المؤتمر الدولى السادس عشر
بمقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية
فى الفترة من 20 – 21 ذو القعدة 1430 هـ
الموافق 8- 9 نوفمبر 2009 مـ

الموضوع الرابع
المحاولات الدؤبة للإستشراق والتغريب فى تهميش اللغة العربية فى مناهج التعليم .
بحث بعنوان
أثر الإستشراق والتغريب فى مناهج تعليم اللغة العربية والتاريخ
( محاولة لرصد ما يحدث فى مناهج التعليم المصرية )
بحث مقدم من
دكتور / ناصر على محمد أحمد برقى
خبير مناهج – مدرس التاريخ – وزارة التربية والتعليم – جمهورية مصر العربية

2009

يقول أحمد شوقى ( 1868 م – 1933 م ) :
" ليس للعلم وطن ، ولا للحكمة دار ، بل العاقل من له فى كل أرض مدرسة ، وعلى كل طريق أستاذ "
ملخص :
يتناول هذا البحث ظاهرة "الاستشراق " Orientalism من حيث مفهومها ، ومجالاتها ، ونشأتها ، ومدارسها ، وأهدافها ، ودورها ، وكيفية التعامل معها فيما يخص المناهج التعليمية فى مصر ، وخاصة اللغة العربية والتاريخ .
تمهيد :
تظل ظاهرة الاستشراق موضع جدل وبحث ، وهذا ما يدعونا إلى القول بأن الاستشراق لم ينل حظه من البحث العلمى المحايد والموضوعى ، وأن الكثير من الدراسات في هذا الموضوع ما تزال بحاجة إلى إعادة النظر، وخاصة ونحن نعيش عصر العولمة (العالمية) التي يجب التعامل معها بجدية كظاهرة لا مفر من الإقرار بوجودها ، ولكن من الضرورة الاهتمام بها ومحاولة الاستفادة من جوانبها الإيجابية ، والتحفظ على جوانبها السلبية ، حتى نستطيع إعداد خطة علمية للاستفادة من العولمة العالمية ومواجهة العولمة الأمريكية .
فمنذ عقد أول مؤتمر دولى للمستشرقين فى باريس سنة 1873م ، وتتابعت المؤتمرات بعد ذلك حتى بلغت أكثر من ثلاثين مؤتمراً دوليًّا ، فضلاً عن الندوات واللقاءات الإقليمية الكثيرة الخاصة بكل دولة من الدول كمؤتمر المستشرقين الألمان الذى عقد في مدينة درسدن بألمانيا عام 1849م ، وما تزال تنعقد مثل هذه المؤتمرات باستمرار حتى الآن.
ومن الجدير بالذكر أن اهتمامات المستشرقين بالإسلام تنوعت وتعددت اتجاهاتهم ، بحيث تناولت كل فروع الثقافة الإسلامية تقريبا ، ونذكر من إسهامات المستشرقون وجهودهم التى قاموا بها :
1- أسسوا مدارس وأقسام فى الجامعات الأوروبية تخصصت فى هذه الدراسات الشرقية ، واستقدموا لها بعض أبناء العالم الإسلامى ليتعلموا بها .
2- عملت بعض الدول الأوروبية على إنشاء جامعات ومدارس فى كثير من البلاد الإسلامية تعمل تحت إشرافها العلمى وخططها الدراسية وتخضع فى تمويلها ومناهجها العلمية لدول أوروبا ، وفى معظم الأحوال فإن أبناء هذه المدارس، وخريجيها يكون ولاؤهم الثقافى والحضارى والسياسى لهذه الدول التى تلقوا تعليمهم تحت إشرافها.
3- قاموا بوضع الموسوعات العلمية الإسلامية مثل : دوائر المعارف المختلفة ، و دائرة المعارف الإسلامية ، والقاموس الإسلامى ، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث ، بالرغم من وجود بعض الأخطاء بها فقد خدمت الباحثين بدرجة جيدة .
4- امتدت نشاطات المستشرقين فى مجال الدراسات العربية والإسلامية ، فعقدوا المؤتمرات والندوات وألقوا المحاضرات فى الجامعات العربية والإسلامية ، فضلا عن تأليف الكتب والاشتغال بتحقيق التراث العربى والإسلامى فى مجالات كثيرة .
5- كما تسللوا إلى المجامع اللغوية فى كثير من البلاد ، فأصبح بعضهم أعضاء عاملين بمجمع اللغة العربية بمصر، وسوريا، وبغداد، والمغرب ، وتونس ولا تكاد تخلو جامعة أوربية الآن من قسم متخصص فى الدراسات الشرقية والإسلامية .
مواقف المستشرقين من الفكر الإسلامى :
لقد اختلفت مواقف المستشرقين من الفكر الإسلامى وقضاياه تبعا لاختلاف أديانهم أو مذاهبهم الفكرية والسياسية ، ولابد أن تختلف مواقف هؤلاء جميعا تبعا لانتمائهم الفكرى والعقائدى ، ولكن على سبيل العموم كان أسوأ هؤلاء جميعا هم المستشرقون اليهود ، فمنهم من يتهم الإسلام بأنه دين فرضه محمد وأتباعه بقوة السيف والحروب ، وفيهم من ينكر نبوة محمد ، ويرى أن ما جاء به من تعاليم قرآنية أخذها عن أحبار اليهود وكهنة النصارى.
ولمزيد من الوعى بدور الاستشراق كان لابد من تناول النقاط التالية :
تعريفـه ، والمفهوم اللغوي للاستشراق ، ونشأة الاستشــراق ، ودوافعه : النفسية والتاريخية و الاقتصادية و الإيديولوجية والدينية والاستعمارية و العلمية ، واهتمامات المستشرقين بالإسلام ، وأهداف التغريب في العالم الإسلامى ، ومؤامرة التغريب وأبعادها ، والغزو الثقافي كسلاح التغريب وأداته ، والاستشراق والتبشير ، ثم دراسة لواقع المناهج التعليمية فى مصر من خلال تناولها لموضوع الاستشراق والتغريب من خلال مناهج تعليم اللغة العربية والتاريخ ، باعتبارهما أكثر صلة بموضوع الاستشراق والتغريب ، ثم التوصل إلى توصيات من شأنها تنمية الوعى بدور الاستشراق الايجابى وتدعيمه ، والحد من الدور السلبى ومواجهته .

