قول ابن حجر(ت852هـ) في ابن تيمية(728هـ) في تقريظه للرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي(ت842هـ) رحمهم الله تعالى
"المكتبة الشاملة"
قدم الإِمَام الْمُحدث السَّيِّد صفي الدّين الْحَنَفِيّ البُخَارِيّ نزيل نابلس عَلَيْهِ الرَّحْمَة فِي كِتَابه القَوْل الْجَلِيّ فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية الْحَنْبَلِيّ صُورَة تقريظ للْإِمَام الْحَافِظ فِي عصره بل حَافظ الدُّنْيَا الْعَلامَة شهَاب الدّين أَبُو الْفضل أَحْمد بن حجر الْعَسْقَلَانِي قدس الله سره على الرَّد الوافر لِابْنِ نَاصِر الدّين بالدمشقي الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى وَلَفظه
نَص الرسَالَة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى
وقفت على هَذَا التَّأْلِيف النافع وَالْمَجْمُوع الَّذِي هُوَ للمقاصد الَّتِي جمع لَهَا جَامع فتحققت سَعَة اطلَاع الإِمَام الَّذِي صنفه وتضلعه من الْعُلُوم النافعة بِمَا عظمه بَين الْعلمَاء وشرفه وشهرة إِمَامه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية أشهر من الشَّمْس وتلقيبه بشيخ الْإِسْلَام بَاقٍ إِلَى الْآن على الْأَلْسِنَة الزكية وَيسْتَمر غَدا لما كَانَ بالْأَمْس وَلَا يُنكر ذَلِك إِلَّا من جهل مِقْدَاره وتجنب الْإِنْصَاف فَمَا أَكثر غلط من تعاطى ذَلِك وَأكْثر غباره فَالله تَعَالَى هُوَ الْمَسْئُول أَن يَقِينا شرور أَنْفُسنَا وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله
وَلَو لم يكن من فضل هَذَا الرجل إِلَّا مَا نبه عَلَيْهِ الْحَافِظ الشهير علم الدّين البرزالي فِي تَارِيخه أَنه لم يُوجد فِي الْإِسْلَام من اجْتمع فِي جنَازَته لما
(1/12)
مَاتَ مَا اجْتمع فِي جَنَازَة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين لكفى وَأَشَارَ إِلَى أَن جَنَازَة الإِمَام أَحْمد كَانَت حافلة جدا شَهِدَهَا مؤون أُلُوف لَكِن لَو كَانَ بِدِمَشْق من الْخَلَائق نَظِير مَا كَانَ بِبَغْدَاد بل أَضْعَاف ذَلِك لما تاخر أحد مِنْهُم من شُهُود جنَازَته وَأَيْضًا فَجَمِيع من كَانَ فِي بَغْدَاد إِلَّا الْأَقَل كَانُوا يَعْتَقِدُونَ إِمَامَة الإِمَام أَحْمد وَكَانَ أَمِير بَغْدَاد وَخَلِيفَة الْوَقْت إِذْ ذَاك فِي غَايَة الْمحبَّة لَهُ والتعظيم بِخِلَاف ابْن تَيْمِية وَكَانَ أَمِير الْبَلَد حِين مَاتَ غَائِبا وَكَانَ أَكثر من فِي الْبَلَد من الْفُقَهَاء قد تعصبوا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ مَحْبُوسًا بالقلعة وَمَعَ هَذَا فَلم يتَخَلَّف مِنْهُم عَن حُضُور جنَازَته والترحم والتأسف عَلَيْهِ إِلَّا ثَلَاثَة أنفس تَأَخَّرُوا خشيَة على أنفسهم من الْعَامَّة وَمَعَ حُضُور هَذَا الْجمع الْعَظِيم فَلم يكن لذَلِك باعث إِلَّا اعْتِقَاد إِمَامَته وبركته لَا بِجمع سُلْطَان وَلَا غَيره وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض وَقد قَامَ على الشَّيْخ تَقِيّ الدّين جمَاعَة من الْعلمَاء مرَارًا بِسَبَب أَشْيَاء أنكروها عَلَيْهِ من الْأُصُول وَالْفُرُوع وعقدت لَهُ بِسَبَب ذَلِك عدَّة مجَالِس بِالْقَاهِرَةِ ودمشق وَلَا يعلم عَن أحد مِنْهُم أَنه أفتى بزندقته وَلَا حكم بسفك دَمه مَعَ شدَّة المتعصب عَلَيْهِ حِينَئِذٍ من أهل الدولة حَتَّى حبس بِالْقَاهِرَةِ ثمَّ الْإسْكَنْدَريَّة وَمَعَ ذَلِك فكلهم يعْتَرف بسعة علمه وزهده وَوَصفه بالسخاء والشجاعة وَغير ذَلِك من قِيَامه فِي نصْرَة الْإِسْلَام وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة
(1/13)
