
د. إبراهيم جلال فضلون
"حين تتكلم الأنثى بلسان رجلٍ، فإن الكلمات لا تخرج من فمها فقط، بل من الذاكرة الطويلة للسلطة ذاتها"، "فاللسان سيف مسلول، يجرح قبل أن يشفي" – كما قال المثل العربي القديم، وكأنهُ يُذكرنا بأن الكلمات، كالسيوف، تحمل قوة تدميرية أو بناءة، لكنها غالباً ما تكشف عن الصراعات الداخلية التي تخفيها الوجوه الرسمية. وكأنها تتنقّل كالحُبارى خفيفةً، بخطواتٍ لا تُسمع، بحثًا عما يُخفيه بيضها في التراب، وتدّعي البراءة.. لاسيما في عالم السياسة، حيث تُبنى الإمبراطوريات على كلمات مدروسة، جاءت كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، كطريدة تتقن التخفي، لتُذكرنا بأن اللسان يمكن أن يكون خائناً، ينفلت من سيطرة صاحبه ويكشف عن تناقضات عميقة.
ردّها الساخر على مراسل "هاف بوست"، حيث قالت "أمك هي من اختارت بودابست"، لم يكن مجرد رد فعل عفوي، بل انعكاساً لثقافة خطابية جديدة في السياسة الأمريكية، لتتشبه كارولاين بالحبارى، تمشي بين غرف البيت الأبيض، تتقن اللغة الدبلوماسية حتى ظنّها الناس طُهرًا سياسياً أبيض، لكن لحظة واحدة أفشت سرّها: لحظة تكلمت فيها «كذكرٍ»، لا كأنثى، فكشف رداؤها الخفي. وصراعها الداخلي: فهل هي حُباري بريئة تتبع غريزتها، أم أداة في لعبة أكبر؟.
"عبارتها الجريئة" لم تكن زلّة لسان، بل خيانة لسان؛ نطقت بها مراهقة البيت البيضاوي لا بإسم الدولة، بل بإسم الغريزة، إذ تحوّل «البياض» السياسي إلى فضيحة رمزية تكشف وجه الغرب حين يضيق صدره بالنقد.. لكن كلماتها تكشف عن تنقلات سرية، حيث تخون اللسان الرسمي بإظهار ولاء أعمى لترامب، كأنها تتسلل للدفاع عن "الأب" السياسي دون أن يلاحظ الآخرون.
فهجومها على المراسل بوصفه "يسارياً مُتطرفاً"، أبرز تناقضها؛ فهي تتحدث عن المهنية، التي خانتها بكلمات حادة تعكس ثقافة ترامب الشعبوية، لتُحول السياسة إلى معركة شخصية، خرجت من جحرها لتغذّي شهوة التواصل، إذ لم تعد اللغة في عصرنا رسالة، بل غنيمة تلتقطها عدسات التواصل الاجتماعي.
لقد غابت الدبلوماسية وحلّ محلها ذكاء الخوارزميات، الذي يكافئ الغضب لا الوقار، ويحتفي بالشتيمة أكثر من الحجة. هكذا نطقت كارولاين باسم زمنٍ لا يؤمن بالسكوت، بل بالضجيج. لكنها في الأعماق ما هي سوى مرآة لرجلٍ أبيضٍ يختبئ في لغتها؛ وأوهمها أن الصوت العالي، دليل قوة. بما يعكس انقساماً في المجتمع الأمريكي بين اليسار واليمين، وثقافياً، يشير إلى تحول في الخطاب السياسي، من اللباقة إلى الغضب، كما في حالات ترامب أو ميلوني، حيث يصبح اللسان أداة للشعبية، فكارولاين لم تَخُن المراسل فحسب، بل خانت ذاكرة البيت الأبيض التي كانت، يومًا ما، تعرف أن الكلمة يمكن أن تقتل حربًا أو تشعلها. محولةً الإعلام إلى عدو، في هجومها على "هاف بوست"، مما يعزز الشك في المؤسسات. إنها خيانة اللسان الذي صار امتدادًا لأصبع يغرّد، لا لعقلٍ يفكّر. فهل رأيتم حُبارى تتكلم؟ نعم فاحذروها، اسمها كارولاين، ولسانها رجلٌ أبيضٌ في جسد امرأة.