وفيما يلى تفصيل ذلك :
مقدمة :
فى عصر العولمة الذى أصبح فيه الحديث لا ينقطع عن الحضارات ، فبينما يذهب البعض ويؤكد على أنه صدام حضارات قدر لا مفر منه على حد تعبير ( دييتر سنغاس ) (1) .
فإن البعض الأخر يؤكد على انه حوار حضارات ، وأن كان لابد من دعم ذلك بكل شكل ايجابي ، بدلا من تظل العملية لعب بالعقول ، وتفقد مصداقية المقولة .
ويشير ( صالح الحصين ) إلى أن القرن المنصرم شهد خلال خمس وعشرين سنة حربين عالميتين، ومع العنف والتدمير الناتج عنهما ، رأى كثير من مفكرى الغرب أن الحرب وما ترتب عليها إنما هى ظاهرة من ظواهر انعدام الروح الحضارى ، وانعدام هذه الروح راجع إلى عدم التوازن بين التقدم المادى والتقدم الروحى (2).
وأما القرن الحالى فقد شهد حربين أحد طرفيها قوى التحالف الدولى ، أما الطرف الآخر فكان أفغانستان ثم العراق والحروب توضح أن مدى الحقد والاستجابة لدواعي الكراهية والعدوانية والرغبة فى الانتقام.
فالسلوك اللإنساني فى الحرب علامة دالة على مدى تخلق الإنسان الغربى المعاصر بالروح الحضارى ومدى قدرته على الخلاص من وحشية العصور التي يسميها عصور الظلام.
كل ما سبق يستلزم منا إعادة النظر فى العلاقات بين الشرق والغرب ، والسعى إلى الوصول إلى مكمن الخطأ فى العلاقات بين الطرفين من أجل تحديد عوامل الانقسام ، والسعى لدرء أخطار الحقد الحضارى الذى يعد فتيل يشعل الحروب التى لا ينقطع صوتها على مستوى العالم ، ولعل الاستشراق واحدة من المجالات التى لابد من دراستها للتعرف على ما لها وما عليها فى صياغة العلاقة بين الشرق والغرب .
فإذا كان ( جمال الدين الأفغانى ) ذهب إلى إن المقلدين للتمدن الغربى إنما يشوهون وجه الأمة ، ويضيعون ثروتها ، ويحطون من شأنها ، إنهم المنافذ لجيوش الغزاة ، يمهدون لهم السبيل ، ويفتحون لهم الأبواب ، فقد أشار ( محمد عمارة ) إلى أن الغرب الاستعمارى حاول ولا يزال يحاول احتواء أمتنا، وطمس معالم تمايزها واستقلالها ، وتشويه معرفتها بذاتيتها .. وصولاً إلى تجريدها من طاقات الثورة في سبيل النهضة والاستقلال ، وإننا لابد من السير فى طريق النضال من أجل الحفاظ على نقاء الهوية الحضارية للأمة فى وجه محاولات المسخ والنسخ والتشويه الذى تمارسه فكرية التغريب وتيار المتغربين (1).
يتمثل الموقف من الحضارات الأخرى في التفاعل.. أم التبعية أم الانغلاق وخاصة إذا فقدت الأمة التى انتسبت إلى غير هويتها ، أو فقدت "البصمة الحضارية" التي تمثل السمات والقسمات التي تميزها عن غيرها من الأمم والشعوب ، فتصبح أمة لقيطة "تابعة" ممسوخة فاقدة لعزة الخصوصية والاختصاص.. وميزة التميز والامتياز (2).
ويشير محمد عمارة إلى أنه يجب الحوار الموضوعي والصبور مع الإنسان الغربى لتوضيح موقفنا الحقيقى من طبيعة العلاقات التى يجب أن تسود بين الحضارات وبين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ، وذلك لتحرير عقل الإنسان الغربى من سجن ثقافة الكراهية السوداء للإسلام وحضارته ، تلك التى أشاعتها مؤسسات الهيمنة الغربية عبر قرون طويلة في المجتمعات الغربية (3) .
وتفسير الظاهرة بأنها الخوف المرضي من الإسلام حيث أدت الإسلاموفوبيا إلى مزيداً من الكراهية في القلوب (4).
أشار ( محمد عمارة ) إلى التحديات الخارجية والتى تتمثل فى الغزو الفكرى والقيمى الذى يحتاج مقومات الهوية الإسلامية عاملاً على نسخها ومسخها وتشويهها ، والغزو العسكرى الذى ينتزع السيادة والاستقلال ، والنهب الاقتصادي الذى تقوم به الشركات المتعددة الجنسيات والتي تستنزف ثروات المسلمين وتكرس الفقر والبؤس والتبعية في بلاد المسلمين وغيرها من التحديات التي ليس لها آخر(5).
ولعل التحديات الداخلية التي تتمثل فى آفة (التخلف الموروث) عن عصور التراجع الحضارى ، وذلك من مثل: القمع والاستبداد ، وغيبة الشورى والحرية ، والضيق بالآخر والنابع من ضيق الأفق، وآفة التعميم والإطلاق ، والهجرة من الحاضر إلى التاريخ ، والانقسام الفكري الحاد بين العلمانية والإسلاميين ، والأمية الثقافية والأبجدية ، والتشرذم الفطرى ، وتحويل الكثير من النظم والحكومات بأسها إلى المنازعات الداخلية فى شعوبها ومع جيرانها .

مفهوم الاستشراق :

أن مصطلح المستشرق Orientalist أى العالم أو الدارس للشرق: لغاته، أو أديانه ، أو فنونه وحضاراته ؛ قد ظهر لأول مرة في اللغة الإنجليزية عام (1779م) وأن مصطلح الاستشراق Orientalism ظهر في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام (1838م) (1) .غير أن ما يذكره المستشرق الإنجليزي المعاصر W. Montgomery Watt أن قاموس Oxford أورد: أن كلمة "مستشرق Orientalist " استخدمت لأول مرة لدارس الشرق عام ( 1786) بينما كلمة " الاستشراق orientalismلم يأت ذكرها في اللغة الإنجليزية حتى عام (1812) ؛والمقابل الفرنسي لهذين المصطلحين ، فقد ظهر قبل ذلك" (2).
إن أقدم استخدام " مكتوب " لمصطلح Orientalist يمكن العثور عليه في الأدبيات الاستشراقية ورد عند شيخ المستشرقين الفرنسيين البارونSilvestre" (1838-1758)De Sacy مرتين منذ عام(1810)، مرة في مقدمة كتابه الشهير "النحو العربي" عندما تحدث عن المستشرق الهولندي (1624-1584)Erpenius ومدى مساهمته في دراسة النحو العربي،ومرة ثانية عندما وصف زملاء له من المستشرقين قاموا بدور هام في دراسة فقه اللغة العربية ونحوها (3).
فالاستشراق والمستشرق : مشتقان في اللغة العربية من مادة (ش ر ق) يقال : شرقت الشمس ، شرقا وشروقاً إذا طلعت (4) وجاء في (معجم متن اللغة) استشرق : طلب علوم الشرقي ولغاته –مولدة عصرية- تقال لمن يُعني بذلك من علماء الفرنجة (5) والاستشراق على صيغه (استفعل – استفعال) الدالة على الطلب .
" والمستشرق " Orientalist كما جاء في موسوعة Grand Larouss الفرنسية هو : " العالم المتضلع في معرفة الشرق ولغاته " فهذه الموسوعة الفرنسية المعاصرة ، هي الوحيدة التي ذكرت هذا المصطلح : إذ لا نعثر على مادة Orientalisme في دائرة معارف الإسلام ، الفرنسية ( Encyclopedia de Le Islam) على الرغم من أن جميع محرريها من المستشرقين ؛ وهذا أمر يثير الريبة والتساؤل ؟! ؛ وكذلك لا نعثر على المصطلح في دائرة المعارف البريطانية Encyclopedia Britannica)) ، أما دائرة المعارف السوفيتية فتورد مادة Orientalstiaka بمعنى علم متكامل قائم على دراسة آثار الحضارة الشرقية المادية والروحية ؛ بما يشمل علم الاقتصاد والتاريخ والأديان والآداب والفلسفة وغيرها (1).

