عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
http://www.alukah.net/Literature_Language/0/23292/
عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
شيخ الإسلام أحمدبن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية الحراني
(661 - 728هـ) رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعدُ:
فلقد دأَب الباحِثون والكُتَّاب حينما يتحدَّثون أو يَكتُبون عن عبقريَّة شخصٍ ما، أنهم يُبرِزون مآثِرَه، ويُسفِرون النِّقاب عن الكيفيَّة التي جعلَتْه يصل بها إلى تلك العبقريَّة؛ فعالم هنا تظهر عبقريَّته في العلوم النقليَّة، وآخَر هناك في العلوم العقليَّة، أو الطبيعيَّة... إلخ، ومنهم مَن تظهر عبقريَّته في فنٍّ آخَر كاللغة، أو بما يتعلَّق بالآلات المعيشيَّة، وإمامنا هذا قد تعدَّدت روافد عبقريَّته في علومٍ شتَّى: نقليَّة، وعقليَّة، ولغويَّة، ودعويَّة، وجهاديَّة، وإصلاحيَّة تربويَّة... وإنَّه لَيَشهَدُ لهذه العبقريَّة كثرةُ مُؤلَّفاته وثراؤها، وإثراؤها وتنوُّعها، وتعدُّد أساليبها ووسائلها، وهنا تبرز صعوبة تحديد أسباب العبقريَّة لديه؛ لأنها مُتَعدِّدة مُتنوِّعة، وغير قاصرة على شيءٍ مُحَدَّد؛ لذا فقد كثرت الأبحاث التي تَتناوَل جانبًا من جوانب هذه العبقريَّة عند هذا الإمام؛ فمنها ما له علاقةٌ بالجوانب الدينيَّة وجهوده فيها وفي نشرها، ومنها ما هو متعلِّق بالإصلاح والتربية، ومنها ما هو متعلِّق بأمورٍ فكريَّة وجهاديَّة ودعويَّة، ومنها سياسيَّة وما له علاقة بالحكم وإصلاح الراعي والرعيَّة، ومقارعة الأعداء في الداخل والخارج، ومن الأبحاث ما ركَّزت اهتماماتها على جزءٍ من جهوده؛ مثل: الجانب العقدي، أو الفقهي، أو التربوي، أو الخلقي عنده، وتلازم هذه الجوانب بالمنهجيَّة عنده وكيفيَّة تأصيلها "كلُّ ذلك من الأدلَّة القاطعة على عبقريَّة هذا الرجل"[1].
وعلى هذا؛ فشخصيَّة الإمام ابن تيميَّة تَحوِي في طيَّاتها أمورًا كثيرة، ومؤثرات مختلفة؛ منها ما له علاقة بتكوينه الشخصي، ومنها متعلق بأسرته وبيئته ونشأته، ومنها أمور مُكتَسَبة، وقبلها وبعدها توفيقٌ وإلهامٌ من الله - سبحانه وتعالى - فهو ذو مشاركات في كلِّ علوم عصرِه، وله مشاركات في شتَّى أمور الحياة؛ حيث كان له دورٌ بارز في نهضة الأمَّة؛ فهو نسيجُ وحدِه، وهو رجل الدهر، وقد جعلتُ الكلام على العوامل المؤثِّرة في عبقريَّته ونبوغه كالتالي:
1 - إخلاصه في طلب الحق وتبليغه:
الإخلاص عملٌ قلبي؛ فلا يَعلَم ما يدور في القلوب إلا علاَّم الغيوب، ولكن هناك أمارات يَتعرَّف الإنسان من خلالها على إخلاص شخصٍ ما، فيظهر فيها الْتزامُه بما يقول دون التِفاتٍ لتَحصِيل حُطام دنيوي فانٍ؛ بل يفعل ابتِغاء وجه الله - تعالى - ومنها البعدُ عن الأمور المتعلِّقة بالهوى والشهوة والحسد، بل إنَّه إنْ رأى نعمةً على غيره برَّك عليه، وهذا شأن المسلمين مع بعضهم.
ومنها الجرأةُ في الحق، متعاليًا على ما يعقب ذلك من عواقب، في نظر قِصار النظر تكون كبيرةً، وعند ذي الهمَّة العالية تكون صغيرة، فالمؤمن يَراه حقًّا عليه تجاه دينه، وإرضاءً لربه خالقه، واتِّباعًا لنبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورفعةً لشأنه، ومن أجلها بذل الغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الله، والتضحية ببذل النفس والمال والولد، فضلاً عن المنصب والجاه "وقد آتى الله ابنَ تيميَّة أكبر حظٍّ من الإخلاص، فقد أخلَص لله في طلب الحقيقة فأدرَكَها، وأخلَص في نُصرَة الحق في هذا الدِّين، فلم يقبضه إليه حتى ترك دَوِيًّا في عصره، وتناقلَتْه الأجيال من بعده، وكلُّ مَن يقرَؤُه يلمَس نور الحقيقة ساطعًا ممَّا يقرأ؛ لأنَّه يجد حرارة الإيمان بيِّنة قويَّة لا تحتاج إلى كشف"[2].
