القرصنة فى الصومال و أمن مصر و المنطقة العربية
بقلم د. قاسم زكى [email protected] (أستاذ الوراثة بجامعة المنيا و رئيس الجمعية الأفريقية لعلوم الحاصلات الزراعية، و عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين)
لعل التاريخ يذكر أن من أهم الأسباب التى ساهمت بفاعلية فى انهيار دولة المماليك فى مصر و الشام (1250-1517م) هو اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح لمرور التجارة بالبحر حول أفريقيا، ففد فقدوا أهم مورد إقتصادى بتحصيل المكوس على التجارة المارة فى مصر من شرق العالم إلى غربة. و لكن مع حفر قناة السويس و افتتاحها للملاحة عام 1869م، عاد هذا المصدر الغنى للدخل القومى لمصر من جديد، فهذه القناة تسمح بعبور السفن من أوروبا و أمريكا إلي آسيا، فهي من أهم القنوات والطرق المائية علي الإطلاق وأقصر الطرق البحرية بين الشرق والغرب, فهي توفر المسافة مما يؤدي إلي وجود وفر في الوقت واستهلاك الوقود وتكاليف تشغيل السفن، و تمر منها قرابة 75% من التجارة الدولية و 30% من تجارة البترول. و لكن حاليا يتعرض هذا الممر إلى كارثة ربما تلحق به الكثير من الأضرار، ألا و هى أعمال القرصنة على مدخلة الجنوبي فى خليج عدن و سواحل الصومال، و التى ربما تؤثر على أمن مصر و المنطقة العربية و الملاحة العالمية. فى هذا المقال نتناول خطر عمليات القرصنة فى الصومال و انعكاساتها على الأمن القومى لمصر و المنطقة العربية، و الدور المنط بالدول العربية لتأمين وجودها.
قناة السويس مصدر هام للدخل القومى:
و مما لاشك أن قناة السويس هي دعامة كبري في الاقتصاد المصري, لما لها من إيرادات عظيمة في موازنة الدولة والدخل القومي لمصر، حيث تأتي قناة السويس في المركز الثالث بين مصادر الدخل القومي الأربعة الرئيسية للاقتصاد المصري، إذ أن السياحة تأتي عادة في المركز الأول, تليها تحويلات المصريين العاملين في الخارج, ثم إيرادات قناة السويس, وبعد ذلك يأتي البترول والغاز الطبيعي. و قد حققت قناة السويس إيرادا قياسيا غير مسبوق فى تاريخها، بلغ 570ر4 مليار دولار (ما يعادل 2ر25 مليار جنيه مصري) خلال الأشهر العشرة الأولي من العام الحالي 2008. وأشار بيان أصدرته هيئة قناة السويس إلى أن عائدات قناة السويس تواصل ارتفاعها شهريا بنسب تتراوح مابين 15 و 20 في المائة، فى الفترة السابقة. و قد سجلت القناة خلال شهر أغسطس2008م الماضي أعلى إيرادا فى تاريخها منذ افتتاحها، يقدر بنحو 5ر504 مليون دولار أى 69ر2 مليار جنيه مصري (ما يعادل قرابة 90 مليون جنية مع غروب شمس كل يوم فى ذلك الشهر). يشار إلي أن صافي إيرادات قناة السويس بلغ 5 مليارات و 113 مليون دولار خلال العام المالي الماضي 2007 /2008م. و لعل هذا المصدر للدخل القومي يعد أكثر ثباتا من المصادر الأخرى كالسياحة التى تتذبذب مع ما يسمى علميات الإرهاب، كذا تحويلات العاملين بالخارج و التي تتجه للانخفاض، لذا كان لزاما على الحكومة المصرية المحافظة على هذا المصدر الهام و الذى يقع فى أرضها و تحت أعينها، و كما ذكرنا فهو يزداد يوما بعد يوم.
