الوضع الباكستاني
الثقة المفقودة
طرق توصيل المساعدات
ترشيد العمل الإغاثي
في الحرب العالمية الثانية تعرضت الجزر البريطانية لمخاطر كارثية أثناء مواجهة الألمان، وكانت الإغاثة والمعونة الحربية تأتي إليها من حلفائها عبر المحيط الأطلسي، إلا أن الطيران الألماني كان لهذه المعونات أيضا بالمرصاد، حيث كان يدمر نسبة كبيرة من السفن التي تحملها.
وتفتق عقل القيادة البريطانية عن خطة لا تتحاشى الخسائر تماما، ولكن يمكنها تعويضها، وذلك بالنظر إلى أن ضربات الطيران الألماني كانت مرتبطة بحركة تموين محددة، بحيث يمكنها توجيه عدد معين من الضربات لا تتجاوزها، فقرر البريطانيون وحلفاؤهم زيادة عدد السفن التي تمخر عباب المحيط نحو الجزر مع وجود مسافات معينة بين كل سفينة وأخرى، مما يؤدي إلى تقليل نسبة الخسائر (من 60% إلى 30% مثلا)، وإن بقي مقدارها كما هو (ستون سفينة من بين مائة في الحالة الأولى، وستون من بين مائتين في الحالة الثانية).
كانت هذه الخطة الذكية سببا أساسيا لصمود بريطانيا أمام اكتساح الألمان حتى تغير اتجاه الريح في الحرب العالمية الثانية بسبب التطور الذي شهدته جبهات القتال الأخرى، وتحول المحاصَرون إلى طرف رئيسي في إجهاض القوة الألمانية ودحرها تماما في أنحاء متعددة من العالم في هذه الحرب الكبرى.
الوضع الباكستاني
وأكاد أجزم بأن باكستان التي تحاصرها الكوارث عاشت وضعا مماثلا لهذا بصورة ما، وتحتاج إلى الخطة نفسها لإنقاذ الملايين من ضحايا كارثة السيول الهادرة التي اجتاحت أساسا أقاليم البنجاب والسند وسرحد.
لقد كان الوضع الاقتصادي الباكستاني قريبا من المأساة قبل أن تجتاحها سيول الصيف الأخير، وفي عقبها صرنا مع وضع تصفه الصور الساكنة والمتحركة التي شاهدها العالم ببلاغة أكبر بكثير من جميع عبارات اللغة، مع ملاحظة أن ثمة مناطق واسعة في الإقليمين نُكبت بالسيول ولم تصل إليها الكاميرات ولا المصورون حتى الآن.
وكانت المفاجأة أن الساحة الإسلامية والعالمية لم تتفاعل مع المأساة بحجم يناسبها، فجاءت المعونات المقدمة للمنكوبين أقل مما يتوقع بكثير، بحيث لم تستوف إلا قدرا ضئيلا من حاجات الناس.
ويبدو أن البحث في أسباب هذا التراجع الكبير -إذا قيس الوضع بما قدمه العالم لباكستان في كارثة الزلزال الذي ضرب البلاد في أكتوبر/تشرين الأول 2005- أمر غير مجدٍ ما لم ندرك الأسس الرئيسية التي قام عليها هذا التراجع، وهي:
الأول: فقدان الداعمين الثقةَ في وصول المعونات إلى مستحقيها.
الثاني: الجهل بطرق توصيل المعونات.
الثالث: الخوف القديم من تقديم تمويل إلى أي طرف في بلد من البلاد ذات العلاقة بالنشاط الإسلامي المسلح، وأولها باكستان.
الثقة المفقودة
حين ضرب زلزال أكتوبر/تشرين الأول 2008 إقليم بلوشستان في جنوب غرب باكستان أدى إلى تدمير بعض المنازل، ووفاة عدد محدود من المواطنين، فعمد الإعلام الوطني إلى تضخيم الحدث وإظهاره على أنه كارثة كبيرة، فسارعت بعض الدول إلى تقديم معونات سخية لباكستان. وقد حكى لي أحد الإعلاميين الكبار في إسلام آباد أنه تحدث لأحد المسؤولين العرب الذين كانوا في زيارة للبلاد في هذا التوقيت، وقال له: هل أنتم واثقون من أن المائة مليون دولار التي قدمتموها للضحايا ستصل إلى المتضررين بالفعل؟!
بل قبل ذلك، وفي أحداث زلزال 2005 الكبير، جمع الرئيس السابق برويز مشرف سفراء الدول الإسلامية وغير الإسلامية في إسلام آباد، وخاطبهم: أدعوكم لدعم باكستان مباشرة، بلا شروط ولا تدخلات من الحكومة. وفي تعليقه على هذه الدعوة قال السفير الياباني في إسلام آباد حينها: سيادة الرئيس، نحن مستعدون لذلك، على أن تضمنوا لنا الشفافية التامة في تصريف هذه المساعدات. ولم يكن الرئيس يملك إلا أن يَعِد بذلك.