ومن أمارات ذلك أن يجعل المسلم نصبَ عينيه الإخلاص؛ وهو: "أن تكون العبادة لله وحدَه، وأن يكون الدِّين كلُّه لله... وأن تكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، وألاَّ يتوكَّل إلا عليه، ولا يُستعان إلا به"[3].
والناظر في حياة هذا الإمام، يجد له فيها أمثلةً رائعةً صارت مضرب الأمثال في الإخلاص العملي، ولِتكرُّر فعله تناقَلَه العلماء قبل العامَّة "وقد تجلَّى إخلاصُه في أمورٍ أربعة أظلَّت حياته كلها، فما كان يخلو منها دَورٌ من أدوار حياته؛ ممَّا جعَلَنا نُؤمِن بأنَّ هذا العالِم الجليل عاشَ دهرَه كلَّه مُخلِصًا لله العلي العليم ولدينه الكريم:
أولها: أنه كان يُجابِه العلماء بما يُوحِيه فكره، يُعلِنه بين الناس بعد طول الفحص والدِّراسة، خصوصًا ما يكون مُخالِفًا لما جرى عليه مألوف الناس وعُرِف بينهم.
الأمر الثاني: جهادُه في سبيل إظهار الحقِّ ولو بالسيف إن كان خصمه يحمل سيفًا، كما حمَل السيفَ على التتار، وكذلك في فتح عكا، والقضاء على المعتَدِين من سكَّان الجبال بالشام.
الأمر الثالث: تبرُّؤه من الأغراض والهوى والمُحاسَدة والمُباغَضة؛ بل اشتهر عنه عفوُه عمَّن أساء إليه، أمَّا تبرُّؤه من الأغراض والهوى، فيدلُّ عليه أنَّه لمَّا أظهَر الله أمرَه للسلطان دَعاه وأَراه فتوى لبعضٍ ممَّن تكلَّموا فيه بسوءٍ واستَفتاه في قتلهم، فأثنى عليهم كما ذكر ذلك هو بنفسه؛ إذ قال: "إنَّ السلطان لمَّا جلَس بالشباك أخرَج فتاوى لبعض الحاضِرين في قتله، واستفتاني في قتل بعضهم، ففهمت مقصوده، وأنَّ عنده حنقًا شديدًا عليهم؛ لما خلعوه وبايعوا الملكَ المظفَّر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأنَّ هؤلاء لو ذهبوا لم تجد دولتُك مثلهم، وأمَّا أنا، فهم حِلٌّ من حقِّي ومن جهتي، وسكَّنت ما عنده عليهم"[4].
فلم يستغلَّ وينتَهِز فرصةَ غضب السلطان عليهم لينتَقِم لنفسه؛ بل دافَع عنهم، حتى قال القاضي زين الدين بن مخلوف قاضي المالكيَّة بعد ذلك: "ما رأينا أتقى من ابن تيميَّة؛ لم نُبْقِ ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنَّا!"[5].
فهذا الموقف يُنبِئ عن صدقٍ مع الله وإخلاصٍ، وكذلك له موقفٌ آخَر من الصوفيَّة حينما آذوه، بل تعدوا عليه بالضرب، فلمَّا علم بذلك بعضُ مُحِبِّيه من الحسينيَّة جاؤوا لنصرته "وقال له بعضهم: يا سيِّدي، قد جاء خلقٌ من الحسينيَّة، لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلَّها لفعلوا، فقال لهم الشيخ: لأيِّ شيء؟ قالوا: لأجْلك، فقال لهم: هذا ما يجوز، قالوا: فنحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذَوك فنقتلهم ونخرِّب دورهم؛ فإنهم شوَّشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم: هذا ما يحلُّ... فلمَّا أكثروا في القول قال لهم: إمَّا أن يكون الحقُّ لي أو لكم أو لله؛ فإن كان الحق لي فهم في حلٍّ، وإن كان لكم فإن لم تسمَعُوا مِنِّي فلا تستفتوني وافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقَّه كما يشاء وإن شاء"[6]، وعندما اقتَربت وفاة الشيخ استَأذن وزير دمشق على الشيخ، وأخَذ يعتَذِر له عمَّا فعَلَه معه من تقصير أو غيره، فقال له: "إنِّي قد أحللتك وجميعَ مَن عاداني وهو لا يعلم أنِّي على الحق، وقال ما معناه: إني قد أحللت السلطان المعظَّم من حبسه إيَّاي؛ لكونه فعل ذلك مقلِّدًا غيرَه معذورًا، ولم يفعله لحظ نفسه؛ بل لِمَا بلغه ممَّا ظنَّه حقًّا من مبلغيه، والله يعلم أنَّه بخلافه، وقد أحللت كلَّ أحدٍ ممَّا بيني وبينه، إلا مَن كان عدوًّا لله ورسوله"[7].
بل إنَّه قال في آخِر أيَّامه: "أنا لا أكفِّر أحدًا من الأمَّة، ويقول: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))[8]، فمَن لازَم الصلوات بوضوء، فهو مسلم"[9].
