جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
كيف تعالج المسألة؟
بعض الجذور
توظيف سياسي
كما كان متوقعا؛ بدأت بعض دوائر النفوذ الصهيوني في الغرب تفتح ملف "المسألة الأرمنية" من جديد، وتؤكد مسؤولية تركيا عن مقتل أكثر من مليون ونصف المليون أرمني أثناء الحرب العالمية الأولى؛ وذلك بعد موقف أنقرة الحازم من تل أبيب في أعقاب الاعتداء الإسرائيلي على أسطول المعونات (الحرية) في المياه الدولية بالبحر المتوسط في نهاية مايو/ أيار الماضي.
ويبدو أن هذه ليست كل المتاعب التي يمكن أن تجنيها تركيا من حزمة المواقف التي تبنتها تجاه إسرائيل خلال الأعوام الأخيرة. وتكالب المشكلات على تركيا أخيرا، وبعد أحداث الأسطول الدامية وتوابعها، وكذلك المحاسبات الأميركية المتتابعة لأنقرة قد تكون عينة من هذه المتاعب.
والأكثر أهمية لهذا السياق هو أن "مسألة الأرمن" باتت سلاحا يشهره كل من يريد أن يعرقل مصلحة تركية ما، أو يعارض موقفا تركيا مستقلا لا يعجبه، وذلك وفقا لتوظيف سياسي لا يمتاز بشيء من الثبات أو الدوران مع المبادئ من أي وجه.
كيف تعالج المسألة؟
والحقيقة أن المسألة الأرمنية وما يشبهها من القضايا التاريخية –وبعيدا عن كل الانحيازات– لابد لها مما يلي:
أولا: إخضاعها للمنهج العلمي للدرس التاريخي، والذي يقوم على فحص الوثائق والشهادات وكتابات المؤرخين المعاصرين والمخلفات المادية التي نتجت عن الحدث. مع وضع الحدث المفترض في سياق الأحداث التاريخية السابقة واللاحقة، والنظر إليه في ضوء الممكن والمعتاد في قوانين الحياة الإنسانية.
ثانيا: الابتعاد بمثل هذه الأحداث عن سوق الهجاء والصفقات السياسية، وإخضاعها لتشريع دولي يقر الحقائق، ويرد الحقوق المعنوية وما هو مستطاع من الحقوق المادية إلى أصحابه.
إن بابا الفاتيكان السابق جان پول الثاني قدم اعتذاره الشهير لليهود عما وقع من الكنيسة الكاثوليكية من تجاوزات في حقهم. ولعله عبر بذلك عن نوع من التصالح بين دفتي الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، أو الحضارة الغربية بشقيها المسيحي واليهودي. إلا أن هذا لا ينبغي أن يكون مجرد عواطف خاصة يصوغها لسان بليغ، بل يجب إخضاعها لمعايير واحدة لا تفرق بين شعب وآخر، وتبتعد عن التوظيف السياسي القائم على الصفقات الرخيصة.
وكجزء من هذه المهمة الكبيرة جدا في دراسة "المسألة الأرمنية"، نقف على عجل مع شهادة مهمة للزعيم المصري الشهير مصطفى كامل (توفي 1908م)، والذي اجتمع فيه الانتماء الوطني المتحمس إلى مصر والانتماء التأصيلي إلى "الجامعة الإسلامية" التي مثلت الدولة العثمانية في رأيه مظلتها الجامعة للأقطار المسلمة في العالم. والقصد من هذا هو بيان الفرق بين ما يتم به معالجة المسألة الأرمنية في الواقع الدولي الحالي، وبين ما ينبغي أن يكون في شأن هذه المعالجة.
ولن تكون شهادة مصطفى كامل بالتأكيد خاصة بأحداث المسألة الأرمنية أثناء الحرب العالمية الأولى (وبالتحديد سنة 1915) التي لم يكن الرجل حيا أثناءها، ولكنها تكشف لهذه الأحداث عن جذور مهمة أحسب أن المؤرخ المعاصر لابد أن يضعها في الاعتبار حين يشتغل بدراسة المسألة الأرمنية في فصولها المختلفة عموما، وفي أحداثها أثناء الحرب العالمية الأولى خصوصا.
