاء، وعلى كثرة من هم في القدس سواء كانوا أحياءً أم أمواتاً، ماكثين أم عابرين، لا يرى تميم فيها ظاهرٌ إلا أمجادها العربية وشواهدها الفلسطينية فهو يقول بما معناه أو خلف السطور: لا تحزن أيها العربي ولا تبتأس على ما أصابها وما آلت إليه فمردها أن لا تكون إلا عربية فلسطينية، ولا يكون فيها إلا أنت، اسمع إليه وهو يقول: "في القدس لو صافحت شيخاً أو لامست بنايةً لوجدت منقوشاً على كفيك نص قصيدة يا ابن الكرام أو اثنتين"، ويقول: "لا تبك عينك أيها المنسيُّ من متن الكتاب لا تبك عينك أيها العربي واعلم أنه في القدس من في القدس لكن لا أرى في القدس إلا أنت".
وسواء كان هذا ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً فهو يراها بعروبتها وتاريخها الفلسطيني العريق، فالبرغم مما تعانيه المدينة من أسرٍ وتكبيلٍ واحتلالٍ جاثم، إلا أن الصبح فيها حرّ، اسمع إليه وهو يقول: " فالصبح حرٌّ خارج العتبات، لكن إن أراد دخولها فعليه أن يرضى بحكم نوافذ الرحمن"، نعم عليه أن يرضى بقضاء الله الذي قُدِّر له، فهو يؤكد بأنك لو شاهدت المدينة مرة واحدة، فسوف تراها حيثمات وجهت وجهك. اسمع إليه يقول: "متى تُبصِر القدس العتيقة مرة فسوف تراها العين حيث تديرها". ففي القدس رغم كثرة النكبات إلا أن هناك فسحة من الأمل المشرق والمستقبل المنتظر، اسمع إليه يقول: " في القدس رغم تتابع النكبات ريح طفولة في الجو، ريح براءة، في القدس رغم تتابع النكبات ريح براءة ريح طفولة في الجو فترى الحمام يطير يعلن دولة في الريح بين رصاصتين"، فلعله ينتظر هذا المستقبل الواعد والزاهر لمدينة السلام.
لقد استغرق إلقاء القصيدة ثماني دقائق وأربعون ثانية، صفق له خلالها الجمهور أربعة عشر مرة، تراوحت مدة التصفيق ما بين خمسة عشر إلى خمسة وثلاثين ثانية لكل مرة، مما يؤكد على عراقة وأصالة المبدع بإبداعه الجميل، فالإلقاء هو الغناء هو الفن الذي يُلقى على المستمعين والمشاهدين، فيكون التأثير والتأثر من المبدع إلى المشاهد المستمع بحماس وقوة، فهو بعطائه وإلقائه يؤدي إلى زيادة إحساس المشاهد معه بالقصيدة، وهذا المبدع الذي يتحسس أحاسيس الناس ويشعر بشعورهم ما هو إلا موهوب ومفطور على أصالة فنية عريقة غنائية، سمفونية عجيبة تتناغم في انسجام تام مع النغم والإشارة التي لا تقل أهمية عن الصوت الجميل وكأنها أنامل عازف تضيف للمبدع الشاعر إبداعات جديدة في الجمال ولهيب العاطفة، أيكم يكتب الآخر يا تميم .. هذه الهديل أم بوح الوطن المكلوم ! أيكم يكتب الآخر .. هذا الرحيق من الزهور أم نشيد الزعفران. هذا الصهيل من خليج العرب على شاطئ الراحة يفجر أوردتي ويشذب طفولتي، إن سنابلنا تنضج في غير ميعاد والموجوع رفيقا سجن ورؤيا، والرعاة يا صديقي يتقاسمون أنين الدم، لكننا ندرك أن امتطاء الخيول هو أول الإنتشاء. أي سحر هذا الذي تقول، وأي غزل بهذا النول تطول، أي شعر وأي كلام هذا: "مررنا على دار الحبيب فردنا عن الدار قانون الأعادي وصورها". أيكم أنطق الآخر؟ أأنت تنطق الأحجار والأشجار أم نصك هذا رواية تاريخ مسرود! أأنت قلت للناس تشجعوا أم بوحك المرفه بالندى ! أيكم يا تميم؟
