جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
لا يملك إنسان أن يضع نفسه موضع الحياد تجاه الأحداث والمواقف التي تحتاج إلى أحكام، والأخرى التي تنطوي على تنافس بين طرفين لا بد أن يكون الظفر فيه لأحدهما, على شرط أن يكون كل هذا داخلا في دائرة اهتمام الإنسان أصلا.
وأحسب أنْ لا فرق بين الناس في هذا الجانب، مهما اختلفت ثقافاتهم، وتباينت مستويات الفهم لديهم، وإنما يكمن الفرق هنا في قدرة بعض الناس على ضبط هذا الميل النفسي بحيث لا يسوقهم إلى الجور في حال القيام مقام القاضي أو "الحَكَم" بالاصطلاح الرياضي.
وهذا يعني أن الغالبية العظمى من الناس ليس لهم قدرة على ضبط مشاعرهم بحيث لا تفيض على سطوح شخصياتهم، ولا تطفو على صفحات وجوههم وفي ثنايا عباراتهم التلقائية وتصرفاتهم العفوية.
والأقلية من الناس هي القادرة على هذا الضبط في المواقف التي يتولون فيها الحكم، وفي المواقف التي لا بد لها من هذا الضبط، كالجاسوسية السياسية وما شابهها، وأما ما سوى ذلك فالناس جميعا لا يختلفون إلا في طرق تعبيرهم عن انحيازاتهم.
الولاء.. ما الولاء
مئات الملايين من الناس ينتمون إلى كل دول العالم، بل كل مدنها، إن لم يكن قراها، يتابعون الآن جولات المونديال العالمي الحالي لكرة القدم (جنوب أفريقيا 2010) بين أقوى دول العالم في هذه اللعبة المنعوتة بـ"الساحرة". وبعض هؤلاء الملايين يتابعون منتخبات بلادهم المشاركة في هذه البطولة بالفعل، وبعضهم الآخر لا تُمثَّل بلادهم فيها، ومع هذا يتابعون الحدث الرياضي الضخم بشغف كبير.
ولعل متابعة المتابعين (من إضافة المفعول إلى فاعله) للمونديال الكبير، أو مشاهدة المشاهدين له تكشف عن كثير من قواعد الانتماء الإنساني إلى الدين والدولة والقومية والجغرافية. وأزعم أن المسألة هنا هي مسألة طبيعة إنسانية لا تتغير، سواء قرأناها في قتال حربي، أو تنافس اقتصادي، أو تبارٍ رياضي.
والمشهد هنا يشبه -من وجوه كثيرة- من يتابع الأطفال وهم ينفعلون بمشاهدة أفلام الرسوم المتحركة، إلا أن هذه الحالة الطفولية تعكس انفعالات صماء بحدث مثير أكثر مما تعكس انتماء ما إلى غير الطبيعة البشرية في حالتها الخام. وأما متابعة الكبار من مشاهدي الأحداث الرياضية، خاصة حين تكون مشاهدتهم حماسية، فإنها تصوِّر الداخل الإنساني، وتكشف كثيرا من صور انتمائه.
والسؤال هنا: ما الأساس الذي عليه يختار المشاهد فريقه المفضل، وتتطابق أمنياته مع أمنيات لاعبيه بالفوز؟ أو كيف يُعبَّر عن الولاء بصوره المختلفة خلال مشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم مثلا؟
والحق أن الأساس الذي يتحدد عليه اختيار الفريق المفضل في مثل هذه المنافسات هو الولاء، والولاء هنا يعني التبعية العقلية والنفسية لانتماء ما بحيث يؤدي بالشخص إلى حشد وتجييش إمكاناته وراء معنى أو رمز يمثل هذا الانتماء.
ولا بد أن نؤمن بأن الاختيار هنا هو اختيار تلقائي عفوي لا دخل فيه للتفكير والعقل إلا قليلا، وذلك لأن الولاء تعبير عن الذات الإنسانية ومكوناتها، والذات لا تندفع في مواقفها عادة وراء العقل بصرامته، وإنما تتشابك مكوناتها حتى تخرج هذا المنتج العجيب الذي نسمّيه "الموقف الإنساني"، وهذا الموقف بدوره هو الذي تنعكس فيه ألوان الولاء ومزاج الإنسان، حتى إنه يمكننا من خلال مجموعة من المواقف المتنوعة لشخص ما قراءة شخصيته قراءة جيدة، كما هو معروف في مجال الدراسات النفسية.