ويرى ( رودي بارت ) أن الاستشراق هو " علم يختص بفقه اللغة خاصة ، وأقرب شي إليه إذن أن نفكر في الاسم الذي أطلق عليه كلمة استشراق مشتقة من كـلمة " شرق" وكلمة شرق تعني مشرق الشمس ، وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشرق أو عـلم العالم الشرقي" (2).
ويعتمد المستشرق الإنجليزي ( آربري ) تعريف قاموس أكسفورد الذى يعرف المستشرق بأنه من تبحر فى لغات الشرق وآدابه (3) .

نشأة الاستشــراق :
أن معظم المستشرقين يؤرخون لظهور مصطلحي الاستشراق والمستشرق بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر وحتى قرب منتصف القرن التاسع عشر ؛ فهذه الفترة في نظر الكثير من المستشرقين المعاصرين هي التي أفرزت هذا المصطلح ، وهم يرون أن التقدم الحقيقي للدراسات الاستشراقية تحققت في القرن التاسع عشر
وبدءاً من عام 1873م أخذت تعقد مؤتمرات دولية للمستشرقين (4) التى تناولت الشرق وحضارته وأديانه ولا تزال تعقد إلى اليوم.
لقد بدأ الاستشراف بدراسة اللغة العربية والإسلام وانتهى بعد التوسع الاستعمارى إلى دراسة ديانات الشرق وعاداته وحضارته وجغرافيته ، وإن كانت العناية بالإسلام والآداب العربية هى أهم ما يُعنى به المستشرقون حتى اليوم نظراًََ للدوافع الدينية والسياسية التي شجعت على الدراسات الشرقية ، وليس المهم متى ظهر مصطلح الاستشراق ، وإنما المهم هو متى بدأت الدراسات العربية والإسلامية في أوربا ، ومتى بدأ الاشتغال بالإسلام وحضارته ، سواء بالقبول أو بالرفض ، وهذا أمر موغل في القدم كما أسلفنا ، إن المصطلح في حد ذاته لا يعني شيئاً أكثر من إقرار أمر واقع ، وإطلاق وصف ومسمى على الدراسات التي كانت قائمة بالفعل قبل ذلك بقرون عديدة بصرف النظر عن علمية هذه الدراسات أو موضوعيتها " (1) .
ويرى البعض : "أن الاستشراق بوجه عام : اتجاه الغربيين للعلوم الإسلامية بالدراسة والبحث ، والمستشرق هو العالم الغربي الذي تمكن من هذه الدراسات " .. ثم اتسع هذا المصطلح ، فأصبح يشمل اهتمام غير المسلمين أيا كانت جنسيتهم ، باللغة العربية والعلوم الإسلامية ، وبهذا " يدخل ضمن المستشرقين مجموعة الصينيين والهنود اذا تمكنوا من هذه الدراسات " (1).
أنواع المستشرقين :
فالاستشراق تبعاً لمراحله وتجلياته المختلفة " ، أنتج دراسات كثيرة ومتنوعة ، وهذه الدراسات على اختلاف دوافعها وبواعثها الدينية أو العسكرية ، أو السياسية أو الاقتصادية أو العلمية والتي قام بها الغربيون ، أنتجت ما نطلق عليه اسم " الاستشراق " Orientalism " ذلك التيار الفكري الذي تمثل في الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي والتي شملت حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته ؛ ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الإسلام ، فصار معبراً عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما (3) .
إن المهتمين بالشرق كان منهم الرحالة والمبشرون ، والضباط ورجال الإدارة الاستعمارية ، واللغويون واللاهوتيون ، والرومانسيون والانثربولوجيون ، وعلماء الآثار ، ومؤرخو الحضارات ، وخبراء الأسواق التجارية ، ومندوبو الشركات ، والسياسيون ورجال المخابرات ، والمهتمون بحوار الحضارات ، وعلاقات المسيحية بالإسلام .
أمام هذا التنوع حاول بعض الباحثين تقسيم الباحثين الاستشراق على صنفين الأول علماء متخصصون في الدراسات الإسلامية أو الصينية أو الهندية . والثاني فئة الكتاب والفلاسفة والفنانين الذين زاروا الشرق وكتبوا عنه (1)
وكذلك حاول البعض تصنيف هؤلاء المستشرقين إلى فريقين :
الفريق الأول: مستشرقون " كلاسيكيون " لغويون كانت لهم إسهامات علمية متعددة وخصبة ، ميزها وحصرها "بعض الكتاب العرب" في ثمانية عناصر هي :
دراسة الحضارات القديمة ، وتجميع المخطوطات العربية في المكتبات الأوربية ، وإنشاء لوائح بالمخطوطات ونشر مؤلفات عديدة مهمة ، وإلقاء دروس منهجية على العلماء الشرقيين في هذا الخصوص ، وتنظيم مؤتمرات للاستشراق ، وكتابة بعض الدراسات المتماسكة من حيث الدقة والمنهجية ، وأخيراً ساهمت كتاباتهم – أيا كانت درجة موضوعيتها – في تنبيه الوعي في مختلف بلدان الشرق وفي تنشيط حركة النهضة العلمية واليقظة الفكرية (2).
الفريق الثاني: خليط من الجامعيين الغربيين والمبشرين ، ورجال الأعمال والعسكريين والموظفين الاستعماريين ، والرحالة والمغامرين ، الذين كان هدفهم يقتصر على التعرف على الحقل المزمع احتلاله ، والولوج إلى أفئدة الشعوب من أجل تأمين انصياعها للقوى الأوربية على نحو أفضل .
إن ما يسميه المتبنون لهذا التصنيف بالفريق "العلمي" – من صنفي المستشرقين – ما هو إلا بعض إسهام من إسهامات الفريق " العملي" المصلحي والتي جاءت عرضية ، وهي أساساً إسهامات لم تكن موجهة لأغراض البحث العلمي النزيه لذاته ، وإنما كانت تخدم – في علميتها – مصالح الغرب في المعرفة لمزيد من السيطرة . إذ لم يكن برأس – غالبهم الأعم – من حقق منهم مخطوطا ، أو وضع فهرسا خدمة للعرب والمسلمين عندما بدأ عمله العلمي ، وإنما كان هدفه تسهيل الأمر على من مولوه من أبناء جلدته أولاً ، ومجده الشخصي ثانياً .