فالإنسان يتكلم فهذا طبيعي، لكنه غير ذلك كلام النص بهذا البوح الجميل العريق، فاللوهلة الأولى من ذكر عنوان القصيدة "في القدس" ظننت أنه سوف يصل مع اللجنة إلى طريق مسدود، بل إلى اللاعودة لضفاف شاطئ الراحة، لا لانتقاص في المكان أو استهانة به، بل لما وصل إليه المكان من اجترار وترديد على أفواه الشعراء والشعر وإن موضوع القدس قد تجاوز المدى والنقد، لكن الإبداع يظل يمتشقه من يقدر على سوقه بلا لجام، فاللغة لا تصنع شعراً، لكن الشاعر المبدع هو الذي يخلق لغة شعرية تتواصل مع نفسها والآخرين، كما أن الإلقاء يزيد الشعر فنية وأناقة وجمالاً، فكان رائعاً جميلاً بشعره وبوحه وإلقائه وإشاراته التي تعبر عن احساس فنان، وتعبر أكثر عما يريد توصيله وقوله من خلال شعره المختزن في ذاكرته بعد، فقد دوّن تاريخ المدينة بكل سخرية ومرارة بأسلوب يحاكي الوجع والألم وسجل بإبداع فني أنيق تفاصيل أحداث، تجسد دفقات من الدلالات ذات الصور والأبعاد الجمالية العذبة، ففي تعداد الملل التي مرت على القدس ذكر أربعة عشر ملة، ثم أضاف بصمته العربية بتثبيتنا فيها، "أتراها ضاقت علينا وحدنا"، كما أن صلاته على الإسفلت والتحرك في شوارع المدينة عبر سيارة أجرة صفراء إلى آخر التفاصيل شكلت هذه القصيدة لوحة معمارية فسيفسائية، وربما الذي أراد قوله أهم وأعمق من الذي قاله.
إن شعرية تميم التراثية لا تتنصل ولا تنفصل عن تراثنا المجيد وتاريخنا التليد فالتناص ظاهروملفوظ فأنتج قصيدة رائعة وقوية فاسمع إليه وهو يقول: " في القدس مدرسة لمملوك أتى مما وراء النهر، باعوه بسوق نخاسة في أصفهان لتاجر من أهل بغداد أتى حلباً، فخاف أميرها من زرقة في عينه اليسرى، فأعطاه لقافلة أتت مصر فأصبح بعد بضع سنين غلاب المغول وصاحب السلطان". فهو بهذا النص يستند إلى القرآن الكريم وخاصة على قصة سيدنا يوسف عليه السلام فكان بذلك يقترب بلغته من لغة السامع بحسه الانساني ورحابة صدره وثقافته الواسعة العميقة وشجاعة متناهية سطرها بكل ثقة نصه وقدمه على كل من معه من الشعراء. فهذا البوح المرفه بالندى يغزل منه شعراً عظيماً يسطر من خلاله ملحمة بطولية يستحق عليها الثناء والتقدير والفوز بإمارة الشعر، فهو يرسم فيها صورة اليهودي المهاجر مما وراء النهر ومن جميع الأصقاع، فشكل في قصيدته ظاهرة أدبية كثيراً ما تحدث عنها الشعراء من أمثال الشاعر الكبير محمود درويش، فكان أن تمرّد على هذا الواقع المنكوب كما يظهر في قصيدته هذه.
كما تظهر في قصيدته الحكمة، اسمع إليه وهو يقول: " وما كل نفس حين تلقى حبيبها تسر ولا كل الغياب يضيرها فإن سرّها قبل الفراق لقاؤه فليس بمأمون عليها سرورها متى زرت القدس العتيقة مرة فسوف تراها العين حيث تديرها". إن تميم وهو يرسم اليهودي في لباسه بقبعته وملامح وجهه ولون شعره وعينه وجلده إلى آخر التفاصيل ليؤكد بهذا على هوية وعروبة هذه المدينة بإبرازه هذه التناقضات بين اليهودي والعربي الفلسطيني، كما أن هناك تناقضات اجتماعية وسياسية ودينية وثقافية عامة فتكاد القصيدة تشكل ظاهرة بعينها ونحن لسنا بصدد التأكيد أو الحديث عن هذه الظاهرة وتشويه صورة الآخر بقدر ما نؤكد على عمق الصراع الذي يتجذر فينا ويمتد ليصل إلى أطول استعمار عرفته البشرية في العصر الحديث، فبعدسته المحدبة يرى تميم الآخر على حقيقته بكل تناقضاته وسلبياته وفجاجته وغطرسته ومدى قدرته على تغيير ملامح الأرض والإنسان، أي هذا الوطن بترابه العطر المضمخ بالدماء الزكية، هذا الوطن الذي ما انفك مبدع فلسطيني أو عربي يتغنى به. فتميم يرى هذا الوطن من خلال مروره بالقدس في سيارة أجرة صفراء لأنه لا يملك الإقامة الدائمة، فيصور هذه المدينة بعدسته السريعة ويسجل قضية بلاده في قصيدته وهو يمتطي صهوة الشعر من على شاطئ الراحة في الخليج العربي، فصور بذلك أصدق صورة لمشاعر شاعر بحب