القرصنة البحرية فى الصومال:
و لكن أحيانا تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، فها هى عمليات قرصنة البحر، و قد أطلت بوجهها القبيح على العالم من جديد من سواحل الصومال، بعد أن نسى العالم مأسى القرون الوسطى تلك، فها هي وكالات الأنباء تبث أسبوعيا خبر اختطاف لسفن قبالة الساحل الصومالي (و الذى يبلغ طولة 3700 كم) و التى كانت من بينها سفينة مصرية أيضا (خطفت فى الرابع من سبتمبر 2008م) و التى ُأطلق سراحها و قباطنتها بعد 3 أسابع بعد سداد فدية قدرها ستمائة آلف دولار. و فى الأول من أكتوبر 2008م الماضى، أعلن مركز مكافحة القرصنة التابع للمكتب البحري الدولي أن قراصنة صوماليين هاجموا و لأول مرة أربع سفن في يوم واحد (اماراتية و فيليبينية و ايطالية و تايوانية)، حيث طارد القراصنة المسلحون ببنادق رشاشة وقنابل يدوية هذه السفن لكنها تمكنت كلها من الفرار بصعوبة، و يقدر عدد القراصنة بهذا الساحل بحوالى آلف و مائة قرصان. و فى تقرير خطير صدر فى الثانى من أكتوبر 2008م، حذر مركز الدراسات الإستراتيجية البريطاني المعروف بمؤسسة "شاتام هاوس" للدراسات في لندن من أن التجارة العالمية تواجه تهديدا خطيرا بالقرصنة قبالة السواحل الصومالية، وذكر المكتب البحري الدولي للمؤسسة ان قراصنة صوماليين هاجموا حوالي ستين سفينة في خليج عدن والمحيط الهندي منذ يناير 2008م، علما بأن هذا الممر تسلكه قرابة 16 آلف سفينة سنويا. وأضاف التقرير «إذا أصبحت كلفة التأمين باهظة وأصبح التهديد كبيرا جدا، فان شركات الملاحة يمكن أن تتجنب خليج عدن وتسلك الطريق الأطول عبر رأس الرجاء الصالح إلى أوروبا وأميركا الشمالية»، و هذا يذكرنا بسبب سقوط دولة المماليك فى مصر إبان القرون الوسطى (1250-1517م). وأوضحت تلك المؤسسة أن الفدى التي حصل عليها القراصنة تستخدم على الأرجح لتأجيج الحرب الأهلية الشرسة التى تدور رحاها منذ عام 1991م فى الصومال و حتى الآن. وجاء في التقرير أيضا «يتراوح إجمالي الفدى التي دفعت عام 2008 مابين 18 و30 مليون دولار. و أن ارتفاع قيمة الفدى التي يطلبها القراصنة يجعل هذا العام الأكثر ربحا بالنسبة لهم على الإطلاق». واستولى القراصنة في واحدة من احدث عملياتهم (17 نوفمبر 2008م) و هى اكبر عملية قرصنة من نوعها في تاريخ الملاحة البحرية، على ناقلة البترول السعودية عملاقة "سيريوس ستار" وهي متجهة إلى الولايات المتحدة، عبر رأس الرجاء الصالح، و التي تبلغ حمولتها قرابة المليونين من براميل البترول بقيمة مائة مليون دولار، و على متنها 25 بحارا و ذلك على بعد 865 كم جنوب شرق ميناء مومبسا الكيني، و طالبوا بفدية قدرها عشرون مليون دولار، و قد سبقتها فى نهاية سبتمر 2008، اختطاف سفينة شحن أوكرانية "فاينا" تحمل 33 دبابة و طلبوا فدية قدرها عشرون مليون دولار أيضا. و حتى تاريخ كتابة هذه السطور، كانت عملية يوم الثلاثاء (25 نوفمبر 2008م)، و اختطاف سفينة الشحن اليمنية "أمانى" في خليج عدن، هى أخر هجماتهم الناجحة، و التي أفرجوا عنها بعد ذلك (3/12/2008م) دون فدية بعد مفاوضات بين الخاطفين وشيوخ محليين ومسئولين إقليميين..و فى ذات اليوم ُأعلن أن قوات خفر السواحل اليمنية أنقذت ناقلة نفط سعودية (مأمنة) من هجوم شنه عليها قراصنة صوماليون في بحر العرب.
