- صورتان
- اقتصاد رمضاني
- خلل تجاري
شهر رمضان مناسبة مهمة بالنسبة للمسلمين، وهو كذلك مناسبة متميزة لديهم لما فيه من امتداد زماني وتنوع في الأعمال الدينية التي يمكن القيام بها خلاله، حتى إن بعض أهل زماننا يحب أن يجمع فيه إلى الصيام المفترض نوافل وفرائض أخرى يمكن أداؤها في أوقات أخرى من السنة، مثل الزكاة المفروضة والصدقة والعمرة، إضافة إلى ما هو معروف من نوافل الصلاة المرتبطة بشهر الصوم.
ويمكننا أن ننظر إلى الشهر الكريم باعتباره مشروعا أو "شهرا للثورة" بحق -كما حلا لبعض الأدباء قبل ثلاثة أرباع القرن أن يسميه- إلا أنها الثورة بمعناها الشامل، وليست فقط ثورة الإنسان على عاداته وحاجاته المادية، فهو ثورة روحية ونفسية، وثورة مادية واقتصادية، وثورة اجتماعية وسياسية.
وهنا لن يتسع المجال إلا للحديث عن جانب اقتصادي صغير يتعلق بشهر رمضان، وهو ضبط النسب بين الاستهلاك والإنتاج، مع ملاحظة أولية تقول بأن أمور الروحي والزماني في المنظور الإسلامي محكومة بمنظومة قيمية واحدة (التوحيد والحرية والعدل والتوازن).
ومن هنا لا يبدو الحديث عن علاقة ما لفريضة الصيام بحياتنا الاقتصادية نشازا في الفكر، ولا تكلفا أو اعتسافا في عرض همومنا التي نحياها.
عُرفت لشهر رمضان صورتان: الأولى هي تلك التي ترسمها مجموعة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة حول الشهر الكريم وصيامه، وهي في مجملها تجعل من رمضان مناسبة للتدرب على التحكم في النفس، وضبط نظام الحياة الشخصية، وتوجيه هذه الحياة وجهة تقلل من المساحة المتاحة للبدن واحتياجاته، في تعاون بين الجوارح والنفس يسعى إلى كسر سلطان العادة الشديد في حياة الإنسان عموما.
وأما الصورة الثانية لشهر رمضان وصيامه، فهي صورته في الواقع المريض الذي نحياه، حيث تراكمت عليه عادات وتقاليد من الداخل والخارج حولت الشهر الفضيل إلى مناسبة احتفالية شبيهة كلها بالعيد، لا مناسبة للعبادة تُختَم باحتفالية العيد.
فبدلا من تحرير الإنسان من أحكام العادة القاسية خلال شهر في السنة، أُثقل الموسم الكبير بعادات أخرى أشد وطأة من العادات المرتبطة بعموم حياتنا. وبدلا من أن يكون رمضان موسما لتنقية النَّهْر كله، إذا به يصبح موسما لمزيد من الأعباء المادية والمعنوية التي تهدد الحياة حتى في عناصر سلامتها الأساسية.
وعند النظر الدقيق في هاتين الصورتين، سنجد أن العنصر الاقتصادي له وضعه الخاص فيهما، أما الصورة الأولى فإن المدد الاقتصادي للبدن يقل فيها، وهو ما يمثل مصلحة للحياة الاقتصادية بتوفير كم لا بأس به من المواد المستهلكة ربما يكون تعويضا عن الضعف الاضطراري للجهد البشري المبذول في الإنتاج خلال أيام الصيام والاعتكاف والتراويح المعدودات.
بل ربما نبالغ فنقول إن شهر رمضان يمثل فرصة للاقتصاد حتى بصورته الحديثة، كي ينتعش بعد 11 شهرا من العمل الرتيب، وذلك من جهة تقليل الضغط على الاستهلاك، وتجديد روح المنتِج خلال الممارسة الصحية والصحيحة للفريضة.
وأما في الصورة الثانية لشهر الصيام، فيبدو الاقتصاد واحدا من ضحايا الأداء البشري المعكوس للفريضة، وذلك لأن الفرق بين الاستهلاك والإنتاج بكل أنواعه يصل -كما هو حاصل الآن- إلى حدود كبيرة لا يعوضها الفرق العكسي طوال أشهر السنة الأخرى بسهولة.
كما أن شخصية المنتج لن تكسب من هذا الأداء السقيم للصيام سوى مزيد من الخمول والضعف، مما يجعل ظل شهر رمضان ثقيلا على حياتنا الاقتصادية، مع أن العكس هو الأصل.
