لليونان علاقة من نوع خاص بكل أقطار العالم، وهي خاصة لأنها ليست قائمة في أغلب الحالات على الاشتراك في واقع تاريخي قديم أو حديث، وإنما تقوم على الموقع الممتاز الذي تشغله الثقافة اليونانية القديمة في سياق التاريخ الثقافي للإنسانية.
لقد حجزت اليونان القديمة لنفسها موقعا خاصا في ثقافة العالم بما أنجزته عقول وقرائح أبنائها من أدب وفلسفة وفكر وتطبيق سياسي وحربي، فمن بين أعظم القادة في التاريخ يذكر الإسكندر الأكبر (المقدوني)، وعلى رأس فلاسفة العالم تأتي أسماء أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس، وكذلك تذكر في عالم الشعر والمسرح أعمال هوميروس وسوفوكليس، وفي دنيا الطب طب أبقراط، وفي السياسة ديمقراطية المدن اليونانية.
ويندر أن توجد ثقافة نجت من التأثر الواسع بهذا التراث اليوناني، أو على الأقل لم توله كثيرا من اهتمامها العلمي والأكاديمي، سواء في الحديث أو القديم، حتى ظهر سقراط في سياق الفلسفة المسيحية الوسيطة في صورة قديس يزجي نصائحه، ويتحرك بين الناس بدعوته، حتى يسقط شهيدا في سبيلها. كذلك بدا أفلاطون في عين الفلسفة الصوفية الإشراقية في العالم الإسلامي على أنه أحد كبار الحكماء والأنبياء في تاريخ العالم.
وأهم من ذلك أن يتقاسم فكر أفلاطون وأرسطو زعامة الفكر الفلسفي في العالم بمزاجيه المثالي والواقعي على السواء، وأن تفتَتح كثير من كتب العلوم بمختلف تخصصاتها بذكر رأييهما أو رأي أحدهما قبل أي شيء آخر في هذا العلم أو ذاك الفن.
صحوة على حلم
كان الإنجاز اليوناني السابق مدهشا حقا، حتى مع إثبات السبق الشرقي إلى بعض الأفكار والعلوم، وإثبات التأثر الإغريقي في هذا الإنجاز بالحضارات الشرقية الأقدم –نعم كان مع كل هذا مدهشا، ومفاجئا أيضا، مما دعا بعض الأقلام الحديثة إلى وصفه بـ"المعجزة اليونانية"، لخصوصيته وتفرده وامتداد تأثيره عبر الزمن.
ولا يقل عن هذا إدهاشا للعقل أن اليونان لم تكرر هذا الإنجاز ولم تقترب منه إطلاقا في أي مرحلة أخرى من تاريخها المعروف، بل ظهرت طيلة تاريخها كيانا خاملا أو تابعا لمركب سياسي أكبر، الدولة الرومانية الموحدة أولا، ثم الدولة البيزنطية (الرومانية الشرقية)، ثم الدولة العثمانية أخيرا.
وفي العصر الحديث تسبب المد القومي في الغرب إلى تقليب واسع للتربة الاجتماعية في العالم، تطاولت معه أعناق الأقليات تبحث عن استقلالها، وتحاول أن تجمع شتات أبنائها داخل حدود وطن واحد خاص بها.
وقد توسل مشروع الدولة القومية، خاصة في حال الثورات التحررية، بكل ما من شأنه أن يدعم هدفها من وسائل، وبرز التاريخ باعتباره مصدرا لإلهام الثوار، وإعادة تذكيرهم بمجد الآباء، وأنهم الأحفاد الذين ينتظر منهم أن يكتبوا صفحة في التاريخ لا تقل روعة عما سطره الأسلاف.
