"صناعة الفساد"

ومن هنا نرى أن أخطر ما تواجهه منظومات قيم المجتمعات ، ما يمكن تسميته " إخطبوط الفساد" الذى يتشعب ويمتد عالمياً ، لدرجة إطلاق مسمى هو "صناعة الفساد" ، الذي يبيح المتاجرة بكل ما يتنافى مع القوانين ، ويسهل اقتصاد السراديب ، ويرسخ ممارسات الجريمة المنظمة دولياً ، ولعل إطلالة سريعة على نماذج من الفساد في العالم تكشف عن مداه ، ولن نذكر أسماء البلاد ، لأن ما يعنينا هو حجم هذا الفساد ، ففى دولة ما تحول سلاح الطيران بمعرفة طياريها إلى شركة للنقل الجوى ، بأسعار تعادل نصف أسعار الشركة الوطنية للطيران ، وصار على الركاب الذين من حقهم ركوب الطائرات العسكرية أن يدفعوا مبلغاً من المال ليحصلوا على أماكن للسفر ، وفى نفس الدولة أيضاً تبين أن ثلثى موظفيها مجرد أسماء وهمية لا وجود لها ، وان ماتتقاضاه هؤلاء الموظفين "الأشباح" بلغ نصف العجز في ميزانية تلك السنة ، وفى دولة أخرى طبيعى أن تجد أعضاء البرلمان يتقاضون العمولات والرشاوى ، وان تكلفة الفساد فيها قدرت بحوالى نصف الميزانية المركزية .

فى دولة ثالثة أخرى أظهرت لجنة رسمية أن الفساد والرشوة يتفشيان ، وتضم القائمة كل إدارة ومكتب ومؤسسة حكومية في البلاد تقريباً ، منها تعيين الموظفين والترقيات والتنقلات وتخليص البضائع ، وإصدار تراخيص العمل ، وتسريب أسئلة الامتحانات للطلبة ، ومنح المسجونين الامتيازات ، وبيع ملفات التحقيق الجنائي واستبدال الأدلة الجنائية بأخرى ، حتى أن من يعملون في مشرحات الجثث يطالبون اهالى الموتى بالإتاوات مقابل تسليمهم جثث موتاهم ، وفى دولة رابعة يتفشى الفساد على كل المستويات بداية من غش الحليب والعقاقير والأسمدة ، وان احد مساعدى وزرائها منح عقوداً هامة لبعض المقاولين على أساس الرشوة ، ولم تطبق المعايير الدقيقة ، فإنهارات السدود الواقية على الأنهار تحت تأثير الفياضات ، وتشردت الملايين ودمرت المحاصيل ، وفى إحدى الدول ينتشر الفساد ويلاحق المواطن من بداية حياته إلى نهايتها ، وإذا لابد من رشوة للحصول على شهادة الميلاد ، وأيضا للحصول على شهادة الوفاة ، وفى وسط الطريق رشوة لدخول الحضانة ، ورشوة لعدم احتساب الغياب ، ورشوة للعب فى نتائج الامتحانات ، وإنجاح الراسبين والفشلة ، ورشوة لتزوير الانتخابات ، وقد يصل التزوير إلى تزوير حتى صوت المرشح لصالح غيرة ،  وفى دولة أخرى أيضا جمع حاكمها مبلغ 400 مليون دولار خلال فترة حكمه ، وفى دولة أخرى من نفس المنطقة الجغرافية بلغ رصيد حاكمها عند رحيله 80 مليون من العملة المحلية ، وكشفت التحقيقات انه كان يتقاضى عمولات عن العقود الحكومية .

وفى دولة أخرى جمع حاكمها ثروة مكنته من شراء نصف الأرض والصناعة في البلاد كلها ، وفى دولة أخرى كشفت الصحافة عن أخطر قضية اختلاس بطلها رجل أعمال اختلس عن طريق أنشاء أربعة مشروعات ، كان منهم ثلاثة مشاريع وهمية حصل عن طريقها على 16 قرضاً بفضل مساعدة بعض المسئولين الحكوميين ، منهم وزير المالية ووزير الشئون السياسية ، وتتسع الدائرة لتشمل دولاً فى كل مكان .

هذا التوالد للأنماط والنشاطات المتعددة والمتنوعة للفساد ، هو نتيجة لخلل فى البناء الاجتماعى يدفع المال ليشترى النفوذ ، ويحث النفوذ على اجتذاب المال ، ولا شك أن الفساد واحد من المشكلات الاجتماعية المرتبطة بالوجود الانسانى على طول تاريخه ، لكن ما استجد على الساحة الدولية هو ما يستحق التوقف كما يشير فهمى هويدى .