بعض جذور المسألة
ألف النابغة مصطفى كامل كتابه المهم "المسألة الشرقية" ونشره بالقاهرة في عام 1898 حين كان في الرابعة والعشرين من عمره. ومع أنه كتبه أصلا للتأريخ لمحاولة الاستقلال اليوناني عن الدولة العثمانية حينئذ، ونجاح الأتراك في منعها، إلا أنه اتسع في الحديث، حتى تناول أخطر أزمات "الدولة العلية" التي كانت تعاني منها في هذه المرحلة من تاريخها، وختمها بالأزمة الأرمنية.
وفي بحثه عن جذور الأزمات التي وقعت فيها الدولة العثمانية عموما، اعتبر مصطفى كامل حماية العثمانيين لحقوق الأقليات "أكبر سبب لكل ما لحق الدولة العلية من الضرر والإجحاف، وأصلا لكل ما حل بها من المصائب والبلايا... فمسألة اختلاف الدين في الدولة العلية التي هي نتيجة الاعتدال الديني والعدل والإنصاف كانت ولا تزال الداء الدفين الذي يهدد حياة الدولة من وقت إلى آخر؛ فتداخل الدول الأوروبية في شؤون الدولة العلية باسم المسيحيين المحكومين بها، ومضايقة أوروبا للدولة باسم هؤلاء المسيحيين، واضطرابات الدولة تقوم باسم هؤلاء المسيحيين، والإنذارات التي توجه للدولة باسم هؤلاء المسيحيين، بل وأغلب الحروب التي جرت مع الدولة جرت باسم هؤلاء المسيحيين" (المسألة الشرقية ص 8).
ولا يبدو هذا لوما للعثمانيين على التزامهم تجاه الأقليات بقدر ما هو تحسر على التوظيف الاستعماري الأوروبي لذلك التسامح في السعي إلى تدمير دولة الخلافة؛ وهو أمر كان يحس مصطفى كامل بقرب وقوعه إحساسا باطنا، وإن كان يرى أنه سيؤدي حالَ حدوثه إلى حروب واضطرابات عالمية كبيرة.
وفي كشفه عن دوافع "الفتنة" الأرمنية لم يذكر كامل شيئا عن العامل القومي الذي أدى إلى ظهور كثير من الكيانات السياسية الجديدة خلال القرن التاسع عشر والعشرين، وكان المغذي الأكبر للأرمن في ثورتهم. واعتبر أن الإنجليز –المحتلين لمصر أيضًا- هم المحتضن الأكبر للثورة؛ ذلك "أن إنجلترا تريد هدم السلطنة العثمانية وتقسيم الدولة العلية؛ ليسهل لها امتلاك مصر وبلاد العرب... وهي تقصد بتقسيم الدولة العلية غير ذلك إحداث حرب عمومية في أوروبا وإضعاف فرنسا وروسيا... وإذا قسمت هذه الدولة (لا قدر الله) قامت الثورات في كل أنحاء الشرق، وهاجت أمم البلقان، وصار كل يطالب بشيء، فيعم الهيجان، وتقوم الحرب العمومية ولا محالة" (ص 303 – 304).
ومع ما في ذلك من حدس مهم -ينبغي تسجيله- بظهور الحروب العالمية "العمومية/ العامة"، إلا أن العامل القومي وما يتبعه من عوامل اقتصادية واجتماعية والنشاطَ الاستعماري الأوروبي هي –في الحقيقة- التي تحكمت فيها، وتحكمت كذلك في مصير الدولة العثمانية نفسها، والتي كان رد الفعل المباشر على سقوطها فيما بعد أقل مما توقع مصطفى كامل، على الرغم من انطلاق حركات الإصلاح والتجديد الإسلامي الحديث من هذا السقوط نحو مشاريعها الاسترجاعية.