وطنه دون أن يعيش هذا الوطن أو هذا الواقع المتأزم، فهو يتفاعل معه من خلال الصور والمشاهد التي يراها من على شاشات التلفزة العالمية، وهذه انفعالات أقوى من تلك التي تنتاب المرء وهو في غمرة الأحداث ويحس الآلام ويعيش المهالك وأخطار المسالك، فالشعر الآني وليد اللحظة أضعف العاطفة من ذلك الذي يخرج بعد انقضاء الأحداث والأخطار، ولعل قائلاً يقول: بل هو أقوى ، لكن هذه العاطفة سرعان ما تخبو وتتلاشى فيما بعد. أما الشعر الذي يختمر في وجدان الشاعر وهو يعيد صياغة كلماته بهدوء وتأني وهو بعيد عن الأحداث أصدق إحساس وشاعرية، فالذي يعيش الحدث عاطفته ملتهبة يشوبها التأثير الآني أو اللحظي، والوطن ليس آني. فالوطن عند تميم لا يقف عند ماض أو حاضر، بل يمتد ليشمل المستقبل، اسمع إليه وهو يقول في هذه القفلة الرائعة: " واعلم أنه في القدس من في القدس لكن لا أرى في القدس إلا أنت".
أن الشعر في ذهن الشاعر هو حب منثور ، لكنه يخرجه منظوماً من فيه مثله مثل الصائغ الذي يصنع القلائد فالحب مبثوثاً في كل مكان مبعثراً هنا وهناك، الأ أن الصانع أو الصائغ يجمعه بخيط متين وبشكل أنيق فينتج عنده قلادة جميلة تتهافت عليها أجياد النساء من كل مكان، أو هو كالفلاح الذي يزرع الحب في أرضه فيرميه بانتظام ( أي بالتلقيط ) فيكون الزرع بعد الطلع اسراباً وزرافات جميلة حسنة المنظر؛ وأما ما زاد عن الزرع من أعشاب وغيرها فإنه يقوم برشه بالمبيد ليبقى الزرع الأصيل وحتى هذا فأنه يجتث منه ما كان زائداً عن حده فهو يفرده وينقيه من الزوان ليكون زرعه أقوى وأكثر ثمراً فكلما كان الزرع خفيفاً مفرداًَ كان الناتج أفضل وأجود وأجمل منظراً وكذلك هو الشعر.
فالشاعر أول ما يبدأ به هو التفكير في الموضوع الذي سيقول فيه شعره فإذا وافق الموضوع هواه بدأ برمي البذار على السياق والترتيب الذي اشرنا إليه. هذا هو الإبداع والتمييز في الشعر الجميل لأن الغاية في النهاية منه هي التأثير في المتلقي وهذا التأثير لابد من أن يصل إليه بأجمل صورة حتى يبهر به ويسحر بشذا قوله وهذا بالطبع مع الصدق في القول الذي هو عماد الشعر والقصيد وهو الذي يكشف عما في داخل الشاعر من مشاعر وأحاسيس وعليه فإن الشعر يحقق الأثر الكبير في المتلقي وهذا لايكون الا مع الشعر الصادق الذي يعبر عن عاطفة حقيقية تنبع من نبض الشاعر فتخرج الكلمات بسحر وأثارة، لذا كانت قصيدة تميم البرغوثي بتشبيهاتها موفقة وأمثالها واقعة أصابت الحقيقة في مقتل، وكانت من السهل الممتنع حقاً، فالحكمة فيها معبرة عن انفعلات الشاعر التي أبهجت السامع لما كشفته من زيف الحقائق وخبايا الزمن وأسرار الامة، والشاعر الصادق هو الذي يعبر عن تجربة صادقة يكون قادراً من خلالها على التأثير في المتلقي مما يجعله أكثر اقبالاً على شعره وإصغاءً له والاستمتاع معه، وكلما كان الموضوع الذي يطرحه الشاعر المبدع قريباً من المتلقي أويمس بعض جوانب حياته كان أحساس الأخير به أعمق وأكثر شفافية، وكلما كانت ألفاظه رقيقة وسهلة كانت أكثر فهماً ووصولاً إلى المتلقي وكثيراً ما أوصل الشعراء أفكاراً كانت غائبة عن السامع المتلقي وكان يجهلها وإن كان قد سمع عنها، فمحنة القدس كل الناس تعرفها ولكن ليس كل الناس تعرف تفاصيلها بهذه الصورة التي رسمها فنان مبدع كتميم البرغوثي عن مدينته الأسيرة فالشعر الذي لا يترك أثراً في قارئه لا يعد شعراً و الشاعر كذلك؛ وأن كان منظوماً أو موزوناً أو مقفى، وهذا الأثر مفتوح لا يقف عن حد، فكل انسان يتأثر بحسب