ويتجاوز الولاء حدود "المصلحة" أو "المنفعة" الخاصة، وإن كان يتشابك معها في كثير من الأحيان، فيجتمعان ويفترقان، وأقوى ألوان الولاء هو الذي تتحقق معه المصلحة، وأعظم ألوانه هي التي يحتفظ فيها الإنسان بولائه ولو ضاعت مصلحته الشخصية، ومثله الولاء الذي يقدم مصلحة الجماعة أو الآخرين على مصلحة النفس أو الفرد.
والولاء نفسه متنوع ما بين ولاء ديني وولاء قومي وولاء لغوي وغير ذلك، وتنوعه هذا يتيح فرصا للتلاقي وأخرى للتقاطع بين ولاء وولاء.
تقاطع الولاء
يأتي الولاء للوطن والقوم باعتباره أولى صور الولاء الذي تعكسه اختيارات مشجعي الكرة والرياضة عموما، فالإنجليزي يشجع منتخب إنجلترا، والمكسيكي يشجع الفريق المكسيكي، والجزائري يقف وراء منتخب الجزائر، وهكذا.
ولكن الوطن هنا ليس هو هذه القطعة من الأرض بمجردها، وإنما بما تمثله من تاريخ وثقافة وعائلة وقومية انغرس المشجِّع فيها، أي إن الوطن المعين يمثل لصاحبه -دون بقية نواحي الأرض وبقاعها- الموضع القدري المختار للتجذر المكاني لشخصيته وسط جماعته، والتي لا يمكن أن تعيش بلا مكان، كما لا يمكنها أن تعيش في مكان لا شخصية له.
إن الوطن بالنسبة لصاحبه هو كتلة من التوافقات العرقية والدينية واللغوية مع جماعة من الناس يمثل المكان الظرف الحاوي لها، ومن هنا يبقى المكان كأقوى رمز يعبر عنها، خاصة بما يحويه من أسباب عيش الجماعة وبقائها.
ويبدو أن بروز الولاء الوطني في الأحداث الرياضية المعاصرة، خاصة الكبيرة منها، يعكس الوضع السياسي للعالم، وذلك لأن أساس التقسيم الأول للأقوام البشرية في عصرنا هذا هو الدولة بمفهومها الحديث (الشعب والأرض والحكومة)، بعد أن كان العالم مجموعة من الإمبراطوريات التي يميزها دين الأغلبية قبل كل شيء.
والشواهد تفيد أن ولاء مشجعي الرياضة لبلادهم التي وُلدوا وعاشوا فيها، وتجنسوا بجنسيتها، لا يكسره إلا الولاء الديني والمذهبي، فمهما قيل عن التقدم والتطور والحداثة وما بعدها، فلا يزال الدين حاضرا في حسابات الشخصية التي تنتمي إلى مجتمعات تعتبر الدين وجها من وجوه الاختلاف الأساسية بين الناس.
ولا تزال الأقليات الدينية والمذهبية في بلادنا وغيرها تقدم تشجيع الفرق الرياضية التي تتفق معها في الدين أو المذهب على تشجيع منتخب بلادها إذا اضطرت إلى الاختيار بينهما، والأمثلة ظاهرة في سنة إيران وشيعة لبنان وكاثوليك بريطانيا وبروتستانت أميركا الجنوبية.
وتبدو للقضية أعماق تجر إلى الحديث عن ولاء الأقليات الشرقية (المسلمة والهندوسية مثلا) في الغرب، فقد كان كثير من الجماهير الألمانية من ذوي الأصول التركية في كأس العالم 2002 (في كوريا واليابان) أكثر اهتماما بالمنتخب التركي منهم بالفريق الألماني، وفي بطولات الكركيت والهوكي يصطف حاملو الجنسية الإنجليزية من ذوي الأصول الهندية والباكستانية خلف منتخب بلادهم الأصلية حين يلاقي منتخب إنجلترا.
ولا أزعم أن هذا عامّ في جميع الأقليات، ولا حتى في كل أفراد أقلية ما، كما أنه لا يتضمن تخوينا للأقليات من أي لون، ولكنها سلطة الدين والأصول القومية التي تأبي إلا أن تبقى في نفوس أصحابها معبرة عن نفسها بصورة أو أخرى.
وثمة صورة نادرة لهذه المغالبة بين لونين من الولاء، قد تبدو غريبة مع عمقها، ويمكن للقارئ أن يرى لها نماذج في بلادنا، وذلك أن بعض المثقفين قد يتمنى لمنتخب بلاده الهزيمة الرياضية، ليس لشيء إلا لأن الفوز يُستَغَل سياسيا باعتباره -أولا- ملهاة ومشغلة للناس عن همومهم الأساسية، وثانيا يسوَّق له باعتباره من إنجاز النظام الحاكم.