لقد ولد الاستشراق أولاً من بذرة كنسية" لأهداف تبشيرية – تنصيرية ، ترعرعت في أحشاء المخططات الاستعمارية أو على الأقل – كما يقول المستشرق جورا فسكي – تزامن
مع ارتفاع الأصوات الأوربية الداعية إلى استعادة السيطرة على الأراضي المقدسة من أيدي مغتصبيها المسلمين ، عن طريق إتباع جملة من الإجراءات العملية التطبيقية في مقدمتها إنشاء المدارس العربية كشرط لتحقيق المعرفة الدقيقة لعقلية العرب والعقيدة الإسلامية ، وقد تبين للدوائر الإستراتيجية الغربية ، أن التفوق العسكري والتقني والاقتصادي غير كاف من أجل إدارة البلدان المستعمرة وبغية الاحتفاظ بالتأثير اللازم في البلدان التابعة ، عمل الاستشراق العملي على إيجاد مجموعة متكاملة من المعارف والمعطيات العلمية حول تلك البلدان المستعمرة ، أسهمت في تحقيق الأهداف الاستعمارية الغربية " (1).
ومع الاعتراف بوجود بعض الإسهامات العلمية للاستشراق ، فهي فى واقع الأمر تخدم في علميتها وموضوعيتها مصالح الغرب المختلفة . فإذا ما نظر المرء إلى العمل الضخم الذي وضعه علماء ومستشرقو الحملة الفرنسية والمسمى بـ " وصف مصر" على مافيه من علمية ودقة ، يجده في نهاية الأمر يخدم هدف المستعمر الفرنسي في الاحتواء والسيطرة والإخضاع.
على أن مايثير الدهشة حقا هو أن يذهب بعض الباحثين العرب والمسلمين إلى اعتبار الاستشراق – بصفة عامة – حركة علمية واسعة النطاق اهتمت بالشرق عامة والشرق الإسلامي خاصة ؛ إذ يرى أنه لولا المستشرقون لما قدر لتراثنا أن يرى النور ، والاستشراق في نظره لم ينشأ لهدف تبشيري (2)، مما دفع أحدهم إلى القول بأنه لاريب فى أن الاستشراق قد أبلى بلاءً حسناً في خدمة الإنسانية متأثراً بهذه الدوافع العلمية الكامنة في نفسه والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية لميلاد حركته ونشأة فلسفته" (3).
إن النظر إلى الاستشراق بهذه البراءة ، لايمكن من البحث عن عمق الدوافع والبواعث، أي أنه يأخذ الاستشراق في مستواه العيني الظاهر دون الغوص في دوافعه وبواعثه ومبرراته ، والنظر إلى الاستشراق من هذه الزاوية هو مايسعى المستشرقون من أجل إقراره وإقناع الشرقيين به .
نعم ثمة نفر قليل من المستشرقين ، استهواههم الاستشراق "بدافع علمي" للإطلاع على ثقافات وحضارات وأديان الأمم الأخرى ، والبحث عن الحقيقة ، وهذا الصنف – على قلته – متحرر من الأهواء ولا يعمد إلى الدس والتحريف وتكون أبحاثه ونتائجه المستخلصة منها موضوعية وتتسم بالأمانة العلمية ، والباحثون عن الحقيقة من هؤلاء هم أناس ساورتهم الشكوك في عقيدتهم التي ولدوا عليها ، وغلب على وجدانهم أن"الشرق" هو مصدر الأديان ، وأنه مرجع الباحثين عن العقائد الروحية في الزمن الحديث كما كان الحال في الزمن القديم
فكان لما قام به هؤلاء من أبحاث ومقارنات بين الأديان ، أثر ملموس في اهتداء كثير منهم إلى الإسلام مثل " ايتين دينيه " وناصر الدين أسد " و " مراد هوفمان " و "روجيه جارودي" وغيرهم وكذلك اهتداء بعض الغربيين الآخرين(1) .
على أن هذا الصنف من المستشرقين – العلميين والموضوعيين – لايوجد إلا حين يكون له من الموارد المالية الخاصة ، مايمكنهم من الانصراف إلى الاستشراق بأمانة وإخلاص ؛ لأن أبحاثهم المجردة عن الهوى لاتلقى رواجاً لا عند رجال الدين ، ولا عند رجال السياسة ولا عند الكثرة المتعصبة من القراء الغربيين . ومن ثمة فهي لاتدر ربحاً ولا مالاً وهذا يفسر لنا ندرة وجود هذه الفئة في أوساط المستشرقين.
ومما سبق نلاحظ تضارب الآراء حول مفهوم الاستشراق بين كثرة تراه مندرجا ضمن أهداف تبشيرية واستعمارية ، وقلة ترى فيه بحثاً علمياً خالصاً ، هناك إذن من يؤيده ويتحمس له إلى أبعد الحدود ، وهناك من يرفضه جملة وتفصيلاً ، والواقع كما يقول الدكتور حمدي زقزوق (2): إن كلاً من هذين الاتجاهين غير منصف فيما ذهب إليه ، والاستشراق غير معصوم من الخطأ ، كما أنه ليس كله شراً بالنسبة للمسلمين ؛ فالاتجاه الأول مبهور بالحضارة الغربية ، والتقدم العلمي والتكنولوجي وبالتالي فإن كل ما يأتي من الغرب لابد أن يكون وجهة نظره سليما وعلميا وموضوعياً ؛ أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه رافض للحضارة الغربية ، ورفضه للاستشراق مبني على أسباب عديدة منها الظروف التي أدت إلى نشأة الاستشراق وارتباطه بأهداف تبشيرية ومواقف عدائية من الإسلام ، وتلك الأدوار الهامة التي لعبها الاستشراق في مساعدة الاستعمار الغربي ، ويلعبها الآن لخدمة الاستعمار الأمريكي .

على أن هناك تياراً أو اتجاهاً ثالثاً هو في حقيقة الأمر الاتجاه الذي يمكن أن نسميه الاتجاه الإسلامي الحقيقي لتناول الاستشراق ، وهذا الاتجاه يفرق ابتداءً بين فئات المستشرقين ، فلا يصدر تعميما خاطئاً ، بل يعترف بأن هناك مستشرقين موضوعيين يتسمون بالنزاهة والحيدة في البحث كانت لهم جهود هامة في فهرسة المخطوطات ودراستها ونشرها وترجمتها ، وهناك آخرون لا تتسم أعمالهم بأي شكل من أشكال الموضوعية والحياد العلمي ، بل تصطبغ بأهداف أخرى غير علمية ، وعلى الرغم من أن الاستشراق تناول في دراساته بلدان الشرق وأديانه عامة ، إلا أن الدراسات الغربية حول الديانات الوضعية مثل " البوذية" و" الهندوسية" غالباً ما تكون دراسات موضوعية بعيدة عن التجريح ؛ ويبقى الإسلام وحده من بين كل الأديان هو الذي يتعرض في الدراسات الاستشراقية الغربية ، للنقد والتجريح ، على الرغم من أنه دين يحترم اليهودية والمسيحية ، ويؤمن بموسى وعيسى ؛ والإسلام الذي تعرضه هذه الدراسات الاستشراقية ، ليس هو الإسلام الذي يدين به المسلمون وإنما هو إسلام من صنع الخيال ، ومحمد الذي تتناوله الدراسات الاستشراقية ، ليس محمداً الذي يؤمن المسلمون به، بل هو شخصية أخرى مخترعة (1) لا يعرفها المسلمون ، فماذا يتبقى للمسلمين عندما يطعنون في أقدس مقدساتهم المتمثلة في دينهم ، وقرآنهم ، وشخصية نبيهم ؟ هل يقبلون ذلك أم يعترضون ، ويتولون مهمة نقد وتفنيد هذه الافتراءات الاستشراقية ؟ !