ولم تكن المحاولة اليونانية الحديثة للاستقلال عن الدولة العثمانية بدعا في هذا الجانب، بل يمكننا أن نعدها نموذجا متكاملا للدولة القومية التي تعيد تكوين شخصيتها بالاتكاء التام على التاريخ، أو نموذجا لإقامة الاستعادة القومية على ظهر التاريخ، فامتلأت الدنيا إبان الثورة اليونانية بدعايات تقول إن أحفاد الإسكندر وأفلاطون وأرسطو قد عادوا، وإنهم ماضون حتى يحققوا تلك المبادئ التي رفع لواءها فلاسفة الإغريق القدماء.
وقد تبنى تلك الدعاية بعض أدباء أوروبا الكبار تبنيا واسعا، وعلى رأسهم الشاعر الإنجليزي الشهير اللورد بيرون والأديب الفرنسي المعروف فيكتور هوغو، وانفعلت بذلك جماهير واسعة في أنحاء أوروبا، مما وفر غطاء ماديا وسياسيا قويا لدعم محاولات الاستقلال اليوناني عن الآستانة آنذاك.
ومن الطريف أن هذه النبرة نفسها قد برزت شيئا ما إلى السطح حين فاز اليونانيون، في مفاجأة رياضية من العيار الثقيل، بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم سنة 2004، التي أقيمت في البرتغال.
ويبدو أن هذا الربط بين التاريخ والواقع هو استدعاء طبيعي يستبد بالذاكرة أو يفرض نفسه عليها، ولما كان التفوق اليوناني قد وقع مرة واحدة طيلة التاريخ، فإن الاستدعاء يقع معها في اتجاه واحد ودون تنازع، خلافا لمن تكرر التفوق لديه خلال أدوار تاريخه المتتابعة.
فهل كان الإغريق الجدد -بعد الآمال السابقة التي علقت عليهم- عند حسن الظن بهم؟
عالج أنصار الدولة العثمانية ذلك من زاوية أخلاقية، فرأوا أن الثوار قد خيبوا الآمال بما ارتكبوا من الجرائم، وبما خالفوا من المبادئ والأخلاق الحميدة.
ونقل بعضهم -بعد أن ذكر بطريقته الخاصة هذا الاحتشاد الأوروبي خلف "الحلم اليوناني"- شهادات عن بعض الغربيين تثبت وجهة النظر التي تفيد بأن من كان يأمل في أن يحيي اليونانيون المحدثون مجد أسلافهم قد خابت آمالهم، ومنهم الكاتب الإنجليزي فنلي الذي كان شاهد عيان على حوادث القرن التاسع عشر اليونانية، فقال عن مذابح اليونانيين ضد المسلمين "إن منظر هذه المذابح لا يعادله منظر في تاريخ البشر، لا في فظاعته، ولا في طول مدته".
كما نقل وثيقة هامة عن الفرنسي ألفريد لميتر تقول على لسان بعض الفرنسيين الذين ذهبوا لمساندة الثورة "قد وصفوا لنا اليونانيين قبل سفرنا من فرنسا بشجعان وأبطال يفوقون آباءهم الأولين شهامة ومجدا! فما وجدنا هنا إلا رجالا يحملهم حب المال على حب الجرائم، وأناسا لا يزالون في ظلمات الجهالة والوحشية" (انظر: المسألة الشرقية لمصطفى كامل ص 55 وما بعدها).
انهيار الحلم
ومع أهمية النظر إلى البعد الأخلاقي باعتباره أحد الأبعاد التي يستند إليها في تقييم التجارب التاريخية، ثمة بعد آخر أشمل يحتاج إلى نظر أوسع، وهو ما يظهر من خلال هذا السؤال: هل نجح المشروع الوطني اليوناني في تجاوز مرحلة التحرير إلى بناء الدولة، وتطبيق المبادئ التي نادى بها إبان الثورة على أرض الواقع؟ وهو السؤال نفسه الذي نطرحه عند تقييم نتائج الحركات التحريرية التي قامت في عالمنا العربي والإسلامي.
