أوجز البيان حول رسالة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

 لشيخ الإسلام ابن تيميَّة(ت728هـ رحمه الله تعالى)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العليم الغفار، الحكيم القهَّار، مكوِّر الليل والنهار، بيده وَحْدَه فَناء الخلْق وانقضاء الأعمار، ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ [الأنعام: 103]، ولا تغيِّره الأعصارُ، ولا تتوهَّمه الأفكار، ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8]، سبحانه، لا يخفى عليه شيءٌ مِنْ ﴿ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10] والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ النبي المختار، خيرِ مَنْ أظلَّتْه سماءٌ وتعاقب عليه ليلٌ ونهارٌ، وعلى آله الأكرمين الأطهار، وصَحْبه الصالحين الأخيار.

أما بعد

فسيدور الكلام حول رسالة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

 لشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى من خلال مقدمة وملخص للرسالة من خلال عشرة أمور:

أما المقدمة فتشمل ما يلي:

*** ترجمة موجزة للمؤلف شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى :

http://www.alukah.net/Literature_Language/0/23518/

حياة هذا الإمام مليئةٌ بالأمور الجليلة القدْر، كثيرة المعارِف، متشعِّبة المسالِك، بحيث يصحُّ أن تُفرَد كل مرحلة من مراحل حياته، أو يفرد كل جانب مِن جوانب شخصيته بمصنَّف مستقل، ودراسة فاحِصة لها، تبحث عن الدُّرِّ المكنون بيْن صدفاتها، لكن هذه إطلالة على بعضها - كما هو دأبُ الباحثين - وسيكون ذلك خلال ما يلي:

اسمه: هو الإمام الربَّاني، الفقيه المجتهد، المجدِّد، بحْر العلوم العقلية والنقلية، شيخ الإسلام، تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدِّين أبي المحاسن عبدالحليم بن الشيخ الإمام مجد الدين أبي البركات عبدالسلام بن أبي محمَّد عبدالله بن أبي القاسم الخَضر بن محمَّد بن تيميَّة بن الخضر بن علي بن عبدالله النميري.

لقبه: لُقِّب بشيخ الإسلام، وبابن تيمية، وغالبًا ما يُجمع بينهما فيقال: شيخ الإسلام ابن تيمية.

كنيته: كني بأبي العباس، مع أنه لم يتزوَّج.

ولادته: وُلِد الإمام ابن تيمية في يوم الاثنين 10 ربيع الأول سنة 661 هـ في حران.

أسرته: وهي أسرةٌ معروفة بالعِلم والصلاح؛ إذ إنَّهم يتوارثون العلم فيما بينهم، وكانت لهم الصَّدارة في المسجد الجامع، ومِن هذه الأسرة الطيبة الإمام مَجْد الدين بن عبدالسلام، وولده الإمام الشيخ عبدالحليم والد الإمام أحمد ابن تيمية، وكانتْ هذه الأسرة تسلك في التدليلِ على المسائل العقدية والفقهية مسلكَ الحنابلة، فشرِب الإمام العلمَ منذ نعومة أظفاره في حجْر أبيه، فكان للعلم تقديرٌ خاص لديه؛ بسبب إجلال أسرته للعلم، وشهرتها به، فدرس علومَ الشريعة المختلفة منذ صِغَره، حيث كان يحضر المحافلَ العامة، فكان يناقش ويردّ ويفتي وهو في ريعان الشباب، حتى إنَّه تولَّى الدرس بعد موت أبيه، وحضَر له كبارُ أئمَّة ذلك العصر، وأُعجِبوا من علمه، وسُرعة استحضاره، مما يشهد ببراعته منذ صِغره.

