يبقى السؤال: ماذا تعدّ المجتمعات العربية والإسلامية لنفسها من أجل مواجهة التحديات الكبرى المتعاظمة 

ومن أجل بلوغ حوار متكافئ مع الثقافات الأخرى؟ 

طبعاً ليس الموروث السلفي ولا تقديس الأجداد ما نحتاج إليه الآن. 

وإذا كان لا بد من الالتفات إلى الماضي فليكن إلى جوانبه المضيئة، 

العقلانية والجمالية فحسب، 

أي إلى الماضي الذي ينظر إلى المستقبل، لا الماضي المحنط والمنغلق على نفسه كالقبر.

نحتاج إلى ولادة أخرى، إلى أبوين آخرين بعيداً عن ذهنية التكفير والتخوين".

هذه الكلمات القليلة تحتوي على برنامج عمل متكامل لكل المثقفين العرب ولكل الحقبة القادمة التي 

قد تحتد حتى عام 2050 أو 2100! ذلك أن الكلام شيء والفعل شيء آخر. 

من السهل أن نقول بأنه ينبغي أن نأخذ من الماضي –أي من التراث العربي 

قيمه التحررية أو العقلانية فقط. 

ولكن المشكلة هي أن قيمه المعاكسة (أي القمعية المتعصبة) 

هي التي تملأ وعينا الجمعيّ وتشرّش في عروقنا وخلايانا. 

القيم السالبة التي تشد إلى الخلف هي الأقوى وليس القيم الموجبة التي تشد إلى الأمام.

وبالتالي فأين المفرّ  

لكي نستطيع أن نتوصل إلى الجوانب المضيئة والعقلانية من التراث ينبغي أن نتخلص أولاً 

من الجوانب المظلمة والعدوانية التي تهيمن علينا منذ انهيار الحضارة الكلاسيكية 

قبل ثمانية قرون (تاريخ موت ابن رشد وهزيمة الفلسفة يعود إلى 1198)م. 

لهذا السبب أقول وأكرر القول بأن التحرير المنتظر ينبغي أن يمرّ بالمرحلة السلبية 

أولاً قبل أن يتوصل إلى المرحلة الإيجابية. 

ينبغي أن نمر بمرحلة التفكيك والتعزيل الكبير قبل الوصول إلى مرحلة البناء والتعمير.

ولذلك أقول بأن الانهيارات التي تحصل الآن هي انهيارات إجبارية، 

أي منطقية مسجّلة في أحشاء الواقع وكان ينبغي أن تحصل وتنفجر. 

ولن تتوقف قبل أن تشبع من نفسها، قبل أن تصل إلى نهاياتها. 

على هذا النحو أفسر "اللحظة الأصولية" التي نعيشها اليوم. 

إنها عبارة عن انفجار للمتراكم التراثي السحيق المتكدس في أعماق أعماقنا. 

ولن يستريح التاريخ، ولن يتنفس الصعداء إلا بعد أن تقذف أحشاء اللاوعي الجمعي 

بكل هذا المتراكم المكبوت، بكل هذا المحتقن المضغوط الذي ظننا أننا تجاوزناه 

أثناء مرحلة اليسار السطحي الهش في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. 

فإذا به ينفجر في وجوهنا كالبركان بعد السبعينات. بمعنى آخر 

فإن العمل الحقيقي ابتدأ الآن لأن المواجهة الشرسة للذات العربية 

مع ذاتها ما عاد ممكناً تأجيلها أو تحاشيها.. وهذه نقطة متقدمة في حركة التاريخ 

وإن كانت تبدو ظاهرياً بمثابة ارتكاسة أو عودة إلى الوراء. 

أقول هذا الكلام انطلاقاً من النظرية التالية: لا يمكن للتاريخ أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام 

إلا بعد أن يصفّي حساباته مع نفسه ويعزّل تراكماته التي تضغط عليه وتثقل كاهله

وبالتالي تعرقل رغبته العارمة نحو الانطلاق والتحرر.. الإنسان العربي، مسلماً كان أم مسيحياً،

 يريد التحرر والانطلاقة ولكنه لا يستطيع لسبب بسيط: 

هو أنه مقيد من الداخل بالأغلال والأصفاد، بتراث الآباء والأجداد. إنه مقيد حتى دون أن يشعر. 

والأنكى من ذلك هو أنه مقيد بما هو سلبي في تراث الآباء والأجداد، بما هو ضيق، متعصب، عتيق، 

عفا عليه الزمن. 

ولكنه صامد صمود الجبال لأن أحداً لم يتجرأ حتى الآن على مواجهته وجهاً لوجه، 

على تفكيكه ونقده.

أو قل أن بعضهم فعل ذلك ولكن بطريقة رديئة وغير موفقة أدت إلى ترسيخه أكثر. 

أقول ذلك وأنا أفكر بكل أولئك المثقفين العرب الذين زعموا أنهم يقومون بتجديد التراث 

أو نقد العقل العربي ولكن دون أن يصل مبضع الجراح إلى موطن الداء الحقيقي. 

فظل التراث صامداً كالصخرة الصلبة التي تسد الطريق والأفق. 

وظل الداء رازحاً. 

وهكذا نظل نراوح في مكاننا ونعود إلى نقطة الصفر في كل مرة. 

وهكذا يبدو التاريخ العربي وكأنه يدور حول ذاته الى الابد، على عكس التاريخ الأوروبي 

الذي يتقدم باستمرار الى الامام.

" فإن الماضي المحنط والمنغلق على نفسه كالقبر". نعم إنه قبر ويمكن أن يقبرنا جميعاً معه! 