إن اعتياد إعطاء البدن أكثر من حاجته من الطعام ينتج عنه فاقد اقتصادي خطير في ذاته، وخطير بما يضيفه على أجهزة الجسم من أعباء تعجّل بشيخوختها دون أن يستفيد الطاعم من هذه الزيادة، ومن هنا يخسر الاقتصاد في كلتا الجهتين، زيادة الاستهلاك بدون ضرورة، وإضعاف المستوى العام للصحة في أوساط الثروة البشرية.
شهر رمضان إذن هو شهر الاقتصاد بامتياز، والشرط هو العودة إلى الصورة الأصلية لأداء الفريضة، ووضعها في الموضع الذي اختاره لها الدين الحنيف، أداةَ تهذيب وتربية للنفس على الاكتفاء بالقليل من حاجة الجسم.
ويجب أن نلاحظ أن المعونة التي يقدمها شهر رمضان للحياة الاقتصادية لا تتعلق فقط بالأعمال التي يمارسها الصائم، ولكن تتصل قبل ذلك بالمبادئ التي يؤكد عليها الصوم ويغرسها في القائمين بالفريضة، من قبيل عدم التبعية للمادة، والتوازن في طلب المنافع، وإشراك المجتمع في بعض ما نملك من منافع الحياة.
والقاعدة التي يقوم عليها فهم شهر رمضان في ضوء ما سبق هي أنه في أصله شهر للتغيير والتجديد، ومهمته تشبه مهمة الحج، الفريضة الأصعب والأكثر كلفة، أن يرجع الحاج أو الصائم من فريضته مغفورا له (انظر في ذلك أحاديث: من حج فلم يرفث ولم يفسق.. ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا..)، لكن هل يلزم أن يكون هذا التغيير الذي يستهدفه شهر رمضان بالزيادة؟
نعم يجب أن يكون تغييرا بالزيادة، ولكن في الجوانب التي تخدم هدف الصيام فقط، مع التخفف أو التقلل مما يعوق تحقيق هذا الهدف. ورغم ضرورة توفير حد من الطعام والشراب لا يقوم الجسد بدونه، فإن الزيادة على هذا كلما كانت أكثر عاقت صاحب هذا الجسد أكثر عن تحقيق هدفه من الصيام، وربما الحياة برمتها.
وثمة أسس رمضانية تساعد مراعاتها على تحويل شهر رمضان إلى ربيع اقتصادي، بدلا من أن يكون كابوسا مخيفا لاقتصاد البيوت والدول في بلادنا كما هو حاصل الآن.
وتتلخص أهم هذه الأسس فيما يلي:
أ- معضلة الاقتصاد كما يراها المختصون هي أن المواد اللازمة لحياة الناس قليلة أو نادرة في العادة، فما الذي ننتجه وما الذي لا ننتجه؟ والحق أن شهر رمضان بشعائره وأعماله يربط المسألة بالضرورات والحاجيات والكماليات البشرية، فيفتح المجال لطلب الضرورات بكمها المناسب، والحاجيات بما يرفع الحرج عن العباد، والكماليات بما يروِّح عن النفس أحيانا، وما زاد فهو إسراف لا ينبغي.
ومن هنا فإن الذي يحكم على الاستهلاك الفردي أو الأسري ليس مقدار الدخل في الأساس، ولكن الحاجة والضرورة التي تلزم لبقاء الإنسان ورفع الحرج عنه.
ب- أذواق المستهلكين تأتي في مقدمة المحددات على الطلب في السوق، فإذا علمنا أن المقصود من فرض الصيام ليس أن يجمع الصائم الوجبات الثلاث في وجبة أو وجبتين، أو أن يعوض في المساء ما فاته من طعام الصباح، ولكنْ أنْ يأكل بالمعدل العادي للوجبة في غير رمضان على أقصى حد، مما يعني أننا نقلل نحو الثلث من طعامنا في رمضان قياسا إلى أشهر السنة الأخرى.
إذا علمنا هذا كله، عرفنا أن شهر رمضان يسهم في ضبط الذوق الاستهلاكي، ولا يتركه فريسة للأهواء.
وهنا نلاحظ أن شهر رمضان صار في زماننا فرصة لدى التجار لرفع أسعار كثير من السلع بدون أي داع، إلا زيادة الطلب عليها من قبل المستهلكين المنساقين وراء أذواق غير محسوبة، بل قد يكون المعروض من السلع كثيرا جدا، إلا أن العرض نفسه يكون قليل التأثير في خفض ثمن السلعة مقابل الطلب الكبير جدا عليها.
والأصل هو أن شهر رمضان مناسبة طيبة لضبط الأسعار على الأقل، وربما لخفضها، وذلك بضبط الإقبال على الاستهلاك، وعدم خزن السلع في البيوت بكميات أكثر من حاجة يوم أو يومين.