ونجد أن معظم الكتابات العربية الإسلامية التي تناولت الاستشراق تأتى كرد فعل لتلك المغالطات التي جاءوا بها ؛ حيث مثل "الاستشراق" في نظر الكثير من نقاده مظهراً من مظاهر علاقة الغرب بالشرق الإسلامي ، بل هو أكثر هذه المظاهر تفجراً وعدوانية ؛ فإذا كان الغرب قد غزا الشرق وبلاد الإسلام عسكرياً منذ قرون ، فإن الاستشراق رافق هذا الغزو، بل تقدمه ومهد له الطريق على الجبهة الثقافية والعسكرية " فهجوم الغرب المتمثل في الحروب الصليبية التي بدأت مع نهاية القرن الحادي عشر الميلادي ، واستمرت زهاء مائتي
عام ، مكن الغرب من عمل مسح شامل لمكونات الحضارة العربية ، كما تجلى ذلك من خلال مدارس الترجمة في جنوب إيطاليا وأسبانيا التي ترجمت أمهات الكتب العربية في شتى المجالات ، ولمختلف الأغراض . وإذا كانت الحروب الصليبية قد فشلت عسكرياً ، فإنها قد نجحت – كما يرى بعض الكتاب – بفعل التبشير والاستشراق اللذين توحدا حول هدف التغريب واستيعاب "العقل التاريخي العربي" (2) فأصبحا وسيلة هذا التغريب وما جاء بعده" (3). لقد مثلت الحضارة الإسلامية بالنسبة للغرب تحدياً صارماً ، واجهه بالتبشير والاستشراق للتعرف على سر العقيدة التي وضعت في أيديهم مفاتيح النصر " فكان تحالف التبشير والاستشراق أولاً في ترجمة " القرآن الكريم – أساس هذه العقيدة إلى اللغة اللاتينية في سنة 1143م وهي نفس السنة التي رد فيها الصليبيون على أعقابهم "(4) - ثم أعقبتها ترجمات أخرى إلى مختلف اللغات الأوربية لنفس الأغراض التبشيرية على النحو الذي سنفصله لاحقاً.
فالاستشراق في نظر كثير من الباحثين "فصل" في مؤامرة كبرى أسسها الغرب، أيا كانت هوية هذا الغرب ، فعندما كان مسيحياً أراد ضرب الإسلام لنشر المسيحية بالقوة وبالتبشير ، وهو عندما كان ومازال "استعمارياً " ، مصبوغاً بالعلمانية أراد تخريب عقائد المسلمين لتضعف مقاومتهم ، فيسهل استغلالهم واستعمارهم ، والهيمنة عليهم ، وفرض وصايته عليهم ، ومن هنا ليس بمستغرب أن يتم نقد الفكر الاستشراقي المتطرف : باعتباره أداة هذه المؤامرة الغربية ووسيلتها الفاعلة
دوافع المستشرقين وأهدافهم:
أما دوافع الاستشراف فإننا نستطيع أن نلمس هذه الدوافع من أعمالهم وما حققوه من أهداف ومن النظر إلى صلة الاستشراف بالتبشير بالمسيحية وإلى صلته بالاستعمار ، فيمكن لنا أن نلخص هذه الدوافع:-
1- الدافع الديني : حيث أن أغلب المستشرقين هم من رجال الكهنوت ، ويريد هؤلاء الطعن في الإسلام ليشوهوا محاسنه ويحرفوا حقائقه لصرف أنظار الغربيين عن نقد ما عندهم من عقيدة بعد أن رأوا الحضارة الجديدة قد زعزعت أسس العقيدة عند الغربيين بل تشككهم بكل التعاليم التى يتلقونها من رجال الدين عندهم ، فالدافع الدينى هو إخراج المسلمين عن دينهم ، أو إبقاؤهم بلا دين لأن هذا يخدم لتحقيق أهداف المستشرقين المرتبطة بمنافعهم ومصالحهم السياسية والاقتصادية وغيرها ، لذا فإنهم قد استخدموا ولا يزالون يستخدمون وسائل لإخراج المسلمين عن دينهم مثل:
- تنفير المسلمين من دينهم وحملهم على كراهيته.
- تشويه الإسلام والتشكيك فيه، وتشويه التاريخ الإسلامي وتشويه حضارة المسلمين.
- نبش الحضارات القديمة وإحياء معارفها لربط بعض المسلمين بها.
- تزيين ما في المسيحية من تعاليم وتبديل طريقة كتابها .
- التشكيك فى مصادر الدين.
- التشكيك فى صحة نبوة النبى محمد صلى الله عليه وسلم.
- إلقاء الشبهات حول أحكام الإسلام التشريعية ومصادرها.
- تزيين الأفكار البديلة.
- افتراء الأكاذيب واختراع التعليلات والتفسيرات الباطلة.
- التلطف فى دس السموم الفكرية بصورة خفية ومتدرجة.