فَكيف لَا يُنكر على من أطلق عَلَيْهِ أَنه كَافِر بل من أطلق على من سَمَّاهُ شيخ الْإِسْلَام الْكفْر وَلَيْسَ فِي تَسْمِيَته بذلك مَا يَقْتَضِي ذَلِك فَإِنَّهُ شيخ مَشَايِخ الْإِسْلَام فِي عصره بِلَا ريب والمسائل الَّتِي أنْكرت عَلَيْهِ مَا كَانَ يَقُولهَا بالتشهي وَلَا يصر على القَوْل بهَا بعد قيام الدَّلِيل عَلَيْهِ عنادا وَهَذِه تصانيفه طافحة بِالرَّدِّ على من يَقُول بالتجسيم والتبري مِنْهُ وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ بشر يُخطئ ويصيب فَالَّذِي اصاب فِيهِ وَهُوَ الْأَكْثَر يُسْتَفَاد مِنْهُ ويترحم عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَالَّذِي أَخطَأ فِيهِ لَا يُقَلّد فِيهِ بل هُوَ مَعْذُور لِأَن عُلَمَاء الشَّرِيعَة شهدُوا لَهُ بِأَن ادوات الِاجْتِهَاد اجْتمعت فِيهِ حَتَّى كَانَ أَشد المتعصبين عَلَيْهِ العاملين فِي إِيصَال الشَّرّ إِلَيْهِ وَهُوَ الشَّيْخ كَمَال الدّين الزملكاني شهد لَهُ بذلك وَكَذَلِكَ الشَّيْخ صدر الدّين بن الْوَكِيل الَّذِي لم يثبت لمناظرته غَيره وَمن أعجب الْعجب ان هَذَا الرجل كَانَ من أعظم النَّاس قيَاما على أهل الْبدع من الروافض والحلولية والاتحادية وتصانيفه فِي ذَلِك كَثِيرَة شهيرة وفتاويه فيهم لَا تدخل تَحت الْحصْر فيا قُرَّة أَعينهم إِذا سمعُوا تكفيره وَيَا سرورهم إِذا رَأَوْا من يكفره من أهل الْعلم فَالْوَاجِب على من يلتبس بِالْعلمِ وَكَانَ لَهُ عقل أَن يتَأَمَّل كَلَام الرجل من تصانيفه الْمَشْهُورَة أَو من السّنة من يوثق بِهِ من اهل النَّقْل فيفرد من ذَلِك مَا يُنكر فليحذر مِنْهُ قصد النصح ويثني عَلَيْهِ بفضائله فِيمَا أصَاب من ذَلِك كدأب غَيره من الْعلمَاء الأنجاب
(1/14)
وَلَو لم يكن للشَّيْخ تَقِيّ الدّين من المناقب إِلَّا تِلْمِيذه الشهير الشَّيْخ شمس الدّين بن قيم الجوزية صَاحب التصانيف النافعة السارة الَّتِي انْتفع بهَا الْمُوَافق والمخالف لَكَانَ غَايَة فِي الدّلَالَة على عَظِيم مَنْزِلَته فَكيف وَقد شهد لَهُ بالتقدم فِي الْعُلُوم والتمييز فِي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم ائمة عصره من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم فضلا عَن الْحَنَابِلَة فَالَّذِي يُطلق عَلَيْهِ مَعَ هَذِه الْأَشْيَاء الْكفْر أَو على من سَمَّاهُ شيخ الْإِسْلَام لَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا يعول فِي هَذَا الْمقَام عَلَيْهِ بل يجب ردعه عَن ذَلِك إِلَى أَن يُرَاجع الْحق ويزعن للصَّوَاب وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
قَالَ وَكتبه أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن حجر الشَّافِعِي عَفا الله عَنهُ وَذَلِكَ فِي الْيَوْم التَّاسِع من شهر ربيع الأول عَام خَمْسَة وَثَلَاثِينَ وثمان مئة حامدا ومصليا على مُحَمَّد وَمُسلمًا هَذَا آخر كَلَامه
سُؤال وَجَوَابه للعلامة ابْن حجر
وَوجد هَذَا السُّؤَال والأجوبة بِخَط الشَّيْخ الصَّالح الْمُفِيد مُحَمَّد شمس الدّين ابْن المرحوم الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن شيخ الْإِسْلَام أبي عمر قدس الله روحه وَهُوَ هَذَا بتاريخ عَاشر الْقعدَة تسع وَأَرْبَعين وثمان مئة وجدت بِخَط لَا أَدْرِي من سائله وَلَا من كَاتبه وَعَلِيهِ أجوبة بِخَط من تذكر وَمن خطوطهم نقلت
(1/15)
وَصُورَة السُّؤَال
مَا تَقول السَّادة الْعلمَاء أَئِمَّة الدّين رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ فِي جمَاعَة كَانُوا قَاعِدين فِي مَسْجِد فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم كَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية من هَذَا الْعلم وَمَا كَانَ فِي زَمَانه مثله إِلَّا الْقَلِيل فَقَالَ وَاحِد من الْحَاضِرين هَذَا كَانَ كَافِرًا وَقع مِنْهُ الْكفْر فِي ثَلَاثِينَ مَكَانا فَحصل عِنْد الْجَمَاعَة الْحَاضِرين من هَذَا الْكَلَام حَاصِل أَن يكون الْحق مَعَ الأول أَو مَعَ من قَالَ إِنَّه كَافِر وَوَقع مِنْهُ الْكفْر