هذا يتم على الرغم من تواجد قطع بحرية لدول كثيرة فى هذا الساحل، منها الروسية و الهندية و الكندية و الماليزية و الأوربية، و تواجد الأسطول البحري الأمريكي و الذي أعترف قائدة بصعوبة مقاومة القرصنة فى هذا الساحل. و لعل تلك القرصنة أصبحت تهدد التجارة العالمية وتنذر بأوخم العواقب على الأمن البحري في المنطقة، و مع استمرارها تلوح فى الأفق كارثة اقتصادية كبيرة بما تمثله من تبعات مالية مرهقة على الاقتصاد العالمي بأكمله. و حيث أن 30% من الملاحة البترولية يمر بالبحر الأحمر، فإن الدول العربية البترولية لا بد أن تتأثر بارتباك الملاحة في هذا الممر خاصة دول الخليج العربية التي يمر جزء كبير من صادراتها البترولية إلى أوروبا عبره. و إلى الآن لم تتأثر كثيرا الملاحة فى قناة السويس، كما ذكر ذلك رئيس هيئتها وقال أن غالبية السفن العابرة للقناة بشكل عام سفن عملاقة ذات حمولات ضخمة وتلتزم بالخطوط والطرق الملاحية الآمنة البعيدة عن السواحل الصومالية ، ولا تستطيع لنشات القراصنة اعتراضها أو الصعود عليها، و لكن تأتى حادثة الناقلة السعودية لتقلب الأوضاع، فيبدو أن القراصنة يطورون أساليبهم يوما بعد يوم، و لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما يمكن أن يحدث غدا إذا أستمر الحال على ما هو عليه فى هذا الساحل. و لعل ما أعلنته النرويج فى 18 نوفمبر 2008، من بدأ تحرك سفنها بعيدا عن مخاطر القرصنة و الدوران حول رأس الرجاء الصالح، لهو الخطر بعينة على ممرات المنطقة العربية الملاحية و أولها قناة السويس.
الدور المصرى فى الماضى:
و لعل سواحل البحر الأحمر و القرن الأفريقي تشهد بدور تاريخى مصرى فاعل (إبان حكم الخديوى إسماعيل 1863-1879م). ففى العقد السابع من القرن التاسع عشر الميلادي، رفرف علم مصر خفاقا معلنا خضوع مناطق شرق أفريقيا و سواحلها و حتى أقصى جنوب الصومال و أوغندا بالداخل (و برضاء غالبية أهلها) لسلطة مصر، و التى خاضت غمار مياه البحر الأحمر و خليج عدن و المحيط الهندى و مناطق شرق أفريقيا الداخلية لمنع تجارة الرقيق و مصادرة سفنها. و هذا يوضح مدى ما وصلت إلية سمعة مصر حينذاك من قوة و احترام. و قد سارت الجهات الأفريقية التى وصل النفوذ المصرى إليها حينئذ فى طريق الحضارة و المدنية الحديثة لما وفرته مصر من أمن و استقرار و سهلت سبل المواصلات البرية و المائية، ونهضت بمستوى الزراعة و الصناعة و التجارة و عملت بقدر استطاعتها على مناهضة تجارة الرقيق. أيضا لا ننسي ما قام به رجال القوات البحرية المصرية و بتنسيق يمنى، قبيل العبور في الـ6 من اكتوبر1973 م, من السيطرة وغلق مضيق باب المندب في وجه الملاحة الإسرائيلية, مما مهد للنصر العظيم.
