تدريس الفلسفة بدون منطق
فاقد الشيء لا يعطيه
فاقد الشيء لا يعطيه. هذا المثل الشائع هو تجسيد للمبدأ الأول من مبادئ التفكير وهو مبدأ الهوية. فلا يمكن للفاقد أن يكون معطيا، كما لا يمكن ل أ أن تكون لا أ! فكيف يعقل أن يطلب من التلميذ (الفاقد) أن يستخرج (يعطي) الأساليب الحجاجية ويحكم على درجة إقناعها بل ويحاورها ويبني لنفسه مواقف خاصة دون أن نعلمه (في دروس وقواعد واضحة ومتميزة) أولا ما هو الحجاج وما هي أسالبيه وأخطاؤه ومعايير الحكم عليه؟
الارتماء في الماء لا يعلم السباحة دائما
قد يقول قائل (وأظنه من المشرفين على بناء المناهج والكتب المدرسية ببلادنا) إن تعلم السباحة لا يتم إلا بالارتماء في الماء. والماء في حالتنا هذه هو النصوص الفلسفية والسباحة هي تحليل النصوص وتحليل بنيتها الحجاجية تحديدا. نصيحة لله، لا تصدقوا هذا القول لأنه أغرق الكثيرين ورهب البعض من الاقتراب من الماء، وفي أحسن الأحوال أعطى سباحين غير مهرة. فالتعلم بالمحاولة والخطأ هو أكثر أنواع التعلم بدائية وتكلفة وعشوائية وإن كانت نتائجه لا تنسى فنتائجه السلبية أيضا لا تنسى.
ورغم بداهة مبدأ الهوية (اللهم في قوانين الجدل وعند فلاسفة الاختلاف) فإن الأوصياء على تدريس الفلسفة في المغرب يصرون على تدريس الفلسفة بدون منطق، والحجاج والمفهمة والاستشكال بدون دروس خاصة في هذه القدرات. وهم في ذلك يطبقون كما يزعمون مبادئ بيداعوجيا الإدماج التي تصر على فاعلية التلميذ في الاكتشاف والتعلم الذاتي.
الفاقد يسبح
إن كان التلميذ سيستشف ، كما يزعمون ، خصائص التفكير العقلاني والفلسفي من خلال المطالعة الطويلة والمتكررة (الدربة) للنصوص بنفسه وبدون قواعد للمنطق أو الحجاج منفصلة عن هذه النصوص، فإنه سيستشف أفكارا غامضة ومبتورة ويعجز عن التعبير عنها وستكلفه وقتا ثمينا، وستدفعه رغما عنه إلى إعادة اكتشاف العجلة. وقولنا هذا لا يتنافى أبدا مع فاعلية الذات في التعليم ومحاربة التلقين والحفظ.
لا فضل للكل على الجزء
إن السند الذي قد يكون اعتمد عليه الأوصياء على تدرس الفلسفة في بلادنا هو قول الجشطلتين بأن الإدراك هو إدراك للكل، ثم يأتي بعدها إدراك التفاصيل واستبصار البنية وقوانيها فيما بعد. وهو سند لم تثبت لنا نحن الممارسين للتعليم في المغرب جدواه. فنحن مجبرون على تدريس الجملة قبل الكلمة والكلمة قبل الحرف، والنص قبل القاعدة.. وهذا منهج غير سليم، وضرره يساوي إن لم يفق ضرر المبالغة في التركيز على الجزء. ورفع الضرر لا يأتي إلا بالمزج بين الكل والجزء. فإدراك البنية ككل في البداية ثم الانتقال نحو الأجزاء هو مجرد فعل ترتيبي لا يبيح إلغاء أو تهميش الجزء. فالتركيز على هذا الأخير هو أساس كل نقد وتأمل، لكنه لا يكتسب معناه الفلسفي إلى إذا وظف بشكل كلي. فالتعرف على مبادئ القياس (جزء) عنصر أساسي لكنه يظل يدون فائدة إن لم يوظف في بناء فكر متماسك وشخصي (الكل).
المعطى يعطي
يبدوا أن الصراع بين هيغل وكانط قد حسم في المغرب لصالح ذلك الأول، فنحن في المغرب" ندرس الفلسفة" ولا ندرس "التفلسف". نحشوا عقولا فتية ثبنا وقشا، بعشرات الأفكار الميتة التي يتكفل التلميذ بإرجاعها لنا يوم الامتحان مستنسخة إما من ذاكرته أو من ورقة.
وكلنا ـ كمدرسين للمفلسفةـ نعيش كل سنة واحدة من أشد المشاهد وقعا على القلب وإزعاجا للعين ومثارا للتساؤلات وهو مشهد الغش في الامتحان، حيت يعبر التلميذ بشكل جلي على فشل المنظومة التعليمية بكاملها ولا جدوى عمل المدرس.
والحل؟
الحل حلول متعددة، والمنطق وأساليب التفكير النقدي إحداها. فإمداد مادة الفلسفة بالتمارين المنطقية وطرق التفكير النقدي سيزودها بنفس جديد ووسائل دقيقة للتقويم ونوع من التشويق والجدة. فعندما يبدأ التلميذ بتطبيق خطوات محددة واحترام قواعد واضحة في التفكير والاستدلال في قضاياه الخاصة قبل قضايا الفلاسفة وقضايا المطلق، سيكون متفلسفا.
ولنا في الختام أن نشجب هذا التغييب القصري للمنطق ولأساليب التفكير النقدي في المقررات الفلسفية. وإن اعترض علينا بأن بإمكان (وقد يرفع البعض هذا الإمكان على مرتبة الواجب) مدرس الفلسفة أن يدرس تلاميذه أساليب التفكير النقدي وأساليب المحاجة بشكل منفصل ومتزامن مع تحليل النصوص، بحيث يخصص حيزا من وزمن حصصه في تدريب تلاميذه. وهذا اعتراض مقبول، لكنه ينسى أن عددا كبيرا من أساتذة مادة الفلسفة لا يعرفون من المنطق والتفكير الناقد والمحاجة إلا أسماءها فهم من "الفاقدين" كذلك، كما أنه لا يرفع المسؤولية عن الأوصياء على تدريس الفلسفة في بلادنا. لأنهم لو وضعوا مخطط واضح المعالم ومتدرج من الجذع المشترك إلى السنة الثانية باكالوريا لكانت النتائج أفضل.
ساحة النقاش