قدرته وعاطفته وإحساسه بما يسمع أو يقرأ وهذه العناصر تختلف من انسان إلى آخر فالأثر يكون متفاوتاً بين شخص وشخص لكنه يجب أن يكون هناك أثر وإلا فما سُمع أو قُرأ فليس بشعر، وهذا التأثر لا يأتي الا من الصدق في المشاعر والحقيقة _ مع أن أعذب الشعر أكذبه كما قالت العرب سابقاً _ لكن هذا لا يعني أن يخلو الشعر بعامة من الصدق وقوله أو وصف الحقيقة كما هي لأن هذا هو الذي يبهر المتلقي وهذا لن يكون الا بصياغة حسنة وأسلوب حذق يتم من خلاله توصيل الشعر بأمانة واخلاص. والشاعر المبدع هو الذي يعمل ويدرك كيف يستفز المتلقي فيقرب له البعيد ويبعد عنه القريب أو يريه ما لا يرى ويخفي عليه ما يرى حتى يشده إلى قوله ويأسره بسحره الفتان. فلا يكون ولايأتي الأبداع للشاعر الا من الاعجاب لما يقدمه للمتلقي من طريف القول وغيره، فالتعريض في القصيدة يعطيها مذاقاً خاص وشهية للقراءة وبلاغةً مفعمة بالقوة والابداع ، كذلك هو الاختصار أحياناً، وفي بعض المواقف يعطيها نكهة اخرى أشهى وألذ تضاف الى صياغتها اللغوية وايقاعها المنغم بالموسيقى اضافة الى انفعالات الشاعر التي تقع على المتلقي فتوقع فيه النشوه والانفعال والطرب مع القصيدة الملقاه على مسامعه وأمام ناظريه... وهناك الوصف والتشبيهات الجمالية التي تزيد القصيدة جمالاً على جمال من خلال الصور الفنية والشعرية، والقصيدة التي تجمع بين حناياها هذه المكونات فأنها تتناسب مع ذاتها وذات الشاعر لكونها تتآلف وتتشكل من عناصر متجانسة تزيدها بريقاً ولمعاناً ساطعين، والقصيدة التي تتناسب مع الحدث الذي تقال فيه فإنها بذلك تبلغ الذروة والغاية التي قيلت من أجلها أو المرجوة منها وهي ايصال الفهم و الوعي للملتقي بما يتلقى ويسمع من أفكار ومشاعر وعواطف وأحاسيس وبالتالي تصل القصيدة الى الجمال والذوق الرفيع الذي ينشده القارئ .
لقد اجتمع في تميم الاعتدال بفنية شعره من حيث جزالة اللفظ وأصالته وجودته واللذة والطرب في الإلقاء وهذا لعمري ما اجتمع في واحد إلا سمى في سماء الشعر والامارات ولجنة التحكيم. لقد أحدث تميم بعذوبة لفظه صيحة مدوية في سماء شاطىء الراحه، عبر جمهوره المتقد بنار عاطفته الجياشة وايقاعه الموسيقى الجميل، فالتفاضل الذي يتم بين الشعراء وقصيدهم ليس هين بل في غاية الصعوبة والأهمية لكل منهم، وهذا إن دل فإنما يدل على أن هناك شعراء أكفياء انداد بحق لشاعر يستحق بحق امارة الشعر والشعراء، أن انتظام المقاطع الشعرية عند تميم ما بين العمودي والتفعيلة جعلها كالعقد الذي يتجانس فيه الحب فينتظم أيما انتظام؛ ليعطي شكلاً جميلاً غاية في الروعة والأناقة والدقة والجمال، لقد نسج تميم قصيدته بأروع وأجمل خيوط الفن فكان كلامه ما بين اللحن والغناء منظوماً منسقاً وازن فيه بين أول القصيدة وآخرها فكانت كأنها جملة أو كلمة واحدة أو كأنها جسم متكامل، صحيح سليم الأعضاء وكامل الأوصاف رقيق المعاني فصيحاً بان عن حكمة باهرة اسحر بها الألباب، ومثل هذا الشعر لا يكون مغلقاً ولا يتأزم في الكتابة لأنه واضح المعالم والصور للقاصي والداني والعادي وغير العادي من القراءة، ومثل شعر تميم لا يمر مر الكرام وصفحاًً سريعاً بل لا بد للمتلقي من الوقوف عنده للتمتع بمذاق التعبير الفواح، نعم لا بد من التمعن في أقواله وأشعاره ورصد جميع معانيه فالتعبير القوي هو ما يميز شاعر عن شاعر بجيد القول وكذلك اللذة والشعور الجميل الذي يشعر به المتلقي وهو ما يجعل هذا الشاعر يتميز بجدارة واستحقاق عن ذاك الآخر .