الأمر الرابع: زهده عن المناصب وكلِّ زخرف الدنيا وزينتها؛ فلم يطلب ولم يتولَّ منصبًا، ولم يُنازِع أحدًا في رياسة؛ بل كان المدرِّس الواعظ الباحث؛ ولذلك عاش فقيرًا، وكان يكتَفِي من الطعام بالقليل، ومن الثياب بما يستر العورة، مع التجمُّل من غير طلبٍ للثمين، وكان يتصدَّق بأكثر رزقه الذي يجري عليه"[10].
فهذه أحوالٌ للشيخ تُضِيء لنا بعضَ جوانب إخلاصه، وتدلُّ على مَدَى تطلُّعه لما عند الله، فكلُّ حياته مِحَن وابتِلاءات، وهذه سماتُ مَن يدعو إلى الله - تعالى.
2 - تجرُّده في دعوته:
إنَّ صفاء قلبِ المؤمن من شوائب الشهوات، ومن أكدار الشبهات، ومن تمنِّي أذيَّة الخلق - لَخُلُقٌ كريم دعا إليه الإسلامُ؛ ولكن هذا الخُلُق يصبح أمرًا عجبًا حينما يتمكَّن المظلوم ممَّن ظلَمَه ولكنَّه يُقابِله بالعفو والإحسان، كما حدَث من الشيخ؛ فإنَّه لمَّا أظهَرَه الله على عدوِّه، ما فعل شيئًا يُؤذِيهم، ولا استغلَّ الموقف لصالحه؛ بل فعَل ما أملاه عليه دينُه، واحتَكَم إلى شرعِ ربِّه، فعفَا وصفَح، وهذا يدلُّنا على "صَفاء قلبه، وإخلاصه في دعوته (وتجرُّده من كلِّ هوًى أو انتقام)، ولقد كثُر خصومُه، واشتدَّ عليه منهم الأذى، وبلغوا منه في محنته كلَّ مبلَغ، إلا أن يُسكِتوه عن قولة الحق جهيرة مسموعة، وكثيرًا ما تمكَّن من ردِّ عدوانهم عليه، ولكنَّه عفَا عنهم، ولم يؤذِ أحدًا منهم، بل إنَّه كان يُدافِع عنهم الأعذار (لعلها: ويلتمس لهم الأعذار)"[11].
وفعلُه هذا هو فعلُ الصدِّيقين، وقد حكَى لنا القرآن الكريم قصَّة سيدنا يوسف - عليه السلام - وما فعَلَه إخوتُه معه وهو صغير، ثم لمَّا قدر عليهم عفا عنهم؛ قال - تعالى - حاكيًا قولَ يوسف - عليه السلام - لإخوته: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ (يوسف: 92)[12].
وبمثل فعل يوسف - عليه السلام - فعَل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع قومه في فتح مكة المكرَّمة، حينما عفا عنهم وسامحهم، ولم ينتَقِم منهم مع قدرته على فعل ذلك، "ولا شكَّ أنَّ هذا من أرفع ما عُرِف في أخلاق الدُّعاة إلى الله - تعالى - وهو خُلُقٌ (ربَّى الله عليه رسلَه كما) ربَّى عليه سيدُنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الطليعةَ من الرَّعِيل الأوَّل، الذين سبَقُوا إلى الإسلام، واحتملوا الأذى في سبيل عقيدتهم وإيمانهم"[13].
ومن ملامح تجرُّد الإمام ابن تيميَّة: أنَّه اشتهر عنه لدى الخاصَّة والعامَّة الزهدُ والوَرَع؛ وذلك أنَّه "ما خالَط الناسَ في بيعٍ ولا شراء، ولا معاملة ولا تجارة، ولا مشاركة ولا زراعة ولا عمارة، ولا كان ناظرًا مُباشِرًا لمالِ وقفٍ، ولم يكن يقبَل جرايةً ولا صلةً لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مُدَّخِرًا دِينارًا ولا دِرهمًا، ولا متاعًا ولا طعامًا؛ وإنما كانت بضاعته مُدَّة حياته وميراثه بعد وفاته - رضِي الله عنْه - العلم؛ اقتداءً بسيِّد المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وصحبه أجمعين - فإنَّه قال: ((إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورثوا العلم، فمَن أخذ به، فقد أخَذ بحظٍّ وافر))[14][15].
وهذه أحوال العلماء العامِلين الموصوفين بالربَّانيَّة، والذين كرَّسوا كلَّ حياتهم للعلم تعلُّمًا وتعليمًا ودعوة، سواء كانوا أئمَّة للدِّين، أو قضاة، أو من أهل الفُتيَا، أو من الخُطَباء والمؤذِّنين، فهؤلاء الربَّانيون لم يكتَرِثوا بزخارف الدنيا، وحُقَّ لهم ذلك؛ فهم حمَلَة الشريعة، وهو أمرٌ يَعرِفه كلُّ مَن له أدنى اطِّلاع بأحوال ذلك الصِّنف من الناس عبر السنين، وقد عقَد العلاَّمة ابن خلدُون في "مقدمة تاريخه" فصلاً بعنوان: "في أنَّ القائمين بأمور الدين من القضاء والفُتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك، لا تعظم ثروتهم في الغالب..."، ثم علَّل بعضَ أسباب ذلك قائلاً: "وأهل هذه الصنائع الدينيَّة لا تضطرُّ إليهم عامَّة الخلق؛ وإنما يحتاج إلى ما عندهم الخواصُّ ممَّن أقبَلَ على دينه... وهم أيضًا لشرف بضائعهم؛ أعزَّة على الخلق وعند نفوسهم، فلا يَخضَعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظًّا يستدرُّون به الرِّزق؛ بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك؛ لما هم فيه من الشغل بهذه البضائع الشريفة المشتَمِلة على إعمال الفكر والبدن؛ بل لا يسعهم ابتذالُ أنفسهم لأهل الدنيا؛ لشرف بضائعهم، فهم بِمَعزِلٍ عن ذلك؛ فلذلك لا تَعظُم ثروتهم في الغالب"[16].