نشأته: لقد أثَّرتْ فيه بيئتُه أيَّما تأثير؛ ذلك أنَّ البيئةَ المحيطة به بيئةُ عِلمٍ وصلاح، "فنشأ بها أتمَّ إنشاءٍ وأزكاه، وأنبته الله أحسنَ النبات وأوفاه، وكانت مخايلُ النجابة عليه في صِغره لائحة، ودلائلُ العناية فيه واضحة، [وقد أثَّرت فيه هذه النشأة أيَّما تأثير، وجعلتْه منذ] صِغره مستغرقَ الأوقات في الجِد والاجتهاد، فختَم القرآن صغيرًا، ثم اشتغل بحِفظ الحديث و[دراسة] الفِقه والعــربية، حتى برع في ذلك، مع ملازمة مجــالس الذِّكْر وسمــاع الأحاديث والآثار"، فنُموُّه في تلك البيئة جعله من المنهومين بطلب العلم، والناهلين من منابعِ المعرفة بعَينٍ فاحصة متخصصة، ثم ظهر ذلك من خلال كتاباته وتآليفه ومواقفه؛ دفاعًا عن الشريعة الغرَّاءِ بكل ما يستطيع من جهْد، وبكلِّ ما أُوتي من قوة، وهذه ثمراتُ نشأته الأولى، وبيئته وأسرته؛ إذ اكتحلتْ عيناه برؤية كِبار علماء عصره، وشنفتْ أذناه بسماع الحديث والآثار مِن أئمة عصره، فارْتشَف العلم منذ نعومة أظفاره، ممَّا كان له أكبرُ الأثر في تكوين مَلَكته العلمية، والتي أهَّلته للإمامة عبرَ العصور.

شيوخه وتلاميذه:

إنَّ نفْسًا عملاقة كنفْس الإمام ابن تيمية، تُنبئ عن تعدُّد مناهِل المعرفة، وتنوُّع روافد أصول العلم التي تلقَّى ثقافتَه ومعرفته مِن خلالها، وهذا بدوره يؤكِّد أنَّ الإمام ابن تيمية قد تلقى العلم على أيدي كثيرٍ من الشيوخ والشيخات، وتعددُ الشيوخ والشيخات راجعٌ إلى تعدُّد روافده، وتنوع العلوم التي درسَها، والمعارف التي تلقَّاها، واستوعبتْها ذاكرتُه الحديدية، وأدركها بعقله الكبير، وطبيعي أنَّ مَن هذه أحوالُه - إضافة إلى ترجمته الحافِلة بأنواع شتَّى من جهاد وتعليم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولهج بذِكْر الله، وحسن عِشْرة ومعاملة، وزهد في منصب وفي دنيا - أن يكون لـه تلاميذُ يحملون عنه عِلمَه الغزير، وهؤلاء الذين تلقوا عنه، أصبح كلُّ واحد منهم إمامًا.

أما شيوخه: وهم الذين تلقَّى على أيديهم أصولَ العلم والمعرفة منذ صِغره، بل ظلَّ كذلك يستفيد مِن أهل العلم في كِبره من الأئمَّة من شيوخ عصره وشيخاته، "وشيوخه الذين سمع منهم أكثرُ من مائتي شيخ"، كما سمع من أرْبع شيخات، فسمع الحديث من الإمام ابن عبدالدايم، ومن شيوخه والده الإمام شِهاب الدين أبو المحاسن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، ومنهم الإمام عبدالرحمن بن محمَّد بن قدامة، والشيخ علي الصالحي ، والشيخ عفيف الدين عبدالرحمن بن فارس البغدادي، والشيخ المنجا التيوخي، والشيخ محمَّد بن عبدالقوي، والشيخ شرَف الدِّين المقدسي، والشيخ الواسطي، والشيخ محمَّد بن إسماعيل الشيباني، ومن الشيخات فعمَّتُهُ ستُّ الدار، والشيخة أمُّ الخير الدمشقية، والشيخة أمُّ العرب، والشيخة أمُّ أحمد الحرانية، والشيخة أم محمَّد المقدسية، فهؤلاء الشيوخ والشيخات وغيرهم، تلقَّى على أيديهم وتعلَّم، وكان لهم أبرزُ الأثر في عِلمه وسلوكه، ونبوغه وعبقريته وألمعيته.

وأما تلاميذه: إنَّ شخصيةً كشخصية الإمام ابن تيمية لا بدَّ وأن يكون لها آثارٌ بارزة؛ لهذا فقد تأثَّر به وبمنهاجه الكثيرُ، كما لازمه كثيرون، وأصبحوا من خواصِّه، وتتلمذوا على يديه، ونهلوا من مَعِينه الصافي، بحيث أصبح الواحدُ منهم بعد ذلك إمامًا في فنِّه، ومشكاةً يضيء للآخرين بما أُوتي من فَهْم ثاقب، وعلمٍ غزير، ومن هؤلاء التلاميذ: الإمام ابن قيِّم الجوزية، والإمام الذهبي، والإمام ابن كثير، والحافظ البزار، والإمام ابن عبدالهادي، والشيخ الواسطي، والشيخ ابن الوردي، والشيخ ابن رشيق، والإمام ابن مُفلِح، وغيرهم الكثير والكثير، والذين قد حملوا عِلمَه، وسلَكوا منهاجَه في تبليغ الشريعة.