إن مثبطات القراءة لدى القارئ العربي كثيرة ولا يحتاج إلى أكثر مما هو موجود على الساحة العربية للعزوف عن القراءة وخاصة وأننا نوسم بعدم القراءة، فهل نحتاج إلى نصوص مغلقة لتغلق علينا فهمنا واستيعبنا. أن تميم أبطل هذا باستخدامه المتضادات في قصيدة حداثية بمعان جلية واضحة. إن النص المغلق يخلق أزمة في الكتابة لدى الشعراء والقراء على السواء مما يؤدي الى عزوف القراء عن القراءة وهذا للقارئ العادي، أما الغير عادي فهو الذي يفهم من النص المغلق بعض مدلولاته، فإنه قليل وقد لا يفهم هذا أيضاً كل ما قيل في النص.
إن تحديد الشيء هو نقطة البدء للوصول إليه وتميم حدد في قصائده الرائعة ماذا يريد ومن يريد، أنه يريد القارئ العربي، يريد أن يصل إليه من خلال اشعاره المنتقاة بدقة وإناه، وتميم سيعيد للقصيدة العربية مجدها ويبعث الحياة فيها من جديد وسينهض الشعر العربي على يديه لأن شعره ذو نكهة أصيلة وبيان فصيح. سيعيد تميم الروح للشعر العربي برداء جديد من غير ابتعاد عن مفاهيمه العريقة والقديمة الأصيلة فالشاعر الذي يأخذ مادته مما يحيط به سواء بالتخييل أو الواقع ويصيغه صياغة محكمة لهو بحق شاعر خلاق وجدير بالإمارة، فتصوير الجمال ليس بالأمر السهل ولا الهين كذلك، إذ الجمال يستدعي استعمال جميع الحواس من الشم والذوق واللمس والنظر والسمع ولعل الأخير هوالذي ينقله الى الدماغ أسرع فيعزز من استساغته وتطبييه. وصدق الخليل الفراهيدي حيث قال " الشعراء أمراء الكلام يصرفونه آنى شاؤوا " . فالشعر حقاً معجم الألفاظ للشاعر يبثها كيف شاء ومتى شاء لأنه يرى أكثر من غيره من الناس فهو يرى ما لا يرون ويسمع ما لا يسمعون وينطق مالا ينطقون ويدرك ما لا يدركون فله من لذة الأقوال وعذوبة الألفاظ ما يمكنه من سحر الألباب اسمع اليه وهو يقول: " والمعجزات هناك تلمس باليدين"، هذه اشارة واضحة الى معجزة الاسراء والمعراج وكذلك الى مكانة الصخرة المشرفة قبة المسلمين وقبلتهم الأولى أنه يسرد تاريخ المدينة في حكائية غنائية رائعة الجمال وهذه القصيدة هي التي أوصلت أمير الشعراء تميم البرغوثي الى القمة وإلى هذه المرحلة المميزة والمتميزة فكان كلامه ذا حلاوة ورونق جميل، وكان حقاً متن النص الذي يكتبه وحق لكل فلسطيني وعربي أن يعتز ويفاخر بهذا الأنجاز والإبداع الفلسطيني الكبير.
نعم إنها القدس إنها الأرض الفلسطينية والإنسان العربي، إنه الوطن بكل حروفه ومكوناته في عيني شاعر عربي فلسطيني أصيل أكد بصمته الشاعرية بكل جدارة في عروبة هذه المدينة العريقة، فأيكم يا تميم يسكن الآخر، إنك الساكن المسكون وتستحق هذا الثناء والتصفيق بجدارة واقتدار وكنت تستحق الإمارة للشعر والشعراء.