والتقلُّل من الدنيا هو سَمْتُ العلماء الربانيين المصلِحين ذوي الهِمَم العالية؛ لأنهم أَوْلَى الخلق بالتقلُّل من زخارف تلك الدنيا، بما لا يضرُّهم في دينهم، أو يكدِّر عليهم صفوَ حياتهم[17].
ومن تجرُّدِه أيضًا "ما جمَعَه الله له من الزهادة والوَرَع والدِّيانة، ونصرة الحق والقِيام فيه، لا لغرضٍ سواه"[18]، وفي سائر تَآلِيفه كان يَطلُب الحقَّ، ويدور مع الدليل حيث دار، و"ليس له مصنَّف ولا نصٌّ في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختار فيه ما رجَّحه الدليلُ النقلي والعقلي على غيره، وتحرَّى قول الحق المحض، فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة، بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة يثلج قلبه بها، ويجزم بأنها الحق المبين"[19].
فالحق غايته، والصواب مرامه، "وإذا نظَر المنصِف إليه بعين العدل يَراه واقِفًا مع الكتاب والسُّنَّة، لا يُمِيلُه عنهما قولُ أحدٍ كائنًا مَن كان، ولا يُراقِب أحدًا، ولا يخاف في ذلك أميرًا ولا سلطانًا، ولا سوطًا ولا سيفًا، ولا يرجع عنهما لقول أحدٍ"[20]؛ وإنما "كان مقصوده وهمُّه الوحيد خدمةَ الدين، فهو لا يقصد من وراء ذلك شهرةً ولا استعلاءً؛ ودليل ذلك أنَّه قد نذَر حياته كلَّها لخدمة الدِّين، فلم يخلف مالاً، ولم يُعقب ولدًا؛ بل ترَك ثروة علميَّة"[21].
وظهَر من تجرُّده أنَّه دعا المصلِحين والدُّعاة والأُمَراء إلى التجرُّد في دعوتهم، فقال: "فمَن كان من المُطاعِين - من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك - مُتَّبِعًا للرُّسل، أمَر بما أمَرُوا به، ودعا إلى ما دعَوا إليه، وأحبَّ مَن دعا إلى مثل ما دعَوا إليه؛ فإنَّ الله يحبُّ ذلك، فيحب ما يحبُّه الله - تعالى - وهذا قصدُه في نفس الأمر: أن تكون العبادة لله - تعالى - وحدَه، وأن يكون الدين كلُّه لله، وأمَّا مَن كان يَكرَه أن يكون له نظيرٌ يدْعو إلى ذلك، فهذا يطلب أن يكون هو المُطاعَ المعبود، فله نصيبٌ من حال فرعون وأشباهه... فالمؤمن المتَّبِع للرُّسُل يأمر الناس بما أمرَتْهم به الرسل؛ ليكون الدين كلُّه لله لا له، وإذا أمَر أحدٌ غيرُه بمثل ذلك أعانَه وسُرَّ بوجود مطلوبه، وإذا أحسن إلى الناس فإنما يُحسِن إليهم ابتغاءَ وجه ربِّه الأعلى، ويعلَم أنَّ الله قد مَنَّ عليه بأنْ جعَلَه مُحسِنًا ولم يجعله مُسِيئًا، فيرى عمَلَه لله وأنَّه بالله"[22].
وهذا حال المؤمن الداعي إلى الله على بصيرةٍ؛ إذ إنَّه يُرِيد الوصولَ إلى الحق "ومن دلائل إخلاصِه في الوصول إلى الحقِّ، وأنَّ القصد ليس هو الغلبةَ والانتِصار على الخصوم، أنَّنا نجده (أي: الإمام ابن تيميَّة) لا يرحِّب بِمَن شارَكَه في الردِّ على خصومه من المبتدِعة ببدعةٍ وبباطل، فالغاية الشريفة لا تبرِّر الواسطة المحرَّمة؛ لهذا ردَّ على قومٍ من المتأخِّرين أرادوا أن يُدافِعوا عن الحق ويرفعوا تأويلات أهل البِدَع للمتشابه، ولكنَّهم أخطؤوا، يقول: "(وهذا الذِي قصَدُوه حقٌّ) وكلُّ مُسلِمٍ يُوافِقهم عليه، لكن لا ندفع باطلاً بباطلٍ آخر، ولا نرد بدعة ببدعة[23]" [24].
