الاقتصادية24 | | ‎ Economy24

الاقتصادية 24 منصة إعلامية استثمارية شاملة الأخبار الاقتصادية المحلية والعالمية

authentication required

من يجد لِـ “لماذا” أن يعيش يستطيع أن يتحمّل أي “كيف”؟، فيكتور فرانكل
في عصرنا الرقمي، حيث تكدَّس الصور المثالية وتضاعفت قنوات التعبير عن الذات، تنتشر بين الناس ظاهرة غريبة ومؤذية تُزاحم الحب الحقيقي، إنها ما يُعرف بـ “النصب العاطفي” أو الاحتيال الرومانسي، ويُمكن وصفها بـ “قمقم حبارير” لأنّ المتورّطين فيها يُخزّنون الأمل بداخله، لكنّهم في النهاية يتحكّمون به عن بُعد، كأنّهم يغلقون عليه ويتركونه لينكسر.
في الولايات المتحدة، أظهرت بيانات حديثة أن في عام 2022 خسائر ضحايا “عمليات النصب العاطفي / الرومانسي” بلغت 1.3 مليار دولار تقريباً، بحسب تقرير Federal Trade Commission (FTC). في عام 2023، تلقّت السلطات الأميركية 17,823 شكوى في هذا الصدد، وبلغت الخسائر حوالي 652 مليون دولار فقط من تلك الشكاوى
أما في أوروبا، فتُعدّ المملكة المتحدة مثالاً بارزاً: فقد سجلت خسائر بلغت نحو 93 مليون جنيه استرليني في 2023 للعمليات المرتبطة بالنصب الرومانسي، بحسب ما ورد. 
وفي المنطقة العربية — خصوصاً في الخليج ومناطق الشرق الأوسط– تشير بيانات من تحليل أمن سيبراني إلى أن هناك ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة وقوع مستخدِمين للمواقع والتطبيقات في هذا النوع من الاحتيال، بحيث يُعاني “واحد من كل عشرين مستخدم” تقريباً من محاولة أو تجربة نصب عاطفي عبر الإنترنت.
ولأنّ الأرقام قد تبدو مجرد بيانات، فإن موجة هذه العمليات لا تؤثّر فقط في الجيوب، بل تمزّق ثقة الإنسان بنفسه، وتزعزع علاقته بالآخرين، وتُفكّك روابط الأسرة التي بُنيت على أمل مستدامٍ يتحوّل إلى خوف من الارتباط. ففي الولايات المتحدة، يُقدَّر أن الضحية المتوسّط لخسارة النصب العاطفي يبلغ نحو 2,000 دولار أو أكثر، مع وجود حالات تتجاوز العشرات من آلاف الدولارات
كيف يحدث هذا؟ يبدأ الأمر غالباً من تواصل عبر تطبيق أو شبكة اجتماعية، حيث يقدم المحتال نفسه بصورة جذّابة، يسارع في الإطراء، ويخلق رابطاً عاطفياً مكثّفاً بسرعة. ثم يُحوّل العلاقة إلى طلب مالي أو كشف معلومات شخصية أو حتى ابتزاز عاطفي. الدراسة الأكاديمية الدولية التي شملت 12 بلداً تجد أن الفقد المالي من النصب يُرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدم الوعي بكيفية الإبلاغ، وبانخفاض الدخل الفردي، ما يجعل المجتمعات الأقل ثراءً أكثر عرضة.
هذا يفسّر جزئياً سبب تسجيل بعض دول الشرق الأوسط ارتفاعاً أكبر في النسب النسبية، رغم أن الأرقام المطلقة أقل مما هو عليه في الغرب.لكنّ النصب العاطفي ليس ظاهرة رقمية محضة؛ فهو امتداد طبيعي للعلاقات السامة، تلك التي تنطوي على تكرار علاقات متعددة، تغيّب فيها الاستمرارية والتزامها، ويُعزّزها عطش الفرد للشعور بالاهتمام والقبول. ومع كل علاقة سامة، يتعرّض الشخص لخيانة ذاتية: هي ليست فقط خيانة للآخر بل خيانة للقيم التي يعرفها وللذات التي يريد أن تكونها. هذه الخيانة الذاتية تُضعف الهوية، وتُحرّم القدرة على اتخاذ قرارات متسقة، فتبدأ الذات في التفتت بين الصورة التي تُعرض وبين الواقع الذي يعيش.