الدور المصرى و العربى المطلوب فى الحاضر:
و اليوم فإن مسئولية مصر و أخواتها العربيات أكبر و أعظم مما كانت علية، فقد تولت مصر رئاسة مجلس السلم والأمن الإفريقي (التابع للإتحاد الأفريقي) منذ مارس الماضي 2008م و هو الجهاز المنوط به تعزيز السلم والأمن والاستقرار في القارة, من أجل ضمان وحماية وحفظ حياة وممتلكات ورفاهية الشعوب الإفريقية وبيئتها, وكذلك إيجاد الظروف المواتية لتحقيق التنمية المستدامة والعمل علي إحلال وبناء السلام لتسوية النزاعات وتنسيق الجهود الرامية إلي منع ومكافحة الإرهاب الدولي. و هاهي النار اقتربت من مصر و أخواتها العربيات فى المنطقة، فلابد من القيام بدور فاعل للمساهمة فى حل نزاعات إفريقيا و التى تؤثر سريعا و قويا على أمن المنطقة القومى، لعله فى أولها دخل قناة السويس. فمصر التى قادت مشعل التقدم فى إفريقيا و العالم كله، ينتظرها دور هام فى قارتها الأم، و لعل نجاحها فى فك اسر رهائن الجلف الكبير من سياح أجانب (تم اختطافهم و مرافقيهم من المصريين، يوم الجمعة 19/9/2008م، على الحدود الجنوبية الغربية لمصر)، و كذا السفينة المصرية من إيدى قراصنة الصومال، يزيد من أسهمها فى استعادة دورها القيادي فى القارة السمراء، بعد خفوت دام قرابة ثلاثة عقود و أطمع ضعاف النفوس فى القارة و خارجها فى كسر شوكة مصر و تضيق الخناق عليها. و يساعد فى قيامها بدور تاريخى فى منع القرصنة و المحافظة على ممر قناة السويس حيا، ما أبداه الاتحاد الأوروبي من استعداده للمشاركة في عملية عسكرية جوية وبحرية للتصدي لإعمال القرصنة قبالة سواحل الصومال. كما اصدر مجلس الأمن الدولي في الثاني من يونيو 2008م القرار 1816 و تم تجديده فى الـ3 من ديسمبر 2008م، الذي يتيح تدخل سفن حربية لمطاردة القراصنة في المياه الإقليمية الصومالية التي باتت تعتبر الأخطر في العالم. كذلك اقتراح مؤسسة "شاتام هاوس" انشاء شرطة بحرية يسمح لها بالتحرك وتديرها الأسرة الدولية لإنهاء هذه الظاهرة، و ان هذه القوة يمكن ان تقودها الامم المتحدة والاتحاد الإفريقي، وان تمول من صناديق خارجية. فلابد لمصر من أن تتصدر هذا التحرك فهو فى مصلحتها أولا و جريانها ثانيا، و عليها تعلم الدرس من تأخرها فى حل أو المشاركة فى حل مشكلتي الجنوب و الغرب لجارتها الشقيقة السودان. لذا على مصر و أخواتها العربيات تبنى دور عربي و أفريقي فاعل لحل المشكلة الصومالية أولا و التى عانى و ما يزال يعانى شعبها العربى الكثير من الويلات، و فشلت من قبل الوساطات العربية و كذا لحقتها الأفريقية فى نزع أسباب الشقاق بين فرقاء الشعب الواحد. و لعل التحرك الأخير لدول حوض البحر الأحمر العربيات (مصر و السعودية و الأردن و السودان و اليمن و الصومال) و معهم إريتريا فى منتصف نوفمبر 2008 فى القاهرة، و كذلك جامعة الدول العربية للبحث عن حل لحفظ أمن المنطقة، لهو الصواب بعينة،. و إعلان مصر (3/12/2008م) عن استعدادها للمشاركة في قوة دولية لمواجهة عمليات القرصنة قبالة سواحل الصومال وخليج عدن، لهو لأكبر دليل على اهتمامها بتلك الكارثة، فإن لم تقم الدول العربية بهذا الدور، فسوف تقوم به دول أخرى أجنبية، و يصبح أمن المنطقة فى أيدى غير عربية مما يكون ضربة قاتلة و ربما للأبد للأمن القومى العربى. و لعلى أرى أن الحل يبدأ من داخل الصومال و ليس مياهها، فمن المحتم أن وجود سلطة الدولة الوطنية المركزية التي تحظى بالشرعية الشعبية خير ضمان لحماية الاستقرار في الداخل والأمن في المياه الإقليمية الصومالية. و التى تصل موجاتها الآمنة إلى البحر الأحمر و قناة السويس.
ساحة النقاش