وتدفقت المساعدات على باكستان، لكن بدا أن العراقيل لم تُزَل من طريقها تماما، بل بقي كثير منها يعوق حركة توصيل المساعدات إلى مستحقيها، وكمثال على ذلك قدَّمت مؤسسة إغاثية عربية حوالي 130 مليون روبية باكستانية (حوالي 22 مليون دولار أميركي في هذا الوقت) لبناء وحدات سكنية للمتضررين، وانتظروا أن يأخذوا الإذن من الهيئة الوطنية المختصة بإعادة تسكين المتضررين بالزلزال (ERRA)، لكن الأخيرة كانت مصرة على أن تتسلم المال لتقوم بالأعمال بنفسها، وكانت الهيئة الإغاثية تتبع نظام التنفيذ بنفسها في الموقع الذي تحدده السلطات الداخلية.
وظل الأمر بين أخذ وردّ ثمانية أشهر، حتى قال أحد مسؤولي هيئة الإغاثة العربية بضجر شديد: إن عملنا في بنغلاديش خير لنا من هذا ألف مرة، فالسلطات في دكا حين نطلب منها الإذن لكي نمارس أعمال الإغاثة بين المواطنين تقول لنا: وهل تحتاجون إلى إذن لكي تنقذوا أرواح الناس؟!
هذا، وغيره كثير، تسبب بصورة مباشرة في إشاعة روح من عدم الثقة والفتور لدى من يستطيع تقديم معونات للمتضررين الباكستانيين، وزاد الصورة قتامة ما أذاعته أخيرا وسائل الإعلام موثقا بالصوت والصورة عن بيع بعض السلع التي جاءت ضمن المعونات في الأسواق العامة في بيشاور وإسلام آباد وغيرهما من المدن الباكستانية.
والحقيقة أنه لا أحد يملك أن ينفي هذه التدخلات وهذا الانحراف في توجيه المعونات، بل إن بعض الهيئات والأفراد ربما يلبسون لبوس الجهات الخيرية والإغاثية للاستيلاء على أموال المتبرعين، وهم منتشرون في طول الدولة وعرضها، كما أن المتضررين أنفسهم لا يخلو كثير منهم من طمعٍ يدفعه إلى محاولة الحصول على أكبر قدر ممكن من المساعدات.
لكن كل هذا لا ينفي حقيقة مهمة جدا، وهي أن الجزء الأكبر من المساعدات التي تُسلَّم إلى مؤسسات إغاثية معروفة وموثوق فيها يصل بالفعل إلى مستحقيه. وربما تضطر هذه المؤسسات إلى التضحية بجزء من المساعدات لصالح أفراد يستغلون سلطاتهم بلا وازع من دين أو خلق، لكن يبقى ما ذكرتُه من أن الجزء الأكبر يصل بالفعل إلى المنكوبين حيث هم.
إن إشاعة جو عدم الثقة في نفوس القادرين على تقديم يد العون إلى الملايين من المشردين، يبدو في نظري جريمة في حق المنكوبين نرتكبها عن غفلة أو سوء قصد، وليتنا نتقن فهم ما فعله تشرشل في الحرب العالمية الثانية، مما ذكرتُه في صدر هذه السطور، لنعلم أن ضياع جزء من المساعدات وذهابه سحتا لبعض أصحاب الكروش الكبيرة لا ينبغي أن يدفع إلى اليأس والقنوط أو التراجع عن مساعدة هؤلاء المساكين الذين يقفون على أبواب شتاء باكستاني ليس أقل من قارس.
طرق توصيل المساعدات
إذا جئنا إلى الجهل بالطرق التي يمكن توصيل المعونات عبرها، فسنجد أن هناك هيئات إغاثية وطنية وإسلامية ودولية ذات خبرات طويلة في المجال الإغاثي الباكستاني على وجه الخصوص، وهو مجال إغاثي خاص، ويقدم للعاملين فيه نوعا خاصا من الخبرة كذلك.
وأول ما يملكه ذوو الخبرة في العمل الإغاثي في أنحاء باكستان من إمكانات، هو قدرتهم على التغلب على العقبات البيئية المتنوعة في باكستان ذات التنوع الطبيعي الكبير ما بين صحراء شاسعة وجبال وعرة وغابات متوسطة الكثافة وسهول واسعة، ومعرفتهم الجيدة بطبيعة الشخصية الباكستانية التي تبدو هادئة وودودة في طابعها العام، إلا أنها من اليسير أن تتردى إلى استغلال مواقعها المؤثرة أو ظروفها المتردية.
ومن أهم المؤسسات الخيرية والإغاثية الدولية والوطنية العاملة في باكستان منذ فترة زمنية بالفعل، ويمكن الثقة فيها بصورة كبيرة:
- الخدمت فاونديشن (باكستانية)
- مسلم آيد (باكستانية)
- جمعية قطر الخيرية
- اللجنة الكويتية المشتركة للإغاثة
- آي أتش أتش (تركية)
- لايت هاوس (تركية)
- هلبنج هانز (أميركية)
- مؤسسة الإغاثة الإنسانية (بريطانية).