فقد تم توقيع أول معاهدة دولية تجرم الرشوة ، وصدرت هذه المعاهدة عن منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية ، ووقع عليها جميع الأعضاء ، بالإضافة إلى خمس دول من غير أعضائها ، كما انضم إلى المعاهدة البنك الدولى ، وصندوق النقد الدولى .

وقد يرى البعض أن الولايات المتحدة الأمريكية وراء إبرام هذه المعاهدة ، إذ خسرت عام 1997 ما يقرب من 15 مليار دولار ، وذلك في عطاءات دولية تقدم لها رجال أعمال ، وفاز بها غيرهم من دول لا تجرم قوانينها الرشوة للأجانب للحصول على العطاءات ، فى حين أن القوانين الأمريكية تجرم ذلك .

وفى تصور ( فهمى هويدى ) انه بغض النظر عما إذا كان ذلك صحيحاً أم غير صحيح ، فإن هذه المعاهدة تعد احد المؤشرات الهامة لمواجهة الرشوة دولياً ، بل وتجسيداً للتعاون الدولي لإنقاذ الاستقرار الاجتماعى في مواجهة تآكل القيم ، ومواجهه ممارسات الجريمة المنظمة دولياً ، وأيضا اقتصاد السراديب الذي يعتمد على الرشوة في التهريب ، وتتراكم أرباحه ولا تدركها القوانين ، إن هذه المعاهدة تؤكد على دور الدولة فى تعزيزها للرقابة القانونية على التجارة ، بسن القوانين التي تجرم الرشوة للحصول على الصفقات التجارية ، وفرض عقوبات رادعة على المخالفين ، والتنسيق القضائي لملاحقتهم .

يقال أن أثينا سقطت لأن أخطاءها تراءت لها لذيذة ، فلم ترغب في علاجها ، فهل هذه المعاهدة تعنى أن هناك 34 دولة ترغب من خلال استراتيجية واحدة متشابكة فى أن تعالج أخطاءها لتحمى مجتمعاتها من الانحطاط والخسارة .

ومصير انتشار الفساد هو مزيد من الغنى الفاحش للبعض فى مقابل الفقر والحرمان من الأغلبية وهنا يحث الانفجار، وربما لا يحدث أبداً حيث أن موتور الفساد يدور ولا يترك ترس بدور أن يدور فعلى مستوى الصغار يسهلون الفساد كل على ما يستطيع من قوته والذى ليس له فى الفساد فهو خائف وهو يمثل مصلحة كبيرة ، فلا يشارك فى الفساد ، ولا يحاربه لأنه جبان ، ولا يثور عليه فيترك الفاسدين يكبروا ويكبروا ويلتهموا خير البلد .

   وكنت قد قرأت عن هونج كونج وكيف حاربت الفساد بعد أن وصلت نسبته إلى أكثر من 90% واتفقوا على عمل قناة فضائية ليس هناك رقيب عليها تنشر كل قضايا الفساد صغيرة وكبيرة ، ومن حق كل فرد يتهم بالفساد أن يدافع عن نفسه ، ومن هنا خاف الفاسدين من الفضيحة ، ووصلت نسبة الفساد إلى أقل من 40% وذلك لان هونج كونج أرادت أن تطهر نفسها من الفساد ، ولكن فى دولة أخرى يقولون من حق أى إنسان أن يكون ثروة ، وليس مسئولا عن أثبات كيف كونها ، ولكن من يتهمه أن يثبت جرائمه وكيف بالرشوة كون ثروته ، وهل يعقل أن يأخذ رجل رشوة ثم يقوم بالاعتراف على نفسه وعلى من قدم له الرشوة . 

وألذ تعليق سمعته من أحد دكاترة الجامعة الذى يسير فى حاله كما يقولون ولا يحتك بالتجارة أن الفساد أصبح يحتاج إلى " وزير " لكى يدير عمليات الفساد بشكل ممتاز ، وهذا دليل على ارتفاع مستويات الفساد وعمق واتساع نطاقه . 

المصدر: دكتور / ناصر على
  • Currently 164/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
55 تصويتات / 473 مشاهدة
نشرت فى 7 يناير 2010 بواسطة Drnasser

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

111,934