فبينوا لنا الْحق وَقد قَالَ الله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} افتونا مَأْجُورِينَ رحمكم الله تَعَالَى أَجْمَعِينَ
وَصُورَة الْجَواب
الْحَمد لله اللَّهُمَّ اهدني لما اخْتلف فِيهِ من الْحق بإذنك
لَا يُطلق فِي ابْن تَيْمِية أَنه كَافِر إِلَّا اُحْدُ رجلَيْنِ إِمَّا كَافِر حَقِيقَة وَإِمَّا جَاهِل بِحَالهِ فَإِن الرجل كَانَ من كبار الْمُسلمين إِلَّا أَن لَهُ مسَائِل اخْتَارَهَا من مقالات الْمُسلمين يلْزم من بَعْضهَا الْكفْر عِنْد بعض أهل الْعلم دون بعض ولازم الْمَذْهَب لَيْسَ بِمذهب وَلم يزل الْمَذْكُور دَاعِيَة إِلَى الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى طول عمره وَقد أثنى عَلَيْهِ وعَلى علمه وَدينه وزهده جَمِيع الطوائف من أهل عصره حَتَّى مِمَّن كَانَ يُخَالِفهُ فِي الِاعْتِقَاد
وَالله الْمُسْتَعَان
قَالَ وَكتبه أَحْمد بن عَليّ بن حجر الشَّافِعِي عَفا الله تَعَالَى عَنهُ آمين
جَوَاب الْعَلامَة البُلْقِينِيّ
اللَّهُمَّ فهم الصَّوَاب
لم يَصح عندنَا ذَلِك وحاشاه ان يَقع مِنْهُ ذَلِك وَالْعلم عِنْد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
كتبه صَالح بن عمر البُلْقِينِيّ
(1/16)
جَوَاب آخر صورته اللَّهُمَّ الْهَادِي إِلَى الصَّوَاب
لَا شكّ أَن الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم تَقِيّ الدّين أَبَا الْعَبَّاس احْمَد بن عبد الْحَلِيم ابْن عبد السَّلَام الْمَشْهُور بِابْن تَيْمِية الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ كَانَ من الْعلم وَالدّين والورع على جَانب عَظِيم وَكَانَ ذَا فنون كَثِيرَة وَلَا سِيمَا علم الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه وَغير ذَلِك وَله تصانيف شَتَّى وَكَانَ سَيْفا صَارِمًا على المبتدعين وَكَانَت لَهُ مواعيد حَسَنَة وَكَانَ كثير الذّكر وَالصَّوْم وَالصَّلَاة وَالْعِبَادَة وَكَانَ أمارا بِالْمَعْرُوفِ نهاء عَن الْمُنكر ونكب فِي آخر عمره نكبات وَجَرت عَلَيْهِ أُمُور فِي مسَائِل تكلم بهَا فَأخذ عُلَمَاء دمشق عَلَيْهِ وَرفعُوا أمره إِلَى نَائِب الشَّام تنكز فاعتقلوه يَوْم الْإِثْنَيْنِ السَّادِس من شعْبَان المكرم عَام سِتّ وَعشْرين وَسبع مئة بقلعة دمشق وَكَانَ فِي قَضيته تِلْكَ وإفتائه بحبسه قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين ابْن جمَاعَة وَالْقَاضِي شمس الدّين الحريري وَتُوفِّي فِي الْحَبْس لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ المسفر صباحها عَن عشْرين من ذِي الْقعدَة من سنة ثَمَان وَعشْرين وَسبع مئة وَكَانَت جنَازَته مَشْهُورَة
فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك يجب على وُلَاة الْأُمُور أَن يعاقبوا هَذَا الْجَاهِل الْمُفْسد الَّذِي قَالَ فِي حَقه إِنَّه كَانَ كَافِرًا بأنواع التَّعْزِير من الضَّرْب الشَّديد وَالْحَبْس المديد وَمن قَالَ لمُسلم يَا كَافِرًا يرجع مَا قَالَه إِلَيْهِ وَلَا سِيمَا إِذا اجترأ مثل هَذَا النَّجس وَتكلم بِهِ فِي حق هَذَا الْعَالم وَلَا سِيمَا وَهُوَ ميت وَورد النَّهْي من الشَّارِع عَن الْكَلَام فِي حق أموات الْمُسلمين وَالله يَأْخُذ الْحق ويظهره
وَكتبه مَحْمُود بن أَحْمد الْعَيْنِيّ الْحَنَفِيّ
وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم
(1/17)
"المكتبة الشاملة"
ساحة النقاش