نعم نحن جميعاً أموات-أحياء سُرقت منا طاقاتنا، 

وهدّت عزائمنا، وانتهينا حتى قبل أن نبتدئ.. 

نحن مجرد أشباح تمشي على الطرقات بلا هدف ولا غاية. 

والأموات هم الذين يحكمون الأحياء في العالم العربي وليس العكس.. 

الماضي هو الذي يحكم الحاضر وليس الحاضر هو الذي يتحكم بالماضي كما تفعل الأمم المتقدمة. 

انظر ما يحصل في  سوريا أوالعراق الجريح أبو ليبيا حت من دون أن أستثني مصر طبعاً

 الذي يدفع الثمن عنا جميعاً. 

نحن لانزال في لحظة السقيفة والصراع على الخلافة ومعركة الجمل وصفين وكربلاء.. 

نحن لم نتجاوز شيئاً حتى الآن لاننا نرفض نقد التراث نقداً علمياً تاريخياً مضيئاً كما فعلت المانيا وفرنسا 

وهولندا وبقية الأمم المستنيرة من اجل تجاوز العصبيات الطائفية والمذهبية التي دمرتهم ايضاً 

في فترة من الفترات.

ولأن الحداثة الفعلية لم تتحقق بعد. والإنسان لا يستطيع أن يعيش هكذا معلقاً في الفراغ. 

الإنسان يخاف على نفسه ويحتاج إلى ملاذ يلجأ إليه في حالة غياب الدولة القومية الحديثة التي تحميه فعلاً، 

أي دولة القانون والمؤسسات التي تساوي بين جميع المواطنين بدون أي تمييز. هذه الدولة غير موجودة 

حتى الآن. 

وما دامت غير موجودة فسوف تظل الطائفية هي سيدة الموقف. 

وهذا ما جهله حتى مسؤول عربي كبير كالرئيس حسني مبارك عندما هاجم الشيعة لانهم بحسب رأيه 

مرتبطون بايران اكثر مما هم مرتبطون بدولهم العربية. 

ونسي انهم كانوا مضطهدين على مدار التاريخ ولا يزالون. 

ضمن هذا المعنى نفهم اشتعال المذهبيات والعصبيات في كل مكان من هذا العالم الاسلامي الطويل العريض.. 

وسوف تظل الطائفية سائدة ما دام البديل عنها غائباً، ما دام جنينياً لا يزال في بداياته. 

ثم ما دامت حركة التنوير الديني في العالم العربي الاسلامي ضعيفة ومحاصرة من قبل جحافل الاصوليين 

والقومجيين والديماغوجيين والفضائيات الغوغائية. 

نقول ذلك وبخاصة أنها، أي الطائفية، تتمتع بمشروعية تاريخية وتضرب بجذورها عميقاً في الأرض. 

وبالتالي فلا ينبغي ان يزاود أحد على أحد فيما يخص هذه المسألة. 

مع الملاحظة كجملة اعتراضية أن هذا الكلام ممكن أن

يستهدف حالات خاصة لمثقفين مشهورين يعرفون كيف يستغلون الأوضاع 

لمصالح شخصية لا علاقة لها بالمصلحة العامة أو بالمبادئ الأخلاقية. وهؤلاء يسيئون إلى الحداثة 

أكثر من أعدائها التقليديين لأنهم يضربونها من خلالها. يضاف إلى ذلك أنهم مسيَّسون أكثر من اللزوم 

(بالمعنى السطحي والسريع لكلمة سياسة). 

فهم لا ينفكون يتحدثون عن حقوق الانسان والديمقراطية وأعماقهم طائفية حتى النخاع.

من يستطيع الآن أن يتصدى لأتباع التيار التكفيري في مصر أو غير مصر؟ 

ألم نقل لكم بأن تصفية الحسابات التاريخية مع التراكمات التراثية التي تخنقنا خنقاً 

أو تشلَّنا شللاً لم تنته بعد في العالم العربي، بل وحتى لم تبتدئ؟ 

أوروبا وحدها هي التي استطاعت تصفية هذه الحسابات المرعبة مع نفسها 

فأمَّنت الحرية الفكرية وايضاً الدينية لكل كتّابها ومبدعيها. 

أما نحن فلا يزال أمامنا شوط طويل لكي نتوصل إلى ذلك. 

هل سنتوصل إليه في نهاية القرن الحادي والعشرين؟ 

لا أعرف. كل ما أعرفه هو أن المعركة الحقيقية تكمن هنا، 

وأن كل تحرير سياسي لا معنى له إذا لم يتحقق أولاً التحرير الفكري: 


ولكم في التالي  والبقية الرأي والتعليق كما تحبون


هيثم عساف

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 70 مشاهدة
نشرت فى 25 يناير 2016 بواسطة HaithamAssaf

ساحة النقاش

RittaMansour

عندما يكون اللفظ عروجا في سموات الجمال
يصبح المعنى تحليقا في سر الدهشه
ومبعث الشعور بالاعجاب والحيره

صباحك يتدفق عذوبه كشلال الق

نبض الضاد ... هيثم عساف

HaithamAssaf
ورقة في جيبي يسمّونها هويّة. تتكلّم عنّي، تقول للنّاس اسمي، تصف لوني عيني، ولون شعري، وفي أي يوم ولدت، الى أي عائلة أنتمي، الى أي وطن، الى أي دين. وإذا كنت متعلماً، أو جاهلاً، متزوجاً أو عازباً، ومن اخترت زوجة لي... ورقة تكاد تأخذ كل حضوري، بل تأخذه. وبدونها يُلقى »

عدد زيارات الموقع

4,594

ابحث

تسجيل الدخول