وبالنظر إلى تلاميذ هذا الإمام العملاق، تظهر منزلتُه، ويبين قدرُه، فإذا كان تلاميذه أئمة، ولهم من العلم ما لهم مِن تآليف، وتولٍّ لقضاء أو إصلاح، فكيف يكون قدرُ أستاذهم وشأنه؟!

إنَّه بحر لا ساحلَ له، وموسوعةٌ عِلمية ومكتبية متنقِّلة، مع العلم والعمل، والزهد وترْك المناصب، واللهج بذِكْر الله - عز وجل - والدعوة إلى نُصْرة شرْعه بنفسه ورُوحه وماله كله، وهذا معروفٌ وواضح من أحواله، بما ترجم له مَن رآه، أو رأى مَن رآه، وبما تواترتْ أخباره بيْن ناقليها مِن جميع فئات شعبي دمشق ومصر، وبما ترَك خلفَه من آثار: سواء في تلاميذ، أو كتب، أو إصلاح.

مِن مِحْراب العلم إلى مَيْدان القتال:
العالِم الربَّاني عابدٌ لله - تعالى - في كـل وقت، وعلى أيِّ حال، فإنْ كان في المسجد فهو المعلِّم الواعظ المرشِد، وإنْ كان على مِنبر فهو الخطيب المصقاع، وإنْ كان في الطريق، فهو ذاكِرٌ لله - عز وجل - آمِرٌ بمعروف أو ناهٍ عن منكر أو ناصح، وإنْ دعا داعي الجهاد كان أوَّلَ الملبِّين، وإنِ التحم الصفَّان كان هو المقاتلَ الصنديد، والمدافعَ المِقْدام الشجاع، وإنْ كان هناك مكانٌ شاغر من أماكن المرابطة، كان السابقَ إليه؛ لعلمه بفضْلِه وأهميته، كما أنَّ العالم يدخل بيْن الصفوف يشجِّع الجنود، ويُعلي مِن هِممهم، ويتلو عليهم آياتِ الجهاد والشهادة والمرابطة، ويَعِدهم بالنصْر الذي وعَد ربُّهم، وكان هذا حالَ الإمام ابن تيمية، فمَع أنه يعلِّم، فهو يقاتل، ولقد "كان الإمام ابن تيمية عاكفًا على الدَّرْس والفَحْص، والوعظ والإرشاد، وبيان الدِّين صافيًا نقيًّا، كما نزَل على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكما تلقَّاه السلف الصالح - رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم أجمعين.

مِحَنُه وابتلاؤه:
"أما مِحَنه، وهي التي كانت ملازمةً له في حياته، و"لسنا نقصد بمِحْنة الشيخ إهانتَه، فقد عاش - رحمه الله - معزَّزًا مكرمًا، حتى في محْبَسه، فحيثما حلَّ كان الإجلالُ والاحترام؛ وإنما نقصد بالمِحْنة: الحبس وتقييد حُريَّته في الخروج والدعوة"؛ إذ العالِم أشد شيءٍ على نفسه حبسه عن تبليغ شرْع الله، وعدم تعليمه الناس، والمسلِم يبتليه الله - سبحانه وتعالى - بابتلاءات، وهي "محنٌ من الله - تعالى - يبتليه بها، ففرْضُه فيها الصبر والتسلِّي".

وهي في ظاهرِها مِحن، ولكنَّها مِنَح وعطايا في صورة بلايا، وإنَّما ابتُلي هذا الإمام بتلك المحن على مرِّ سِنِي عمره؛ نظرًا لأنَّه قد "بلغتْ مكانته الذروةَ، فقد علا على المنافسة، وصار اسمُه في كلِّ مكان، وكان ذا عزيمة من حديد، ولسان ذرب قوي، وإرادة عاملة، وقد كان ذلك لمصلحةِ الإسلام والمسلمين، وقد أثارتْ منزلته حِقدَ مَن لم يبلغ شأوَه من هذه الصفات، ولم يصلْ إلى مرتبته منها".