والإمام ابن تيميَّة لم يكن يدعو لحزبٍ سياسي أو فقهي، ولم تكن مِحَنُه هذه ليُصبِح في نهاية المطاف زعيمًا أو مسؤولاً أو شيخًا لطريقة ويفرح بكثرة الأتباع؛ بل لنصرة الحق وحدَه حيث كان، وجعَل الموالاة والمعاداة في الله ولله وبالله، وقد ذمَّ هو نفسُه مَن ينتَسِبون إلى شيخٍ يُوالُون عليه ويُعادُون، فقال: "وليس لأحدٍ أن ينتَسِب إلى شيخٍ يُوالِي على مُتابَعته ويُعادِي على ذلك؛ بل عليه أن يُوالِي كلَّ مَن كان من أهل الإيمان، ومَن عُرِف عنه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمَزِيد مُوالاَة إلاَّ إذا ظهَر له مزيدُ إيمانِه وتَقواه، فيقدِّم مَن قدَّم اللهُ ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويفضِّل مَن فضَّلَه الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[25].
وقال أيضًا: "وليس للمعلِّمين أن يُحَزِّبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء؛ بل يكونون مثل الإخوة المتعاوِنين على البر والتقوى... وإذا وقَع بين معلِّم ومعلِّم، أو تلميذ وتلميذ، أو معلِّم وتلميذ - خصومةٌ ومشاجرة، لم يَجُزْ لأحدٍ أن يُعِين أحدَهما حتى يعلَم الحقَّ، لا (فلا يعاونه) بجهل ولا بهوى... ومَن مالَ مع صاحبه سواءً كان الحق له أو عليه، فقد حكَم بحكم الجاهليَّة، وخرج عن حكم الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والواجب على جميعهم أن يكونوا يدًا واحدة مع المُحِقِّ على المُبطِل، فيكون المعظَّم عنده (عندهم) مَن عظَّمه الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمقدَّم عندهم مَن قدَّمَه الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمُهان عندهم مَن أهانه الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحسب ما يُرضِي الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا بحسب الأهواء؛ فإنَّه مَن يُطِع الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد رشد، ومَن يعصِ الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّه لا يذلُّ إلا نفسه"[26].
وقال: "ومَن حالَف شخصًا على أن يُوالِي مَن والاه ويُعادِي مَن عاداه، كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان"[27].
ويُظهِر تجرُّدَه كذلك في دعوته أنَّه لا يرجو منصبًا، ولا يرنو إلى جاه، ولا يبغي عَرَضًا زائلاً؛ بل كان يدْعو إلى الله ابتِغاءَ مرضاته، ولمع ذلك التجرُّد أنَّه "لما وَشَوْا به إلى السلطان الأعظم وأحضروه بين يديه، قال من جملة كلامه: "إنَّني أُخبِرت أنَّك قد أطاعك الناس، وأنَّ في نفسك أخْذَ الملك"، فلم يكتَرِث به؛ بل قال له بنفسٍ مطمئنَّة، وقلب ثابت، وصوت عالٍ، سمِعَه كثيرٌ ممَّن حضر: أنا أفعل ذلك؟! والله إنَّ ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فلسَيْن"[28].
بل عُرِضت عليه الولاية والإمارة من ملك التتر، فردَّها؛ حيث عرَض عليه غازان بعد لقائه معه قائلاً له: "إن أحببت أن أعمِّر لك بلد آبائك حران[29]، وتنتَقِل إليه ويكون برسمك، فقال: لا واللهِ، لا أرغب عن مهاجر إبراهيم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأستَبدِل به غيره"[30].
3 - حافظته القويَّة الواعيَة:
لقد وهَب الله - سبحانه - آل تيميَّة ذاكرةً واعِيَةً، لكن خرقت العادة مع الإمام ابن تيميَّة؛ حيث عُرِفَ عنه الحفظ وبطء النسيان، و"إنَّ المكانة الاجتِهاديَّة في العلوم الإسلاميَّة التي أحرَزَها شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في عصره، وإنَّ التأثير العميق الذي خلَّفَه على أهل زمانه؛ لإمامته في التفسير والحديث معًا، وتبحُّره ونبوغه في العلوم - إنما كان الفضل الأكبر في ذلك يَرجِع إلى ذاكرته النادرة، وذكائه المفرِط، وكلُّ ذلك نعمةٌ أكرَمَه الله بها، وموهبةٌ اختصَّه بها"[31].
وهذه الذاكرة الحديديَّة قد عُرِف بها منذ صِباه، و"كانت ذاكرته حديثَ زملائِه من الفتيان؛ بل تجاوَز صِيتُه دائرةَ الصِّبيان إلى دائرةِ الرِّجال، وتسامعت دمشق وما حولها بذكائه ونبوغه"[32]، يوضح هذا "أنَّ بعض مشايخ حلب قَدِم إلى دمشق وقال: سمعت في البلاد بصبيٍّ يقال له: أحمد ابن تيميَّة، وأنَّه كثير الحفظ، وقد جئتُ قاصدًا لعلِّي أراه، فقال له خيَّاط: هذه طريق كُتَّابه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمرُّ ذاهبًا إلى الكتَّاب، فلمَّا مرَّ قيل: ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ وأخَذ منه اللوح، وكتَب من متون الحديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثًا، وقال له: اقرأ هذا، فلم يزد على أن نظر فيه مرَّة بعد كتابته إيَّاه، ثم دفَعَه إليه وقال: أسمِعْه عليَّ، فقرَأَه عليه عرضًا كأحسن ما يكون، ثم كتَب عدَّة أسانيد انتخَبَها، فنَظَر فيه كما فعَل أوَّل مرَّة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول: إنْ عاش هذا الصبيُّ ليكوننَّ له شأنٌ عظيم؛ فإنَّ هذا لم يُرَ مثلُه، فكان كما قال"[33].