لقد نالت اليونان استقلالها عن الدولة العثمانية في فبراير/شباط 1830، أي أنه قد مر على استقلالها الآن قرابة قرنين من الزمان، وهي أطول فترة استقلال أتيحت لها منذ سيطرة الدولة الرومانية عليها في القرن الثاني قبل الميلاد، فهل أنجزت اليونان الجديدة شيئا ذا بال في إطار مشروع وطني تتفق عليه الجماعة الوطنية وتتعاون في إنجازه؟
أمر لم يتحقق منه إلى الآن شيء يستحق الذكر في الحقيقة، بل بدا في الأزمة الأخيرة –وهي أزمة مالية في ظاهرها لكنها أخلاقية في حقيقتها- أن التجربة اليونانية الحديثة متجهة برمتها إلى الفشل التام في الاستمرار كدولة، حتى احتاجت أثينا من الراعي الأوروبي الذي ولدت الدولة اليونانية الحديثة في حجره إلى معونة ضخمة وعاجلة ومجحفة الشروط، مما أكد أن اليونان لما تبلغ بعد مرحلة الفطام والاعتماد على النفس وتسيير عجلتها بيديها.
وقبل ذلك بعقود طويلة قدمت أميركا، ضمن مشروع مارشال لمساعدة أوروبا وإنقاذها من الشيوعية، معونات اقتصادية كبيرة لليونان، وقد علق الرئيس الأميركي ترومان على نتيجة هذه المساعدات سنة 1948 قائلا: "إنهم لم يحققوا الآمال التي كانت تنتظر منهم نتيجة للإعانات الأميركية التي تواصل الولايات المتحدة إمدادهم بها" (محمد رفعت بك: التيارات السياسية في حوض البحر الأبيض المتوسط ص 277).
لقد أتيح للدولة اليونانية الحديثة أن تنطلق بلا عقبات خارجية ثقيلة كتلك التي تعانيها دول كثيرة في آسيا وأفريقيا، إذ توجد في طريق هذه الأخيرة عراقيل خارجية -تضاف بالطبع إلى المعوقات الداخلية- هي أساس خطير يحول دون تطور تجاربها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اتجاه النمو الطبيعي.
إن الصراع الاجتماعي والأيديولوجي هو الذي شوه تجربة اليونان الحديثة برمتها، فقد برزت العصبية بين سكان الجبال وسكان السهول من بداية عهد الدولة بالاستقلال، وكان الاضطراب السياسي، والتردد الطويل بين النظام الملكي والنظام الجمهوري، والاختراق الشيوعي العميق للمجتمع، والنزاعات والحروب الأهلية، وإعدامات القادة والسياسيين، والإخفاقات والهزائم، مؤشرات واضحة على عجز اليونانيين عن تسيير النظام السياسي للدولة بشكل رشيد.
وهذا يعني في جملته أن استجابات المجتمع اليوناني لم تكن منضبطة حيال وضع الاستقلال الجديد، وفي التعامل مع الأيديولوجيات الوافدة من الخارج، حتى في القدرة في المراحل التالية على تلاشي أخطاء البدايات في تصحيح مسار التجربة الوطنية.
لقد بدا اليوناني الجديد إبان الاستقلال مقاتلا شرسا وقاسيا ومتمكنا من حرب العصابات في البيئة الجبلية، أما قدرته على المشاركة في عملية سياسية تصب في النهاية في مصلحة المجتمع اليوناني بأطيافه المختلفة فهذه لم يثبت اليوناني قدرته على خوضها إلى الآن.
وقد يكون لليونانيين عذر في أن بلادهم مجدبة، وجغرافيتها الجبلية تصعب الحركة والزراعة فيها على السواء، لكن اليابان التي انبهر العالم بها في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين ليس بها موارد طبيعية تفي إلا بالقليل من حاجتها لتحقيق نهضتها التي أطلق عليها اسم "المعجزة اليابانية".
وحين نلقي نظرة عاجلة على مدى التزام المواطن والجماعات الوطنية الصغيرة بقضايا الوطن ومجتمعه الكبير في كل من اليابان واليونان، سيتبين لنا الفرق بين التجربتين وأسباب النجاح وأسباب الفشل فيهما.
ساحة النقاش