فصدْعُه بالحق مع إخلاصه، جعلاه كالشامة بيْن علماء عصره، والذين قبعوا على التقليد الأعْمى، أو التعصُّب المقيت، أو الهوى؛ طمعًا في منصب لا يدوم، "وهكذا نجد ابنَ تيمية المصلح والمربِّي، يدخل في معركة متعدِّدةِ الجبهات، ويحارب على مختلف الواجهات؛ دفاعًا عن مصدرية القرآن والسُّنة، ودحضًا لكلِّ وساطة مهما كان شكلُها وصاحبها، مما ألَّب عليه خُصومَه من المذاهب والطرق، وسلطان زمانه الذي أدْخله سجنَه، حتى مات فيه - رحمه الله - لكنَّه ترَك لنا تراثًا ضخمًا، يؤصِّل فيه للمنهج التوحيدي في مجال التديُّن وتربية الناس عليه، شكَّل مادةً مرجعية هامَّة للحركات الإصلاحية التي جاءتْ بعد".

وعلى كلٍّ، فمِحن هذا الإمام جعلَها الله - سبحانه - مِنحًا عليه وعلى مَن حلَّ ومكث عندَهم، فلما "سار إلى مصرَ، وكان ذلك سنة 705هـ، وحيثما حلَّ كان نورًا وهداية، فعندما مرَّ بغزة عقَد في جامعها مجلسًا كبيرًا، وألْقى درسًا من دروسه الحَكيمة... وكذلك في سنة 707هـ قام بالتدريس في مصر، حتى نفَعَ الله به خَلْقًا كبيرًا، ورَأَوْا فيه رجلاً خالصًا في قلْبه وعقْله لله ربِّ العالمين".

ولكن كان ما كان مِن أصحاب الحَسَد الدفين في قلوب المرْضى من هؤلاء، إنَّما كان لجهره بكلمة الحقِّ وخضوعهم، ولأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتركهم، ولمحبَّة الناس لـه، بل إنَّ منهم مَن وشى ضدَّه عند ذوي السلطان؛ لأنَّه خالفهم في آرائهم؛ كغُلاة المتصوِّفة والمبتدعة، وجهلة المقلدة، وأصحاب المناصِب والخائفين على أماكنهم، والذين قد باعوا دِينَهم بدنيا غيرهم.

وكذلك حياةُ الإمام منظومة مِن المِحن تتابعتْ عليه، حيث إنَّه سُجِن سبع مرَّات: أربع مرات بمصر، بالقاهرة والإسكندرية، وثلاث مرَّات بدمشق، وكانت بداية السجن له حينما بلَغ الثانية والثلاثين من عمره، وبعد عودته من الحج، حيث بدأ تعرُّضه لأخبئةِ السجون، وبلايا الاعتقال والترسيم عليه؛ "أي: الإقامة الجبرية" خلالَ أربعة وثلاثين عامًا، ابتداءً من عام 693هـ إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق، يومَ الاثنين 20 ذي القعدة سنة 728هـ، ولسجناته أسباب متعدِّدة.