وقد علَّق أحد العُلَماء على هذه القصة بقوله: "وتبدو القصة عارية عن المبالغة، بعيدة عن الغلو، فإنَّه ممَّا تضافرت به الأخبار عن الإمام مالك[34] أنَّه كان يستَمِع من ابن شهاب[35] بضعة وثلاثين حديثًا، ثم يتلوها في الجلسة، ومنها حديث السقيفة، وإن كان ثمَّة فرق بين العصرين؛ فعصر مالك كان عصر حفظ، الاعتِماد فيه على الذاكرة لا على الكتب، ومن شأن ذلك أن يقوِّي الحافظة ويرهفها؛ لأنَّ من المقرَّرات المستمدَّة من الاستِقراء أنَّ العضو الذي يَكثُر عملُه يقوَى ويشتدُّ، أمَّا عصر ابن تيميَّة فكان عصر التدوين والتسطير والكتابة، وليس من شأنه أن يقوِّي الحافظة؛ للاعتِماد على السطور دون ما في الصدور، ومهما يكن، فمن الثابت أنَّ ابن تيميَّة - رضِي الله عنْه - قد آتاه الله ذاكرة واعِيَة منذ صِباه... ويظهر أن قوَّة الذاكرة قد ورثها ابن تيميَّة عن أسرته (فجدُّه مشهورٌ بقوَّة الذاكرة وسرعة البديهة)، كما أنَّ أباه قد كان يمتاز بأنَّه يُلقِي دروسَه في الجامع الأكبر بدمشق غير مُعتَمِد على كتاب"[36].
وهذه الذاكرة المتوقِّدة قد شَهِدَ له بها المُخالِف قبل الموافِق، وهذا أمرٌ معروف ومشهور في حياته منذ صِباه حتى موته، فقوَّة الذاكرة وحدَّتها تميِّز العالِم العبقري عن غيره من العلماء؛ إذ إنَّه يحتاج إلى أدلَّة ونُقُول، كما يحتاج إلى سرعة استحضار للآيات، وانتِزاع الأحكام من متون الحديث باختِلاف رواياته، فضلاً عن أقوال الأئمَّة.
وهذه الذاكرة التي وُصِف بها الإمام ابن تيميَّة، تؤكِّدها المُناظَرات التي حدَثَتْ له مع كِبار علماء عصره، حتى عجبوا من قوَّة حفظه وسرعة استِحضاره للعلوم، إضافةً إلى ذلك العلماء الذين أرَّخُوا حياته ذكَروا أنَّه قلَّ أنْ سمع شيئًا إلاَّ حَفِظَه، مع قوَّة الإدراك، وبطء النسيان[37]؛ بل إنَّه "كان يمرُّ بالكِتاب مطالعة مرَّة فينتقش في ذهنه، وينقله في مصنَّفاته بلفظه ومعناه"[38].
والبديهة الحاضرة والذاكرة القويَّة من أقوى الحجج التي تُبهِر الخصوم، وكان إذا أراد بدء الدرس، فبعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - "يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض، ولطائف ودقائق، فنون، (وفنون ونقول) واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء، واستِشهاد بأشعار العرب وربما ذكر اسم ناظمها، وهو مع ذلك يَجرِي كما يجري السَّيل، ويفيض كما يفيض البحر"[39].
وهذا يدلُّ على مدَى استِحضاره للعلوم، فيُخرِجها منظومةً مُتَراصَّة، مع إتقانٍ في النقل كأنما ينظر إلى كتاب، "ولهذه الصفة كان خصوم ابن تيميَّة يتهيَّبون لقاءه، ومَن لا يعرفها فيه ويغترُّ بحجته إذا لقيه، كان عبرة المعتَبِرين"[40]، وهكذا يُسخِّر الله - سبحانه - لدينه مَن يشاء، ويهب لِمَن يشاء من عباده صفاتٍ لنصرة الدين، وليكونوا عبرة للمُعتَبِر.