وتأكيدا لمسؤولية السياسة البريطانية عن الأحداث الأرمنية نقل كامل عن الفيكونت دي كورسون الفرنسي قوله: "الواقف على مسألة الأرمن بحذافيرها يتحقق لديه أنه ما من حادثة وقعت في البلاد التي اصطلح الإنجليز على تسميتها بأرمينيا إلا وتكون الجرائد الإنجليزية في لندن قد أنبأت بها قبل حدوثها بزمن طويل جدا، فتراها تبين لقرائها نوع الحادثة التي ستقع ومكان وتاريخ وقوعها، كما فعلت في حادثة وادي تالوري... إن الثورة الأرمنية أشبه شيء ببضاعة جهزها الإنجليز في مجتمعاتهم السياسية، وأخذوا في تصديرها حسب الطلبات إلى جهات معلومة" (312 – 313).
ورأى كامل أن من حق العثمانية –كأي دولة- أن تدفع عن نفسها الأضرار، وتعاقب الخارجين عليها من أتباعها: "هل يقبل العقل البشري أن المسيحيين المدافعة عنهم إنجلترا يعادون المسلمين ثم يسألون معاملتهم بالرقة واللطف وحسن العناية بهم؟!... وغني عن البيان أن المسلمين في الدولة العلية متى رأوا فريقا من أخدانهم المسيحيين يعمل بأوامر الأجنبي عدُّوه خائنا للوطن العثماني ناكثا لعهد الدولة العثمانية؛ أي عدوًا دخيلا في الوطن والملة والدولة، ووجب عليهم العمل ضده بكل ما في استطاعتهم قياما بواجباتهم الوطنية، وهذا هو الشأن في كل أمم العالم" (ص 9 - 10).
وفي التماسه لأدلة مباشرة تدين الأرمن، وتبرئ الدولة العثمانية، تكلم مصطفى كامل عن المكانة الخاصة التي احتلها الأرمن في الدولة العثمانية ردا للاعتذار عنهم، ثم قال: "لما جرت محاكمة ثوار الأرمن في عام 1893 أمام محكمة أنقرة، ظهرت الحقيقة التي لا ريب فيها، وتبين للعالمين أن إنجلترا هي الموعزة لهم بالثورة، والمحرضة لهم على شق عصا الطاعة للدولة العلية.
فقد ضبط رجال البوليس العثماني كاتب أسرار الجمعية السرية المدبرة لحركة الثورة وبين يديه أوراقه المشتملة على أكثر أسماء الأعضاء، واتضح أن الأرمن البروتستانت هم وحدهم القائمون بالثورة دون الكاثوليك، وأن لهم جمعية سرية داخل الدولة العلية وخارجها... واستُدِلَّ من التحقيق على أن بعض رجال السياسة الإنجليزية كالمستر غلادستون شجع سرا بكتابات خصوصية بعض رجال الدين من الأرمن على الثورة وإحداث القلاقل في تركيا، ووعدهم بمساعدة إنجلترا وتعضيدها، وتشكيل إمارة أرمنية مستقلة" (ص 305 - 306).
ونقل بالواسطة أن صحيفة (غلوب) الإنجليزية قالت في شهر يناير/ كانون الثاني 1895: "إن الفظائع التي أسند إلى الأتراك اقترافها ضد الأرمن هي أكبر ما غشت به الجرائد الإنجليزية الرأي العام الإنجليزي" (ص 313).
ونقل كذلك نقلا آخر له دلالته عن صحيفة أميركية صدرت في 23 ديسمبر 1893 أن أحد الشباب الأرمن بيَّن أنهم يعملون على قتل الأكراد والترك وإحراق قراهم؛ حتى يغضب المسلمون فينقضوا على الأرمن، ويفتكوا بهم فتكا مريعا "تضطر معه إحدى الدول الأجنبية إلى التدخل في أمور آسيا الصغرى، والاستيلاء عليها باسم الإنسانية والتمدن المسيحي... فلقد تحركت عواطف أوروبا لفظائع بلغاريا، فمنحتها الحرية" (ص 329 – 330).