وفاته: تُوفِّي الإمام ابن تيمية في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة سنة 728هـ، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوسًا بها، وحضَر جمعٌ كثيرٌ إلى القلعة، وأُذِن لهم في الدخول عليه، ثم انصرفوا، واقتصر الجلوسُ على مَن يُغسِّله، أو يساعد على تغسيله، وكانوا جماعةً من أكابر الصالحين، وأهل العلم كالمِزِّيِّ وغيره، وما فُرغ من تغسيله حتى امتلأتِ القلعة وما حولها، واجتمع الخَلْق بالقلعة والطريق إلى الجامِع، ولمَّا سَمِع الناس بموته لم يبقَ في دمشق مَن يستطيع المجيء للصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك، وضجَّ الناس بالبكاء والثناء والترحم، وأُخرج الشيخ إلى جامع بني أُميَّة؛ ظنًّا أنه يسع الناس، فصُلِّي عليه في الجامع، وبقي كثير من الناس خارجَ الجامع، ثم حُمل على أيدي الكبراء والأشراف، ومَن حصل له ذلك مِن جميع الناس، ووضع بأرْضٍ فسيحة متسعة الأطراف، وصلَّى عليه الناس، وأخرج النعش، واشتد الزحام، وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب، والترحم عليه والثناء والدعاء له، وصار النعش على الرؤوس، تارةً يتقدم، وتارةً يتأخر، وتارة يقف حتى يمرَّ الناس، وصرخ صارِخ: هكذا تكون جنائز أئمَّة السُّنة، فبكى الناس بكاءً كثيرًا، ووضعت الجنازة فدُفِن في مقبرة الصوفية، وكان دفنه قبلَ العصر بيسير، وحُرز مَن حضر من النساء بـ(15) ألفًا، والرِّجال ما بين (60 - 200) ألف، ولم يُرَ لجنازة أحدٍ ما رُؤي لجنازته مِن الوقار والهَيْبة، والعظمة والجلالة، وتعظيم الناس لها، وتوقيرهم إيَّاها، وتفخيمهم أمْر صاحبها، وثنائهم عليه، إلاَّ ما كان للإمام أحمد بن حنبل؛ لِمَا كان عليه من العِلم والعمل، والزهادة والعبادة، والإعراض عن الدنيا، والاشتغال بالآخرة، وكانت وفاته قد ابتدأتْ بمرَضٍ يسير.

ولقد فاضتْ رُوح هذا الإمام إلى بارئها، وهو على حاله مجاهدًا في ذات الله - تعالى - صابرًا محتسبًا، لم يجبن ولم يهلَعْ، ولم يضعف ولم يتتعتع؛ بل كان إلى حين وفاته مشتغلاً بالله عن جميع ما سواه، وإنَّ مِن حُسْن الختام لهذا الإمام أن يموتَ  بعد ختمه للقرآن إحدى وثمانين ختمة وفاضت روحه بعد انتهائه من قراءة قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54 - 55].

*** اسم الرسالة في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميَّة : الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.

*** موضع الرسالة ضمن مجموع الفتاوى ،جـ11ص156_310 ،واسم المجلد:"التصوف" ؛ولهذا ناسب وضعها هنا كما هو صنيع جامع مجموع الفتاوى العلامة عبدالرحمن بن قاسم(ت 1392ه رحمه الله تعالى) بمساعدة ابنِه الشيخ محمد (ت 1421ه رحمه الله تعالى).


 

***[تنبيه1]:

هذه الرسالة تختلف عن رسالة أخرى ضمن مجموع الفتاوى أيضاً بعنوان :الفرقان بين الحق والباطل ،جـ13 ص 5_ 230 ،واسم المجلد "كتاب التفسير".        

*** كلمة الولي في اللغة العربية لها معانٍ متعددة منها:

فالولي= الرب=المالك=السيد=المُنعِم==المُعتِق=المُحِب=المُحَب=التابع=الجار= القريب(ابن العم/الصاحب)=الحليف(العقيد)= الصهر=العبد=المُنعَم عليه=المعين==النصير.

 

***سؤال1:هل للولاء أركان؟

جواب1:نعم ركنان هما المحبة والنصرة çççالوَلاية=محبة+نصرة.

سؤال2:من سادات الأولياء في الشريعة المحمدية الغراء؟

جواب2: الأنبياء وفي مقدمتهم سيدنا محمد عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام ثم صالحو المسلمين وفي مقدمتهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين ثم من سار على دربهم من الموحدين إلى يوم الدين. 

***سؤال3:هل الموالاة نوع واحد؟

جواب3:لا بل نوعانê

أ_مكفِّرة: يحب الكفار وينصرهم على المسلمين لأجل كفرهم وبغضاً للإسلام والمسلمين ورضاً بإعلائهم على المؤمنين.

ب_  غير مكفِّرة:يحب الكافرين وينصرهم ويوادهم من أجل المصلحة الدنيوية وليس بغضاً للإسلام والمسلمين.

*** سؤال4: هل انعدام الموالاة ينقض الإيمان؟

     جواب4: نعم ،عدمها ينفي أصل الإيمان فقد ثَبَتَ في مُسْنَدِي الإمامين أحمد وأبي داود الطيالسي في عن البراء بن عازب رضي الله عنه بسند حسنه الشيخ الأرنؤوط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ  أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ » وفي رواية الإمام الطبراني في معاجمه الثلاثة  وصححه الحاكم وحسنه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ الْوَلَايَةُ فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِيهِ، وَالْبُغْضِ».