4 - عمق تأمُّلِه:
إنَّ مؤلَّفات الإمام ابن تيميَّة العديدة المتنوِّعة، خيرُ دليلٍ يُرشِد إلى عمق تأمُّله؛ فهو رافع راية العلماء، وحامل علمهم، وناقلُه بعينٍ فاحصة بصيرة، فهو ليس مجرَّد ناقِل للعلوم؛ بل إنَّه خبيرٌ بما يقرَأ، حريصٌ على نشر ذلك التُّراث الزاخِر بين أفراد الأمَّة، وممَّا يدلُّ على عمق تأمُّله للعلوم أنَّه ينقل المسائل الكِبار والتي اختَلَف فيها العلماء، فيُورِد أدلَّة هؤلاء وهؤلاء، ثم يرجِّح ويُوازِن بينهما بإنصافٍ كما تقتَضِيه الصناعة العلميَّة، وهو قد اجتَهَد في كثيرٍ من المسائل في شتَّى الموضوعات، وكان له فيها القدح المُعلَّى؛ بل قد وصَل إلى سُدَّة الأمر فيها، فالقارئ لكُتُبه يجد هناك أصولاً وقواعدَ وضَعَها لضبْط بعض المسائل، كما يجد هناك اختيارات له توصَّل إليها دون تقليدٍ لأحد؛ بل بما عنده من علم، فمنها ما وافَق بعض الأئمَّة، ومنها ما وافَق صحابةً أو تابعين، كما أنَّ منهجيَّته في تَآلِيفه وتنوُّع الأجوبة والرسائل والوسائط الدعويَّة، خيرُ دليلٍ على سَعَةِ علمه، وهذه الأمور وغيرها مُتناثِرة في كتبه وكتب مَن ينقل عنه تَناثُرَ الدرِّ، ومن الأمور الدالَّة على بُعْدِ نظَرِه وعُمْقِ تفكيره أنَّه لا يأتيه مُبطِلٌ بأدلَّة يُرِيد بها إثباتَ باطِلِه، إلا ردَّ عليه من نفس أدلَّته وجعَلَها حُجَّة عليه، كما حكى ذلك الإمامُ ابن القيِّم بقوله: "وقال لي: أنا ألتَزِم أنَّه لا يحتجُّ مُبطِلٌ بآية أو حديث صحيح على باطله، إلاَّ وفي ذلك الدليلِ ما يدلُّ على نقيضِ قوله"[41].
ومن خِلال كلماته هذه تظهَر لنا "قوَّته في تفجير دلالات النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها"[42].
ومن الأمور التي اجتَهَد فيها وأظهَرَها: فطرُ الجنود في رمضان عند مُلاقاة العدوِّ؛ حيث أمَر المسلمين المجاهدين بالفِطْرِ في رمضان لقِتال العدو، وأفطَرَ هو بنفسه وأخَذ يمرُّ بين الصُّفوف ليَراه الجنود، وقال: "هذا فطرٌ للتقَوِّي على جِهاد العدو... وقال: "والمسلمون إذا قاتلوا عدوَّهم وهم صِيامٌ لم يمكنهم النِّكاية فيهم، وربما أضعَفَهم الصومُ عن القتال، فاستباح العدوُّ بيضة الإسلام... ثم قال: وهل يشكُّ فقيهٌ أنَّ الفطر ها هنا أَوْلَى من فطر المسافر؟!"[43].
وممَّا يدلُّ على مدى عمق فِكرِه اللغوي أنَّه يربط بين الأسماء والمسمَّيات، فإذا ورد عليه لفظٌ أخَذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفيَّة تركيبه، حكى ذلك الإمامُ ابن القيِّم[44].
5 - حضور بديهته:
وهي كغيرها هبَةٌ من الله - عزَّ وجلَّ - يُعطِيها مَن يشاء، وحضور البديهة دليلٌ على حِدَّة الذكاء مع قوَّة الذاكرة، وحسن التصرُّف في أحْلَك الظُّروف وأحرجها، وهي دليلُ الفصاحة وحسن البيان مع الإيجاز دون كلفة؛ بل تَخرُج من قائلها تلقائيًّا دون سابِق إعداد، وقد أُوتِي الإمامُ ابن تيميَّة منها حظًّا وافرًا، وبَدَأت تظهَر هذه النَّجابة منذ صغره؛ حيث أسفَرَتْ عن حضور بديهته، فقد قال الإمام الذهبي: "حكى لي عنه الشيخُ شمس الدين ابن قيِّم الجوزيَّة قال: كان صغيرًا عند بني المنجا فبحَث معهم فادَّعوا شيئًا أنكَرَه، فأحضَرُوا النقلَ، فلمَّا وقَف عليه ألقَى المجلَّد من يديه غيظًا، فقالوا له: ما أنت إلا جَرِيء؛ ترمي المجلد من يدك وهو كتاب علم! فقال سريعًا: أيهما خيرٌ: أنا أو موسى؟ فقالوا: موسى، فقال: أيما خير هذا الكتاب أو ألواح الجوهر التي كان فيها العشر كلمات؟ قالوا: الألواح، فقال: إنَّ موسى لمَّا غضب ألقى الألواح من يده، أو كما قال"[45].
"وحُكِي أنه كان قد شكا له إنسانٌ من قطلو بك الكبير، وكان المذكور فيه جبروتٌ وأخذُ أموال الناس واغتصابها، وحكاياته في ذلك مشهورة، فلمَّا دخَل إليه الشيخُ وتكلَّم معه في ذلك، قال: أنا الذي كنتُ أريد أن أَجِيء إليك؛ لأنَّك رجل عالم زاهد، يعني: يستهزئ به (متهكمًا)، فقال له ابن تيميَّة: قطلو بك، لا تعمل عليَّ دركواناتك (حيلك وألاعيبك)، موسى كان خيرًا مِنِّي، وفرعون كان شرًّا منك، وكان موسى كلَّ يوم يجيء إلى باب فرعون مرَّات ويعرض عليه الإيمان"[46].