2- الدافع الاستعمارى : فلم ييأس الصليبيون بعد هزيمتهم في الحروب الصليبية من العودة لاحتلال بلاد المسلمين ، فاتجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل شؤونها ليتعرفوا على مواطن القوة فيضعفوها ، ولما تم لهم ذلك وهدمت الخلافة كان من دوافع تشجيع ودعم الاستشراق إضعاف قوة المسلمين المعنوية وغرس الشك فى نفوسهم والغرض من ذلك أن يُفقدوا المسلمين ثقتهم بأنفسهم ودينهم ويرتموا في أحضان الكافر يقلدونه في كل أمر وإخضاع المسلمين اخضاعاً كاملاً وإحلال مفاهيم جديدة أو إحياء مفاهيم جاهلية ماتت منذ تمكن الإسلام فى قلوب المسلمين كالقوميات العربية والفارسية والتركية ونحوها.
3- الدافع الاقتصادى : فقد حرض المستشرقون كثيراً من الحكومات على غزو بلاد المسلمين غزواًً اقتصادياً للاستيلاء على ثروة المسلمين واستغلال الموارد الطبيعية ومحاربة الصناعات عند المسلمين لتكون بلادهم سوقاً استهلاكية لمصانع الغرب ، أى أن هدفهم هو تحصيل الأموال والمطامع الاقتصادية..
4- الدافع السياسى : فقبل الاستعمار وبعد تحرر البلاد الإسلامية منه رأت الدوائر الاستعمارية إن حاجتها السياسية تقضي بأن يكون لها اتصال مباشر مع صنّاع القرار من رجال الفكر والسياسة والصحافة للتعرف على أفكارهم وإبقائهم ضمن دائرة عملهم حتى يبثوا عبرهم كل فكرة تعمل على الكيد وإضعاف المسلمين وحتى يبقى القرار السياسى خاضع لقرارهم ، وكذلك لتحقيق غايات سياسية ، تريد تحقيقها عن طريق الدراسات التى من خلالها يمكن تسيير دول العالم الإسلامى فى أفلاكها.
5- الدافع العلمى : هم يهدفون إلى تحقيق إشباع نهمهم العلمى المتجرد كما يدعون وتحصيل معرفة صحيحة تتصل بأمة ذات علم ، وحضارة أصيلة عن طريق دافعهم العلمى . وهم القلة النادرة منهم الذين أقبلوا على الاستشراق بدافع من حب الاستطلاع على حضارات الأمم ولغتها وأديانها ، وهذا ما دعا بعض المنصفين منهم من أمثال ( جوستاف لوبون ) ليقول (ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب ) .
فالاستشراق يؤخذ بعدة مفاهيم متداخلة ، ومتشابكة ومتكاملة ، في آن واحد ؛ تتشكل هذه المفاهيم طبقاً لأهداف ومراحل الاستشراق المختلفة على مر العصور ، بدءاً من بداياته الأولى ذات الأهداف التبشيرية ، وحتى أغراضه السياسية الراهنة ، مروراً بخدماته التى قدمها للاستعمار .
لقد مثلت ظاهرة الاستشراق بؤرة اهتمام العقل العربي الإسلامي فترة طويلة من الزمن ، فقد ركز معظم الكتاب المسلمين ، على منتجات الاستشراق وخلفيات رواده والمنتمين لأفكاره من العرب والمسلمين ، وانصرفت معظم الكتابات إلى نقد الأفكار والرؤى التي يطرحها المستشرقون ، ركز بعضهم على نقد أشخاص المستشرقين وكتاباتهم بطريقة خالية من الموضوعية العلمية والتناول المنهجي المأمول والباحث وإن كان يبرر لمعظم هؤلاء الكتاب شكوكهم تجاه الاستشراق والمستشرقين – لأنهم يعيشون وسط سيل من الكتابات الاستشراقية المهاجمة لدينهم ونبيهم وحضارتهم ، ووسط استنزاف ثرواتهم واستعمار أراضيهم ، ومحاولة طمس هويتهم ، وقد اتضحت لهم أهداف الاستشراق وصلته الوثيقة بالتبشير والاستعمار وفرض الهيمنة الغربية ، فأظهروا تطرفاً في الرد على الاستشراق بأعمال جاء بعضها خالياً من الموضوعية ولا يمتلك أدوات التناول المنهجي ، ومثال ذلك كتاب الأستاذ أنور الجندي : سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية ، مكتبة التراث الإسلامي ، القاهرة 1984 ، بفصوله الخمسة عشر وحتى آخر سطر فيه ، يقول : وهكذا تبين الرشد من الغي وسقط منهج الاستشراق " ص 213 ، وكتاب الدكتور عبد العظيم المطعني : افتراءات المستشرقين على الإسلام ، عرض ونقد ، مكتبة وهبة ، القاهرة 1992 ، فقد جاء خطابهما عاطفيا خاليًا من الإحالة على كتابات المستشرقين أنفسهم ، كما يقتضي ذلك التناول المنهجي للاستشراق . وربما فى هذه العبارة التالية تصوير للحالة الفكرية من الاستشراق " إذ من الصعب على جريح ينزف دماً أن يحدد مطلق النار عليه من بين مهاجميه " (1)
والحيادية تتطلب أن لا يتم تصنيف المستشرقون على أنهم صنف واحد ، ذلك أن بعضهم قد أنصف الشرق والإسلام ونبيه ، ومنهم من أسلم بعد طول بحث ودراسة ، وغالبهم الأعم جاحد غير منصف دافعه في ذلك التعصب والجهل .
أمام هذا كله فالحاجة ماسة إلى دراسات تتناول " الاستشراق" بمنهجية متعمقة ، تتبـع
جذوره وصيرورته وآثاره وانعكاساته على الحقول المعرفية والمناهج السائدة في الغرب فالاستشراق اليوم ليس كما هو بالأمس ، " فقد أصبح ظاهرة معقدة ، متعددة الاتجاهات ، متشعبة التخصصات ، داخله في مختلف العلوم الاجتماعية والفلسفية ، وقادرة على التغلغل فيها .
ويجب على من يتصدى للاستشراق بالتحليل والتقويم والنقد ، أن يكون ملماً إلماماً تاماً بهذه المناهج والأدوات الاستشراقية ، عارفاً بمراميها وأهدافها ومسلماتها "الأبستمولوجية" ؛ وخير مثال للنقد الملم بكل تلك المتطلبات عملان أولهما لأنور عبد الملك ، والثانى لإدوار سعيد ، كانا من أبرز الأعمال التي فضحت تطرف الكتابات الاستشراقية ، وشكلا معاً لحظتين حاسمتين في المواجهة النقدية العقلانية للاستشراق ؛ إذ لم يستطع الاستشراق المعاصر تجاهل هذين العملين ، فما من مستشرق إلا وكان له في هاتين الدراستين رأي يصل إلى حد السب في بعض الأحيان.