وفي  مُسْنَدِالإمام أحمد وسنن أبي داود والمختارة للضياء المقدسي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، وَأَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَنْكَحَ لِلَّهِ، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ» ورواه الإمام الترمذي وحسنه واللفظ له والحديث صححه الألباني وحسنه الأرنؤوط.

***[فائدة1]:

أ_ هناك رسالة ماتعة بعنوان :"أوثق عُرى الإيمان" للشيخ سليمان (1233ه)بن عبد الله (ت1242هـ )بن الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب (ت1206ه)رحمهم الله تعالى وهي ضمن مجموعة التوحيد،ص366_ 376.

ب_ هناك رسالة ماتعة بعنوان :"حكم موالاة أهل الإشراك" للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب رحمهم الله تعالى وهي ضمن مجموعة التوحيد،ص377_ 389.

***[لطيفة1]:

سُئل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب رحمهم الله تعالى عن الموالاة والمعاداة، هل هي من معنى "لا إله إلا الله" أو من لوازمها؟ [كما في رسالة حكم السفر إلى بلاد الشرك ، وهي ضمن مجموعة التوحيد،ص390]

الجواب: أن يقال؛ الله أعلم.

لكن بحسب المسلم أن يعلم؛ أن الله افترض عليه عداوة المشركين، وعدم موالاتهم، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان، ونفى الإيمان عمن يواد من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أو إخوانهم أو عشيرتهم - وأما كون ذلك من معنى "لا إله إلا الله" أو لوازمها؟ فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك.

إنما كلفنا؛ بمعرفة أن الله فرض ذلك وأوجبه، وأوجب العمل به، فهذا هو الفرض والحتم الذي لا شك فيه.

ومن عرف أن ذلك من معناها، أو من لوازمها؛ فهو حسن وزيادة خير، ومن لم يعرفه؛ فلم يكلف بمعرفته، لا سيما إذا كان الجدال والمنازعة فيه مما يفضي إلى شر واختلاف ووقوع فرقة بين المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان، وجاهدوا في الله، وعادوا المشركين، ووالَوُا المسلمين على أن الاختلاف قريب من جهة المعنى. والله أعلم.

وأما ملخص الرسالة فتشمل عشرة أمور :

أولها:ثبوت الولاية للرحمن وثبوت الولاية للشيطان.

ثانيها: حد الولي وإيراد الأدلة على ذلك:

1_كل مؤمن تقي هو لله تعالى ولي.

2_يوالي المؤمنين ولا يوالي أعداء الله تعالى.

3_لا يسارع في الكافرين خشية الدوائر.

4_كثير التقرب إلى الله تعالى بالنوافل.

5_إذا رؤي ذُكر الله تعالى لهديه وسمته.

6_متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

7_ قد يُجْري الله تعالى على يديه خوارق عادات من[ إرهاصات ومعجزات للنبيين عليهم الصلاة والسلام]و[ معونات أو فِراسة أو كرامات ومنها المكاشفات للصالحين والمتقين]، كما أن أولياء الشيطان تظهر على أيديهم خوارق العادات مثل[الاستدراج والاحتقار والإهانة للأشقياء والضالين المجرمين].

***[لطيفة2]:

أ_ في رسالة العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى كما في مجموع الفتاوى،جـ3ص156 : "وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الْأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ [فِرَقِ]الْأُمَّةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".

ب_ في مجموعة مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهَّاب رحمه الله تعالى ،جـ5ص10  أنه قال:" وأقر بكرامات الأولياء ومالهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئاً ولا يُطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله".

8_ مهما بلغ من الدرجات الولي؛ فهو قطعاً دون النبي.

 

[تنبيه2]:

غُلاة أهل البدع والضلالة عندهم جهل مركب حول الولي من حيث تقديمه على النبي كما أنهم يفضلون النبي على الرسول

كما قال أحدهم وبئس ما قال:

مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ... فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيِّ!!

 وهذه طوام وظلمات بعضها فوق بعض

أما عقيدة أهل السنة والجماعة فإن النبي أفضل من الولي كما أن الرسول أفضل من النبي ولخص ذلك الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت321ه رحمه الله تعالى) في عقيدته،ص13 فقال ونعم ما قال رحمه الله تعالى:" وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ".