وأخيرا نقل مصطفى كامل عن كاتب إنجليزي –بواسطة صحيفة الطان الفرنسية عدد 10 أبريل/ نيسان 1897- جزءا من مقال نشره في صحيفة التايمز يقول فيه: "إن الجمعات الثوروية الأرمنية هي آفة الأمة الأرمنية ومصيبتها، وإني لا أتردد في أن أصرح –معتمدا في ذلك على خبرتي الشخصية– بأن هذه الجمعيات هي التي يقع عليها النصيب الأوفر من مسؤولية موت الأرمن العديدين الذين قتلوا في الاضطرابات الأخيرة... إن الجمعية الثوروية الأرمنية التي مركزها لوندرة ترمي إلى إحداث مذابح جديدة لكي تبقى أنظار أوروبا موجهة إلى مظالم الأتراك... فأعضاء هذه الجمعيات ومديروها يريدون إجبار أوروبا على التداخل في أمور تركيا الداخلية بالسلاح والقوة؛ وللوصول إلى هذا الغرض تراهم يحدثون ثورات ومذابح هم وحدهم المسؤولون عنها" (ص 339 – 341).
ومهما يكن من شأن الاستنتاجات التي توصل إليها مصطفى كامل في تناوله لهذا الدور من أدوار المسألة الأرمنية، فإن تناوله لها جدير باهتمام المؤرخ وهو يدرس هذه القضية المعقدة، ويحاول حل ألغازها المبهمة.
ويبدو أن القضية عموما كانت قضية إمبراطورية تكاثرت عليها الأزمات، وحاولت أن تدفع عن نفسها التفكك والتحلل، في مقابل شعوب ألهب الامتداد القومي في العالم مشاعرها، ووجدت من أعداء العثمانيين مساعدات سخية – وفي طريق صراع كهذا لابد أن تكثر الضحايا من الطرفين، ومجال المبالغات الكبيرة مفتوح في ظل ظروف معقدة بهذه الصورة.
إلا أن الجانب غير الأخلاقي للثوار الأرمن لا يمكن إخفاؤه؛ إذ كانت التضحية حتى بأبناء جلدتهم في سبيل الظفر بالمعونة الأوروبية لثورتهم وسيلة غير نظيفة للوصول إلى الوطن الأرمني المأمول.
توظيف سياسي
قد يكون التاريخ هو أفضل مرآة يرى فيها الإنسان نفسه وطبيعةَ المسار الاجتماعي الذي يمكنه السير فيه، إلا أن الغالب على علاقة الدولة الحديثة بالتاريخ –للأسف الشديد– هو التوظيف المتحيز له لكسب موقف سياسي، أو إلحاق أو استبعاد طرف ما من معادلة أو أخرى.
وقد تعرضت المسألة الأرمنية لهذا التوظيف السياسي ضد تركيا، ولم يكن ذلك حرصا على المبادئ، ولا بكاء على حقوق الإنسان، ولكنها الوسيلة إلى الرفض السياسي على المستوى الدولي؛ ففرنسا تثير القضية لمنع تركيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والدوائر الصهيونية الأميركية مستعدة لتوظيفها مرة لصالح تركيا ومرة ضدها حسب مستوى الرضا عن أنقرة!
وقد ظهر هذا بجلاء حين أعلن بعض النواب الأميركيين (النائب الجمهوري مايك بنس) أنه مستعد لسحب رفضه لقرار الكونغرس باتهام تركيا بالتورط في إبادة جماعية للأرمن في الحرب العالمية الأولى؛ وذلك عقب أحداث أسطول الحرية في البحر الأبيض. وقد كشف النائب المذكور من حيث لا يدري أن مواقفه لم تعتمد على مبادئ لا حين أيد ولا حين عارض، وإنما هو التوظيف السياسي في صورة صفقة يأخذ فيها ويعطي!
المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
ساحة النقاش