اهتمامات المستشرقين بالإسلام :
نظراً لما حققه الإسلام من انتشار على الكرة الأرضية ، وزيادة فى أعداد المسلمين ، كما استعد الغرب فكرياً ودينياً لمواجهة الإسلام بتشجيع الاستشراق وحض المستشرقين على الحصول على المعرفة الإسلامية وترجمة معانى القرآن الكريم والاستعداد لتكوين جبهة فكرية دينية لمهاجمة الإسلام.
وبعد فشل الحروب الصليبية استمر الهجوم الفكر رؤى الدينى إلى مرحلة الاستعمار الحديث الذي جمع من جديد بين الهجوم العسكري والهجوم الفكري وهو الوضع الذي استمر إلى التاريخ المعاصر حيث انتهى الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين واستمر الهجوم الديني والفكري .
وخلال هذا الصراع الطويل أصبح الاستشراق علماً تابعاً للقوى الغربية السياسية والدينية ولم ينفصل عنها سوى في خلال مراحل انحسار المد الاستعماري أو فشل الجهود العسكرية، ولذلك فالمواجهة الفكرية والدينية أطول عمراً واستمرارية من المواجهة العسكرية. ولم يشعر المستشرقون بحرج من علاقاتهم بالقوى السياسية والدينية في بلادهم وفي الغرب بعامة فالإسلام عدو الجميع سواءً كانوا سياسيين أم مفكرين أم سياسيين . فالمستشرق مواطن ينتمي إلى بلده ويشعر بأنه يؤدي واجبه ويعمل على تحقيق مصالحها بصرف النظر عن كون معرفته أو علمه مستغلاً من جانب القوى السياسية والدينية. فهو مواطن لا يمكن عزله عن بلده ومصالحه ولم يشعر المستشرق بحرج من هذه العلاقة خاصة في الفترات الاستعمارية الطويلة مثل فترة الحروب الصليبية التي زادت عن قرنين وفترة الاستعمار الحديث التي غطت ثلاثة قرون تقريباً ".
ويشير ( محمد الغزالى ) في كتابه الغزو الثقافي يمتد فى فراغنا إلى الغزو الثقافي الذي يحتاج الأمة الإسلامية ملازماً للغزو العسكرى والحق بنا الهزائم والخسائر المادية والمعنوية الفادحة.
ومنذ الحروب الصليبية فى العصور الوسطى، واستمرت إلى الحروب والاحتلال الغربى فى العصر الحديث ، والغزو الثقافى نجح فى جعل قيمة مكان قيمة ، واهتمام بدل اهتمام وتبديل طاقتها فى غير طائل ، ومعرفتها صارت منحلة أو مشوهة أو مكذوبة (1).
أما في الولايات المتحدة فإنها بعد الحرب العالمية الثانية ، وجدت أنها يجب أن تحل محل النفوذ البريطاني ، ولمّا لم تجد العدد الكافي من المتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية ، فقد عرضت على عدد من كبار المستشرقين الأوروبيين العمل في الجامعات الأمريكية ومن هؤلاء على سبيل المثال (هاملتون جيب ) الذي أسس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد ، ونال جيب مكانة رفيعة في هذه الجامعة ، كما استقدمت ( جوستاف فون جرونباوم) بجامعة كاليفورنيا بلوس انجلوس، و( برنارد لويس ) الذى عمل عدد من السنوات أستاذاً زائراً حتى انتقل كلياً إلى جامعة برنستون عام 1974.

وأصدرت الحكومة الأمريكية مرسوماً بتوفير مبالغ ضخمة لدعم مراكز دراسات الشرق الأوسط في عدد من الجامعات الأمريكية ( أربع وعشرين جامعة ) من بينها جامعة برنستون وجامعة نيويورك وجامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس وفي بيركلي وجامعة انديانا في بلومنجتون وغيرها. وما تزال هذه الجامعات منذ الخمسينيات وحتى الان تتلقى الدعم الحكومي الأمريكي. ولم يقتصر الدعم الحكومي الأمريكي على هذه الجامعات ، فهناك معاهد ومراكز بحوث كثيرة تتلقى الدعم المباشر من الحكومة الأمريكية ، وبالتالى فان الغالبية العظمى من الباحثين (المستشرقين) يعملون لدى الحكومة الأمريكية .

والارتباط بالصهيونية أمر قد لا يكون واضحاً بسهولة ولكن المتمعن في العلاقات بين دولة يهود والجامعات الأمريكية ومراكز البحوث يجد أن هناك تعاوناً وثيقاً بالإضافة إلى العدد الكبير من الباحثين الأمريكيين الذين لا يفصحون عن انتمائهم اليهودي الصهيوني.
كما أن مراكز بحوث ومعاهد الشرق الأوسط في الجامعات اليهودية في إسرائيل دائمة الاتصال بالجامعات الأمريكية. وقد اطلعت على نشرة مركز ( موشيه ديان لدراسة الشرق الأوسط وأفريقيا ) فوجدت أن هذا المركز يبعث بالعديد من باحثيه للاتصال بالجامعات الأمريكية وكذلك الاتصال بوزارات الخارجية ومراكز صناعة القرار السياسي الغربي ، فهل نفطن نحن في العالم الإسلامي إلى أهمية مثل هذه الاتصالات لتعريف العالم بوجهات نظرنا؟
وتتمثل وسائل الغزو الثقافى فى تحقيق أهدافه بوسائل عديدة منها :
1) التبشير .
2) الإستشراق .
3) التغريب .
4) إحياء الدعوات الهادمة والنزعات الجاهلية وإحيائها.
وقد لاحظ ( برتداند رسل ) أن الغرب أهدى للشرق مساوئه: القلق، وعدم الرضى، والروح العسكرية، والإيمان الغالى بالآلة ، ولكن الدولة القوية فى الغرب تحاول دائماً صرف الشرق عن أفضل ما لدى الغرب : روح البحث الحر، والتعرف على الظروف التى تؤدى إلى الرفاهية التامة والتحرر من الخرافة.
وكمثل على صحة ما سبق أن الإرهاب الذى يعتبر الآن مرادفاً للفظ مسلم فى لغة الغرب كان ضمن هدايا الغرب للعالم الإسلامي ألا نتذكر أن أول مبنى عام تم تفجيره على سكانه فى الشرق الأوسط وهو فندق ديفيد فى القدس، وأن أول طائرة مدنية أسقطت في الشرق الأوسط هى طائرة الخطوط الليبية كلاهما نفذا بأيدى أناس ينتمون لعالم الغرب المتحضر(1).

المستشرقين بين الإيجابيات والسلبيات :
ولكن يجب ألا ننسى أن إيجابيات كثير من المستشرقين ، فيما ظهر من اهتمامهم تتركز في تسليط الضوء على المخطوطات والفهرسة والعناية بالتجميع والمكتبات، وإعطاء الآثار والمعالم الحضارية كالبناء والهندسة والزخرفة والطرب والفنون والمغنين والمغنيات وآلاتهم أكثر، وكأنها هى حضارة الإسلام لا غير.
ولم يشيدوا بالفكر والدين والارتقاء بالعقل وبناء الشخصية والعقيدة والمكانة العلمية والطبية ؛ رغم أن جامعة السربون وهي أعرق جامعاتهم ، وموطنها باريس كانت تدرّس الطب باللغة العربية لما يقرب من300 سنة، وقد أقاموا بها تمثالين لابن سيناء والفارابي العربيين المسلمين.
يجب ألا ننسى ما للمستشرقين من سلبيات في تصيد العثرات وتحريك نقاط الضعف لتنفع السياسيين والعسكريين عندهم مع الاهتمام بإبراز ونشر كتب الغناء ومجالس الشرب والطرب وتمجيد المغنين والمغنيات ، على أن هذا من أبرز حضارات الإسلام ، ليشجعوا على توسعها فى كل وقت بديار المسلمين والاهتمام بالمعلومات التى تنفع مجتمعهم للاستفادة منها من هندسة معمارية وطبّ وعلوم واختراعات وغيرها مما يفيد في بناء المجتمع.
أهداف الاستشراق :
من النظر إلى دوافع الاستشراق نستطيع أن نحدد أو نتعرف على أهدافه ، وبوجه عام تتلخص بما يحقق مطالب هذه الدوافع ، فان أخطر أهدافهم فى الأمة الإسلامية تحويل المسلمين عن دينهم وتقطيع أوصال جماعتهم إلى وحدات صغرى متقاطعة يقاتل بعضها بعضا حتى يصلوا لجعل الدين نظريات بعيدة عن التطبيق أو نصائح يأخذ بها صاحب السلطة أو يهملها ودعم هذا المفهوم حتى تتحول هذه السلطة بدون دين الى جبروت ظالم يتقلب بتقلب الأهواء ، فيفقد المجتمع الطمأنينة والاستقرار لتغير القوانين وتقلبها من النقيض إلى النقيض ، ويقصد بها إحياء النزعات القومية والعصبيات القبلية التي عرفت قبل الإسلام .
والخلاصة أن عملية ترويض الأمة وتمييع مفاهيمها تتم بإدخال نظم حياة لم يعهدها المسلمون من قبل تحت حماية أنظمة الحكم القائمة في العالم الإسلامي وإدخال ثقافات جديدة تحت شعارات تستقطب الجهلة ومتسولى العلم ويترافق هذا الأمر مع عملية تدمير منظم مدروس للمفاهيم الإسلامية بل ومحاربتها تحت شعارات الارهاب والتطرف .