ثالثها: أولياء الرحمن على درجات[أبرار ومقربون ،وبين في مواضع من كتبه أن  حسنات الأبرار سيئات المقربين كما في مجموع الفتاوى ،جـ8 ص77  وجـ11 ص415 وجـ15 ص51 وجـ 18ص383 ومسألة الغني الشاكر والفقير الصابر كما في مجموع الفتاوى ،جـ 11ص 21وص122 وص وص195 في وتوقف الإمام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى عن المفاضلة بينهما كما هي عادته في المفاضلات أن لكل فضلاً يخصه وأن أفضلهما أتقاهما ] وأولياء الشيطان في دركات كالكلام عن الأقطاب والأئمة والأوتاد  والأغواث والأبدال والنقباء والنجباء  وسلطان الأقطاب غَوْثُ الأغواث وَهَذَا قُطْبُ الْأَقْطَابِ وَهَذَا قُطْبُ الْعَالَمِ وَهَذَا الْقُطْبُ الْكَبِيرُ وَهَذَا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ والفرد الجامع و...وبين هذا في هذه الرسالة وفي غيرما موضع من كتبه، وسائر تلك المراتب التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان بل من طواغيتهم اللئام، وممن اتبعوا الشيطان.

رابعها:قد يكون في الناس إيمان وشعبة نفاق أو جاهلية أو معصية ومع هذا لا تُسلب منه رتبة الولاية.

خامسها:أولياء الرحمن ليس لهم شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر فلا لون أخضر لآل البيت، ولا لبس الصوف للزهد، كما أنهم لايتركون العبادات، ولا ينكلون عن الجهاد،  ولا ينقطعون عن الخلق، ولا يصمتون صمتاً مطلقاً، ويتمسكون بالهدي الظاهر والباطن بالشريعة المحمدية الغراء.

سادسها:الولي غير معصوم وإن الناس حيال الولي ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

أ_  يسلِّمون إليه جميع أمورهم ويتبعونه كلية.

ب_ لا يجعلون الولي معصوماً ولا مأثوماً فلا يتبعونه في كل ما يقول ولا يحكمون عليه بالكفر والفسق على اجتهاده.

 ج_ يخرجونه من الولاية لمخالفته الشرع.

***[فائدة2]:

[ذكر الإمام تاج الدين السبكي(ت771ه رحمه الله تعالى ) في طبقات الشافعية الكبرى،جـ2ص318 أن الإمام أبا القاسم الجُنَيْد(ت 298ه رحمه الله تعالى)] سئل عن وقوع الولي في المعصية ومبيناً" أَن الْكَرَامَة لَا توجب عصمَة الولى وَلَا صدقه فى كل الْأُمُور[ فقال: ]سُئِلَ شيخ الطَّرِيقَة ومقتدى الْحَقِيقَة أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد رَحمَه الله أيزنى الولى؟! فَقَالَ : {وَكَانَ أَمر الله قدرًا مَقْدُورًا} الاحزاب38".

فجواب الإمام أَبي الْقَاسِم الْجُنَيْد رَحمَه الله تعالى ينص على عدم عصمة الولي وأنه ابتلي فزلت قدمه ووقع في الزنا وأن الله تعالى قدر كل شيء ومما قدره الله ونهى عنه الزنا ولو لم يكن الجواب بهذا الإيجاز لطرح سؤال نفسَه:أمعصومٌ الولي؟!

ثامنها: تفصيل الكلام على الفرق بين الكرامة والمكاشفة والفِراسة وخوارق العادات وأن الكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة المرضيين رضي الله عنهم أجمعين.

تاسعها:ما يحدث من خوارق العادات لأولياء الشيطان إنما هي أحوال شيطانية

عاشرها:تكليف الجن وحالهم مع الإنس وحكم استخدامهم وعدم الاغترار بكلام الجن للإنس فربما يفتنون من يستخدمهم.

والحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيِّدنا محمَّد وآله وصحْبه والتَّابعين، كلَّما ذكَره الذاكرون، وغفَل عن ذِكْره الغافلون.

كتبه

أبو حمزة

 

محمود داود دسوقي خطابي

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 117 مشاهدة

ساحة النقاش

محمود داود دسوقي خطابي

Islamisright
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

264,018