لقد اقترح بعض الاقتصاديين فرض ضريبة على الإنفاق الاستهلاكي، ثم قال "إن سياسة حماية أسعار المواد الغذائية، وبالقدر الذي لا يؤدي إلى الإسراف والتبديد، ليست فقط سياسة للعدالة، بل تكاد تكون سياسة اقتصادية ضرورية لضمان استمرار الاستقرار في الأسعار" (د. حازم الببلاوي، محنة الاقتصاد والاقتصاديين، ص49–50)
ومع جدارة هذا الرأي بالدراسة والاهتمام، فإن غياب وجه شهر رمضان الحقيقي عن حياتنا يحوجنا إلى هذا التدخل الخارجي، أعني تدخل الحكومة وتشريعاتها، بدلا من أن تكون التربية الرمضانية مجالا مفتوحا أمام الفرد لجني ثمار حياة اقتصادية وصحية سوية، وتضييق دائرة الحاجة إلى القوانين والتشريعات الضابطة، أو حتى إعانة هذه القوانين على توفير رقابة داخلية على الإنسان.
ج- الأطعمة التي يسن الإفطار عليها في رمضان كلها رخيصة أو متوسطة الثمن (التمر واللبن)، وفي الوقت نفسه هي مفيدة لمن يتناولها جدا، ويمكن الاستفادة بها في صناعة كثير من ألوان الطعام الأخرى.
وهذه فلسفة طعامية لشهر رمضان تلفتنا إلى ضرورة الاهتمام بالفائدة والعائد الصحي للطعام، لا بالمذاق وحده ولا بالشكل ولا غير ذلك من الظواهر التي فرَّغت كثيرا من أطعمة عصرنا من مضمونها -إن جاز التعبير- بل أخرجت الطعام عن هدفه الذي نتناوله لأجله. وهذا ملمح مهم وذو علاقة مفصلية بحياتنا الاقتصادية.
د- زيادة الاستهلاك عن المعدلات المعقولة وبدون تغيير قاعدة الإنتاج بصورة مناسبة يمثل كارثة اقتصادية، ونتعلم من شهر رمضان أن الاعتدال أو التقليل من الطعام لا ضرر فيه ما دام طعامنا محتويا على نسبة ملائمة من عناصره الأساسية، وأما الزيادة فيه فهي محققة الضرر صحيا واقتصاديا.
ولولا ذلك، أي عدم وجود مضرة من تقليل الطعام بالصيام، ما افترض الله علينا هذه الفريضة، والقاعدة القرآنية المذكورة في سياق آيات الصيام تقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فليس ممكنا أن يكون مراد الشارع بالعباد هو اليسر، ثم يكلفهم بما فيه ضررهم.
هـ- ينبغي أن لا نخص رمضان -قدر الطاقة- بأطعمة لا نأكلها إلا فيه، بل نأكل فيه ما نأكله في سائر العام، إذ إن هذا التخصيص من أكبر أبواب الفقد أو النَّزْف الاقتصادي والصحي.
والمشكلة أن الاستيراد هنا يتعلق بمواد غذائية ثانوية، وأخرى أساسية كالقمح والذرة، مما يعني أن أي أزمة تعاني منها الأسواق العالمية -مثل أزمة القمح التي نتجت عن حرائق روسيا وسيول باكستان الأخيرة- ستنعكس على المستهلكين- خاصة في العالم العربي- بصورة خطيرة جدا.
وسلوكنا المستحدث مع شهر رمضان يزيد من حرج هذه المشكلة، ويزيد من اتساع الفجوة في الميزان التجاري الغذائي العربي بين الاستيراد والتصدير
وأخيرا، لابد من إدراك المخاطر الجمة التي تهدد حياتنا الاقتصادية، فقد أشار الكتاب السنوي للإحصاءات الزراعية الصادر عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية لعام 2009 (على موقع المنظمة) إلى خلل كبير في الميزان التجاري الغذائي في أغلب البلدان العربية لصالح الاستيراد (مثلا مجموعة الحبوب بلغت قيمة الصادر منها عام 2008 نحو 803 ملايين دولار، في مقابل نحو 19.1 مليار دولار للواردات).
وأخيرا، لابد من إدراك المخاطر الجمة التي تهدد حياتنا الاقتصادية، فقد أشار الكتاب السنوي للإحصاءات الزراعية الصادر عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية لعام 2009 (على موقع المنظمة) إلى خلل كبير في الميزان التجاري الغذائي في أغلب البلدان العربية لصالح الاستيراد (مثلا مجموعة الحبوب بلغت قيمة الصادر منها عام 2008 نحو 803 ملايين دولار، في مقابل نحو 19.1 مليار دولار للواردات).
ساحة النقاش