أهداف التغريب في العالم الإسلامى:
ارتباط الاستشراق أو الدراسات العربية الإسلامية بالدول الغربية التى من أهدافها استمرار الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي في المجالات المختلفة: السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وأبدأ ببريطانيا فهي التي احتلت أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي فقد اقترح أحد أعضاء البرلمان البريطاني عام 1916م إنشاء معهد للدراسات العربية والإسلامية في بريطانيا. فقد كلفت الحكومة البريطانية لجنة حكومية عام 1947م برئاسة الايرل سكاربرو لدراسة أوضاع الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات البريطانية ، وتقديم المقترحات اللازمة لاستمرار هذه الدراسات وتطويرها، وقد أعدت اللجنة تقريراً مؤلفاً من حوالي مائتي صفحة عدّه الدكتور خليق نظامي دستور الاستشراق الحديث حيث أوضحت استمرار حاجة بريطانيا لمعرفة الشعوب العربية الإسلامية والحاجة إلى متخصصين فى هذا المجال.
ومن الأعمال الغربية الأخرى المهمة في نقد الاستشراق وكشف صلته بالاستعمار والتنصير كتاب إدوارد سعيد ( الاستشراق) ومن فضائل الصحوة أيضاً أنها نبهت المسلمين إلى الغزو الثقافي الغربي، وإلى عملية تغريب العالم الإسلامي التي يعتبر الاستشراق مسؤولاً عنها، وللصحوة الإسلامية أيضاً دور في مقاومة هذا الغزو وردّ المسلمين إلى أصولهم وتقوية وعيهم بدينهم وحضارتهم وبأفضلية الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية.
ويشير ( جهاد فاضل ) إلى اهتمام بعض المستعربين بإجادة اللغة العربية وصرفها ونحوها ، ويصل حد معرفتهم باللغة العربية إلى درجة الإتقان التى تفرحنا ، وفى الوقت الذى نشعر بالندم من عدم الاهتمام بها فى وطنها وبين أهلها (1) .
أزمة الاستشراق ومؤامرة التغريب وأبعادها،والغزو الثقافي كسلاح التغريب وأداته،والاستشراق والتبشير :
لقد أطلق هذه العبارة ( أنور عبد الملك ) في مقالة له بعنوان " الاستشراق فى أزمة " نشرها في مجلة الجدلية الاجتماعية La Sociale Dailiqtique باريس عام1971م ، وأعيد نشرها في ( مجلة الفكر العربي المعاصر) ( العدد 32) فى تناول فيها نقد الاستشراق من حيث مسلماته ومناهجه وأدواته ، وأكد على ضرورة نقد الاستشراق لاسيما وان الدول التي كانت خاضعة للاستعمار أصبحت دولاً ذات سيادة " أصبحوا "ذواتاً" أسياداً.
وختم عبد الملك مقالته بعدد من التوصيات حول إعداد الباحث الغربى في الدراسات الاستشراقية من حيث معرفة اللغة والتمكن من المعارف المختلفة الخاصة بالعالم العربى الإسلامى .
أما ( محمد خليفة ) فقد تناول أزمة الاستشراق بمذكراته التى أثبت هنا نصها مع بعض الإضافات التي أشير إليها فى حينه: تعود أزمة الاستشراق المعاصر إلى عدد من الأسباب التي يعود معظمها إلى فترات تاريخية مختلفة منها أسباب واكبت الاستشراق منذ بدايته واستمرت معه حتى العصر الحديث ، ومن بينها أسباب تعود إلى التاريخ الحديث والمعاصر. وقد أثرت هذه الأسباب على طبيعة الاستراق وأدت إلى نوع من الغموض في ماهية الاستشراق وطبيعته وفي شخصية المستشرقين عبر العصور وولدت هـذه الأسباب مجموعة من الأزمات المتداخلة فيما بينها أزمة الهوية وهي تختص بغموض الاستشراق وعدم القدرة على تحديد طبيعته هل هو علم أو حركة فكرية أو مذهب أو غير ذلك.

وولدت أزمة منهجية من حيث أن الاستشراق ليس له منهج واضح يمكن مقارنته بالمناهج العلمية التي طورتها العلوم المختلفة نظرية أو تجريبية أو اجتماعية أو إنسانية الأمر هذا فظلاً عن الأزمة الأخلاقية التي نتجت عن الارتباطات السياسية والدينية للاستشراق الأمر الذي أدى إلى استغلال المعرفة الاستشراقية بواسطة القوى السياسية الاستعمارية والقوى الدينية التنصيرية والصهيونية وأخيراً هناك الأزمة التي أوجدها الاستشراق في العلاقة بين الشرق والغرب وبخاصة العلاقة بين المسلمين والغرب وما تولد عن هذه الأزمة في العلاقات من صراع ديني حضاري بين الإسلام من ناحية وديانات الغرب من ناحية أخرى ، وهذه الأزمة لها أسبابها ومظاهرها ولها أيضاً نتائجها وآثارها.
وبالنظر إلى كوريا على سبيل المثال نجدها قامت بإنشاء مؤسسة " جمعية كوريا والشرق الأوسط " التى يرأسها المستشرق الصينى " هان دوك كيو " ولعل هذا مثال على الاهتمام بنا على مستوى منطقة آسيا بنا ، والسؤال :أين نحن من الاهتمام بالمستشرقين ؟ وأين ا�
المصدر: مقال نشره فى المرصد العراقى فى 14 نوفمبر 2009
  • Currently 155/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
51 تصويتات / 3048 مشاهدة
نشرت فى 7 يناير 2010 بواسطة Drnasser

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

111,940

دكتور / ناصر علىيكتب عن الاستشراق

المرصد العراقى
١٤/١١/٢٠٠٩  السبت ٢٧-ذو القعدة-١٤٣٠ هـ