تأملات - الهروب
تأملات . . . . "الهروب"في حياة كل إنسان منا سجن يحاول الفرار منه، والبعد عنه. ولكن ليس كل إنسان قادرًا على الفرار من السجن الضيق المظلم إلى الفضاء الرحب المتسع. بل إن هناك من يفر من سجن إلى سجن، من يهرب من لهيب إلى لهيب، ومـن عذاب إلى عذاب أشد منه. كل ما في الأمر أنه غادر ظلامًا إلى ظلام، واستبدل قيدًا بقيد، وسكن سجنًا غير السجن. ولست أدري هل طاب له القيد فلم يتخلَّ عنه؟ وهل راق له الظلام فائتنس بوحشته؟! أم ضاقت عليه الدنيا بما رحبت فصار ينتقل فيها من سجن إلى سجن، دون بصيص من نور، أو هداية من سبيل. والمتأمل في حياة الناس يجد أن من يفرون من سجن إلى سجن آخر أكثر من أولئك الذين يتنسمون رياح الحرية، وينعمون بنور الشمس بعد نجاتهم من شبح الظلام الذي حاصرهم أمدًا بعيدًا. إن السجن الذي نتحدث عنه ليس كالسجن ذي الجدران العالية والأبواب الحديدية، الذي يعاقب فيه المجرمون الذين أساءوا إلى المجتمع، ولكن السجن الذي أعنيه له أبعاد اجتماعية ونفسية وفكرية وسلوكية و ... إلخ. قد تشعر فتاة ما أنها سجينة أنوثتها، فتفر من شبح الأنوثة الذي يخنق حريتها إلى عالم الذكورة بما يمثله لها من الحرية والانطلاق واللامبالاة، ثم تكتشف في نهاية الأمر أنها فقدت كل شيء: أنوثتها، ولم تفلح في الانتساب إلى عالم الذكورة. وأخرى تعاني من هيمنة الأب أو قسوة الأم أو تسلط الأخ، فتجد النجاة من كل ذلك في الارتماء بين يدي أي رجل يطرق باب قلبها، ولو كان دون مطمح آمالها وأحلامها. المهم بالنسبة إليها أن تفر من سلطان الأب إلى سلطان الزوج، أي زوج كان، ولا تدرك هذا الفارق بين روحيهما ونفسيهما إلا بعد فوات الأوان. ولعل الذي دفع كلتا الفتاتين إلى هذا الطريق هو تضخم الشعور بالكبت والمعاناة داخل الأسرة، والجهل التام بما يمكن أن تلاقي في حياتها الأخرى. ولعلها روح المغامرة عند الفتاة الأولى، واليأس عند الفتاة الثانية، والمغامرة واليأس لا يصلحان لحياة ناعمة ومستديمة. أقول هذا الكلام وأنا أشاهد احتضار أجمل زهور البستان في يد مغتصب الحب والجمال. أقولها لزهرة يانعة تخطو بساقها النحيل إلى الهاوية، تسعى سعيًا حثيثًا لتلقى حتفها. رحماك يا رب! مَن لزهرة البنفسج الحزينة وهي تجود بأنفاسها العليلة، فارقها الطيبُ، وغاب عنها الظلُّ، ويبست ساقها التي كانت يومًا ما ناضرة وزاهية. وليس الأمر مقتصرًا على جانب المرأة، فقد يهرب الزوج من بُعْدٍ نفسيٍّ وروحي مع زوجه إلى أخرى يلتمس عندها فضاءً رحبًا يحلق فيه بروحه الظمأى، فيظلم نفسه مرتين: الأولى لاكتسابه صفة الظلم، والثانية لهروبه من مشاكله دون محاولة حلها. أنا لست ضد تعدد الزوجات، بل من المؤمنين بحتميته في حالات عديدة، ولكن ليس على الدوام، وليس عند أول مشكلة، وإلا لماذا منحنا الله العقل، وزودنا بالصبر، وجمَّلنا بالحِلْم؟! ولست أدري في ذات الوقت، لماذا يُلام الرجلُ إذا أحب ثانية، وقلبه يتسع لأكثر من واحدة، ولماذا تعارضه المرأة غافلةً عن الفارق الهام بين قلبيهما: هي إذا أحبت أخلصت لمن تحب؛ لأن قلبها لا يتسع إلا لرجل واحد تراه رجلها وفارسها ومطمح آمالها. أما هو، فإن قلبه في اتساع الفضاء الرحب، وإن عقله يزن الأرض، فيمكنه أن يُخلص لزوجه ويعيش لحبه وهواه. يتسع قلبه لمثنى وثلاث ورباع. فهذه بنفسجة حزينة تمس شغاف قلبه، وهذه ريحانة ناضرة تعطر روحه الحالمة، وهذه زهرة الفل بعبيرها الشعبي ذي الجذور العريقة، وهذه سوسنة تعبق بالذكريات الدفينة، وهذه وهذه... هكذا فُطر قلبُ الرجل على التعدد، وفُطر قلب المرأة على التوحد. فالأمر عند المرأة هروب قد يشين، وعند الرجل سلوك لا يشين، وقد يكون فيه الراحة لروحه الظامئة إلى الحب ولنفسه المتشوقة إلى السكينة؛ لأنه الرُّبان على ساعديه يسير قارب الحياة ، بينما المرأة إحدى مجدافيه.!سعيد محمد المنزلاوي