والرأي عند هذا الفريق من المثقفين هو أنهم يعلقون الترجمة عن الولاء للوطن برعاية مصالحه العميقة لا مصالحه السطحية، وأهم ما يضمن مصلحته العميقة -حسب رؤيتهم هذه- هو الخلاص من الظلم السياسي، والتمتع بإدارة وطنية مخلصة.
ولا ننكر أن في هذا الرأي كثيرا من الصواب، إلا أن التنافس الرياضي يصنع المعجزات في عالم السياسة أحيانا، أعني أن الانتصار في مجال الرياضة قد ينعش الآمال لدى الشعوب بالقدرة على الإنجاز، وأحسب أن تخلص البرازيل من الحكم الديكتاتوري يقف وراءه عامل رياضي قوي إلى جانب عوامل أخرى متنوعة، وذلك أن الدولة التي سحرت العالم بلاعبيها وأسلوبها الكروي الفريد، والتي حسدتها عليهم وعليه أكثر دول العالم تقدما، رسخ في أعماق نخبتها وجماهيرها أنه لا يليق بها مع هذه الصورة المشرقة أن تبقى رهينة للحكم الفردي، حتى أدى الضغط بأسبابه المختلفة إلى تغييرات برازيلية هادئة في اتجاه الديمقراطية منذ عام 1985، وبعد أكثر من عقدين من الحكم الديكتاتوري.
مشجعون بلا تمثيل
وتتعقد مسألة الاختيار حين تتغالب ألوان الولاء، وتبرز هذه الحالة واضحة لدى المشجعين الذين لا تشارك بلادهم في البطولة الرياضية، إذ يدور الصراع داخل المشجع في هذه الحال بين ولاءات دينية وقومية ولغوية وثقافية تتيح لنا أن نكتشف من خلال دراسة عينة واسعة من المشاهدين للمونديال الكروي الحالي –على سبيل المثال- الخرائط الدينية والقومية واللغوية والثقافية للعالم وتعقيداتها.
وسنكتشف خلال ذلك أن أكبر قدر من التوافق في هذه الولاءات بين المشجِّع والمشجَّع هو الذي جمع بينهما، وجعل معركتهما واحدة، ومن هنا فمن الطبيعي أن يشجع المصري والسعودي والقطري والمغربي، بل الباكستاني والماليزي منتخب الجزائر في لقاءاته الحالية بجنوب أفريقيا. وإن كانت بعض المواقف الشخصية والأحداث الطارئة السابقة قد تعكس الصورة، فإن هذا ليس هو الأصل في اختيار الإنسان وميوله.
وإذا كان التوافق في الولاء هو الجامع بين المشجع وفريقه، فإن فرقا واحدا قد يرجح كفة فريق على آخر لدى الجماهير، ومن الطبيعي وفقا لهذا أن تميل أكثرية البرتغاليين إلى الفريق البرازيلي حين يلتقي مع الأرجنتين، على عكس الجمهور الإسباني الذي يميل إلى الأرجنتين في مثل هذه اللقاءات العملاقة -خاصة قبل احتراف مجموعة من كبار اللاعبين البرازيليين في الفرق الإسبانية خلال العقدين الأخيرين- وذلك لأن الدول الأربع (البرتغال وإسبانيا والأرجنتين والبرازيل) هي كلها دول لاتينية كاثوليكية، إلا أن البرازيل برتغالية اللسان، في حين أن الأرجنتين إسبانيته.
وكذلك مال كثير من الجماهير العربية والمسلمة إلى جانب المنتخب الفرنسي –حتى ضد المنتخب البرازيلي الذي تعشقه- في منافسات كأس العالم دورات 1998 و2002 و2006، بسبب وجود بعض اللاعبين الذين يشاركونهم الدين والعرق، خاصة النجم زين الدين زيدان المسلم ذا الأصول الجزائرية.
لكن، ألا ترى أن الأخ في البيئة الواحدة قد يختلف عن أخيه، والأب عن ابنه في تعيين الفريق الذي يشجعه؟ إن ذلك يعني أن التعبير عن الولاء مسألة معقدة جدا، وتتدخل فيها عناصر مختلفة، تتكامل أحيانا، وتتناقض أحيانا، وللفروق الشخصية دورها الحاسم في بعض الأحيان، إلا أن الأغلبية تندفع نحو اختيار لا يتجاوز ألوان الانتماء الكبرى.
ولعل مما يناسب أن نختم به هذه السطور هو أن جماهير عريضة في العالم تشجع منتخب البرازيل بحماس، وقد يتعدد الدافع إلى ذلك بتعدد البلاد والثقافات، إلا أن الولاء للفن الكروي الراقي هو دافع مهم في هذا الموضوع، وإن كان فرعيا.
المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
ساحة النقاش