في قلب هذا المدّ النفسي، يعمل الغرور والعناد كقناع دفاعي: المرأة التي تواصل علاقات مؤذية رغم التحذيرات ربما ترى نفسها فوق المحاسبة، أو “أُدرِكت كل شيء وبالتالي أُحقّ بقلب مفتوح”. الغرور يجعل قبول النصيحة يبدو ضعفاً، ويُعقّد الدخول في علاج لأنّه يُشكّل اعترافاً بعدم القدرة. وعندما يقترن ذلك بحب الظهور على وسائل الإعلام أو السوشيال ميديا، تتحوّل العلاقات إلى مشاهد، والذكريات إلى محتوى، فيما يُصبح البحث عن الذات حواراً خلف ستارة من التفاعل الاجتماعي. في هذا السياق، عرض الصورة يصبح أولوية على بناء الثقة، والتفاعل يُصبح عدداً لا معنى له.
ومن ثم يأتي دور الناصح — الشاب الذي يهتم ويخاف، والذي يحاول تقديم النصيحة من منطلق ديني أو أخلاقي أو إنساني. النصيحة الصادقة المبنية على الخوف من الله أو على الخشية الحقيقية من الضياع يمكن أن تكون بمثابة مفتاح تغيير، لكنّها كثيراً ما تفشل لأن المنصِف لا يرى نفسه في حاجة للتغيير، أو لأن اللغة المتّبعة لا تُحاكي وجع التحول، أو لأنّ المجد الرقمي أو الحافز الاجتماعي يبدو أكبر من الخسارة المعلنَة. في نهاية المطاف، لا تكفي النصيحة بدون خطوات عملية، بدون حدود، بدون دعم نفسي، وبدون أن يرى الشخص أن تغيير المسار ليس تراجُعاً بل انتصارا للذات.
والمفارقة الكبرى أن المرأة التي تختصّ في علاج الآخرين أو في الإرشاد النفسي قد تجد نفسها أسيرة هذا النمط من العلاقات. فالمعرفة النظرية لا تقي من السقوط العملي، وهذا ما تسميه بعض المدارس “المعالج الجريح”: شخص يساعد غيره بينما يتجنّب مواجهة نفسه. هذا التناقض لا يُبرر، بل يستدعي شجاعة الاعتراف والالتزام بخطة علاجية. فتقول الملاحظة: الوعي وحده ليس كافياً، بل ما يصنع الفرق هو الفعل والمؤازرة الواقعية، والخروج من الدائرة التي تعيد إنتاج الألم ذاته.
في ضوء ذلك، هناك خطوات عاجلة يمكن القيام بها: الاعتراف بأن المشكلة قائمة، طلب تقييم نفسي متخصص، وضع حدود مالية وشخصية وإعلامية، إعادة ضبط العلاقة مع وسائل التواصل، مشاركة الأُسرة أو صديق موثوق في خطة التغيير، وتنفيذ “ديجيتال ديتوكس” مؤقت لضمان أن القيمة الذاتية لا تُقاس بعدد التفاعلات. وهنا تكمن بداية التحرّر: ليس حين نُغيّر الآخرين لكن حين نُغيّر علاقتنا بأنفسنا.
في النهاية، النصب العاطفي ليس أزمة مالية فقط، بل هو أزمة وجود: أزمة في كيفية الارتباط، وكيفية تقدير الذات، وكيفية الاختيار. فحين يُخدع القلب، ليس فقط المال هو الذي يُهدَر، بل الثقة، والجوهر، والفرصة لأن نكون أصحاء في علاقاتنا. وليس العودة إلى الذات سهلة، لكنها ممكنة، وهي بدايتها الاعتراف، ونقطة انطلاقها الخطوة الأولى نحو التغيير.
المعرفة وحدها لا تُحرّر، بل الإرادة التي تلتقي بالعمل.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 10 مشاهدة

الاقتصادية24 | | ‎ Economy24

Economy24
الاقتصادية24 | | ‎ Economy24 »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

11,632