وغني عن البيان أن كل هذه المؤسسات لها مواقع على الإنترنت، ولكل منها أرقام حساب تتلقى عليها المساعدات، كما يظهر بوضوح أنها منتشرة في الداخل والخارج، أو قريبة من بلده، مما يزيل كذلك الخوف القديم من تقديم مساعدات لدول فيها كثير من الحساسية السياسية والاضطرابات الأمنية، مثل جمهورية باكستان الإسلامية.
ترشيد العمل الإغاثي
لا ينبغي أن نفهم أن الإحسان عمل خيري أعمى يتم كيفما اتفق، والواجب أن نفهمه باعتباره عملا بصيرا ودقيقا للغاية ومنظما بحيث يؤدي إلى أفضل نتيجة ممكنة منه.
إن المقصود من العمل الإغاثي هو إعادة تأهيل سكان المناطق المتضررة بحيث يمكنهم مواصلة الحياة في بيئتهم -إن أمكن- معتمدين على أنفسهم كما كانوا أو أكثر مما كانوا قبل أن تجتاحهم الكوارث، وليس المراد منه أن نضخ أموالا طائلة لأناس نعوّدهم التواكل والاعتماد على الآخرين، ونحول دون تطوير حسهم البشري الذي يملك حيلة واسعة للتأقلم مع الحياة والاستفادة من المتاح من قدراتها وتطويره.
ومن هنا وجب التفكير الجدي في أن تركز الأعمال الإغاثية للمتضررين الباكستانيين من السيول على الأصول دون الفروع، وعلى العاجل دون ما يمكن تأجيله، وعلى ذي الثمرة الكبيرة وإن كانت بعيدة، دون ذي الثمرة الضئيلة وإن كانت قريبة.
ولعل أهم ما يحتاجه سكان الأماكن المتضررة من السيول الباكستانية هو تأسيس بنية تحتية جديدة من بيوت وطرق وجسور ومدارس ومستشفيات وخدمات الماء والكهرباء، إضافة إلى تأهيل الأرض الزراعية بالآلات بحيث تعاود إنتاج الخير الذي تخرجه منذ آلاف السنين.
لقد أرسلت بعض الجهات الخيرية كميات كبيرة من التمر لم يمكن توزيعها بصورة دقيقة على المستحقين، فتكدست عند الناس، مما اضطرهم إلى بيعها بأرخص الأثمان دون أن تحقق الهدف المرجوّ منها.
وأرسلت مؤسسة أخرى كمية كبيرة أيضا من الملابس الجيدة الحديثة لكنها غير مستعملة في باكستان، خاصة خارج العاصمة والمدن الكبرى، فلم يجد موظفو الإغاثة من يأخذها منهم!
ومن هنا يجب أن نعرف قبل تقديم المساعدة النوعَ المناسب منها، ولعل المؤسسات الخيرية المذكورة آنفا وغيرها هي خير ما يفيد في هذه الناحية.
وأكاد أجزم بأن باكستان التي تحاصرها الكوارث عاشت وضعا مماثلا لهذا بصورة ما، وتحتاج إلى الخطة نفسها لإنقاذ الملايين من ضحايا كارثة السيول الهادرة التي اجتاحت أساسا أقاليم البنجاب والسند وسرحد.
الثاني: الجهل بطرق توصيل المعونات.
الثالث: الخوف القديم من تقديم تمويل إلى أي طرف في بلد من البلاد ذات العلاقة بالنشاط الإسلامي المسلح، وأولها باكستان.
حين ضرب زلزال أكتوبر/تشرين الأول 2008 إقليم بلوشستان في جنوب غرب باكستان أدى إلى تدمير بعض المنازل، ووفاة عدد محدود من المواطنين، فعمد الإعلام الوطني إلى تضخيم الحدث وإظهاره على أنه كارثة كبيرة، فسارعت بعض الدول إلى تقديم معونات سخية لباكستان. وقد حكى لي أحد الإعلاميين الكبار في إسلام آباد أنه تحدث لأحد المسؤولين العرب الذين كانوا في زيارة للبلاد في هذا التوقيت، وقال له: هل أنتم واثقون من أن المائة مليون دولار التي قدمتموها للضحايا ستصل إلى المتضررين بالفعل؟!
إذا جئنا إلى الجهل بالطرق التي يمكن توصيل المعونات عبرها، فسنجد أن هناك هيئات إغاثية وطنية وإسلامية ودولية ذات خبرات طويلة في المجال الإغاثي الباكستاني على وجه الخصوص، وهو مجال إغاثي خاص، ويقدم للعاملين فيه نوعا خاصا من الخبرة كذلك.
- مسلم آيد (باكستانية)
- جمعية قطر الخيرية
- اللجنة الكويتية المشتركة للإغاثة
- آي أتش أتش (تركية)
- لايت هاوس (تركية)
- هلبنج هانز (أميركية)
- مؤسسة الإغاثة الإنسانية (بريطانية).
لا ينبغي أن نفهم أن الإحسان عمل خيري أعمى يتم كيفما اتفق، والواجب أن نفهمه باعتباره عملا بصيرا ودقيقا للغاية ومنظما بحيث يؤدي إلى أفضل نتيجة ممكنة منه.
ساحة النقاش