فسرعة بديهته قد عُرِف بها منذ صغره، ولازمَتْه حتى نهاية حياته، وقد ساعدت هذه البديهة السريعة في انسِياب مؤلَّفاته وتأصيل كلامه، وممَّا يَشهَد لذلك أنَّه "سُئِل يومًا عن الحديث: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له))[47]، فلم يزل يُورِد فيه وعليه، حتى بلغ كلامه فيه مجلدًا كبيرًا"[48]، واسم هذا المجلد: "إقامة الدليل على بطلان التحليل"، وهو كتاب جليل القدر، عظيم الفائدة، وممَّا يدلُّ على سرعة بديهته الكتابيَّة أنَّه "لمَّا أُخِذ وسُجِن وحِيلَ بينه وبين كتبه، صنَّف عِدَّة كتب - صغارًا وكبارًا - وذكَر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء، وأسماء المحدِّثين والمؤلِّفين ومؤلفاتهم، وعزا كلَّ شيءٍ من ذلك إلى ناقِليه وقائِليه بأسمائهم، وذكَر أسماء الكتب التي ذُكِر فيها، وأي موضع هو فيها، كلُّ ذلك بديهةً من حفظه؛ لأنَّه لم يكن عنده حينئذٍ كتابٌ يُطالِعه، ونقَّبت واختبرت واعتَبرت فلم يوجد فيها - بحمد الله - خللٌ ولا تغيُّر"[49].
هذا، إضافة إلى "ما وهَبَه الله - تعالى - ومنَحَه به من استِنباط المعاني من الألفاظ النبويَّة والأخبار المرويَّة، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها، وما يترتَّب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكَر آية أو حديثًا وبيَّن معانيه وما أُرِيد به، أُعجِب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويُدهِشه ما سمعه أو وقف عليه منه"[50].
وقد عُمِلت[51] قصيدة من ثمانية أبيات على لسان ذِمِّيٍّ في إنكار القدر؛ امتِحانًا لعلماء العصر، وهي[52]:
أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةِ إِذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي قَضَى بِضَلاَلِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بِالْقَضَا فَمَا أَنَا رَاضٍ بِالَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي فَإِنْ كُنْتُ بِالْمَقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيًا فَرَبِّيَ لاَ يَرْضَى بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حَيْرَتِي إِذَا شَاءَ رَبِّي الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً فَهَلْ أَنَا عَاصٍ فِي اتِّبَاعِ الْمَشِيئَةِ وَهَلْ لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ فَبِاللهِ فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ عِلَّتِي |
"فلمَّا وقَف عليها الإمام ابن تيميَّة، فكَّر لحظة يسيرة وثنَى إحدى رجليه على الأخرى، وأجاب في مجلسه بديهةً، وأنشأ يكتب جوابها، وجعَل يكتُب ويظنُّ الحاضرون أنَّه يكتب نثرًا، فلمَّا فرغ تأمَّله مَن حضَر من أصحابه، وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيته"[53]، والتي جاوزت مائة بيت، منها[54]:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلأَ الْعُلاَ قَدِيمًا بِهِ إِبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ • • • وَيَكْفِيكَ نَقْضًا أَنَّ مَا قَدْ سَأَلْتَهُ مِنَ الْعُذْرِ مَرْدُودٌ لَدَى كُلِّ فِطْرَةِ وَهَبْكَ كَفَفْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ وَكُلِّ غَوِيٍّ خَارِجٍ عَنْ مَحَبَّةِ فَيَلْزَمُكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كُلِّ ظَالِمٍ عَلَى النَّاسِ فِي نَفْسٍ وَمَالٍ وَحُرْمَةِ وَلاَ تَغْضَبَنْ يَوْمًا عَلَى سَافِكٍ دَمًا وَلاَ سَارِقٍ مَالاً لِصَاحِبِ فَاقَةِ وَلاَ شَاتِمٍ عِرْضًا مَصُونًا وَإِنْ عَلاَ وَلاَ نَاكِحٍ فَرْجًا عَلَى وَجْهِ غَيَّةِ وَلاَ قَاطِعٍ لِلنَّاسِ نَهْجَ سَبِيلِهِمْ وَلاَ مُفْسِدٍ فِي الأَرْضِ فِي كُلِّ وِجْهَةِ وَهَلْ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَوْ فِي طِبَاعِهِمْ قَبُولٌ لِقَوْلِ النَّذْلِ مَا وَجْهُ حِيلَتِي؟ كَآكِلِ سُمٍّ أَوْجَبَ الْمَوْتَ أَكْلُهُ وَكُلٌّ بِتَقْدِيرٍ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ <p style="margiالتحميلات المرفقة نشرت فى 20 مايو 2011
بواسطة Islamisright
محمود داود دسوقي خطابيابحثتسجيل الدخولعدد زيارات الموقع
264,251
|
ساحة النقاش