المفاجآت ليست كذلك دائما
بقاء الفكرة

أصحاب القضية

 

المستحيل العقلي لا يقبل التحقق بأي وجه، إلا في عرف بعض أهل "الذوق" ومن شابههم!! وما هذا المعنى أردتُ من استعمال كلمة "المستحيل" في عنوان هذه السطور، وإنما عنيت به هذا الممكنَ البعيد الذي تقول كل الشواهد إنه لن يكون، إلا إذا تصورنا أن طفلا في السابعة من عمره ينشئ من الشعر ما يضاهي قريض المتنبي وشكسبير وموليير!

المفاجآت ليست كذلك دائما
وقد اعتادت الجماعات البشرية في تاريخها الطويل تحقيق "مفاجآت" مدهشة تقلب موازين الأحداث، وتحول مجراها إلى اتجاه مختلف كثيرا عما كان متوقعا لها، فعرفنا "المعجزة اليونانية"، و"اليابانية"، و"المعجزة الألمانية"، و"الصينية"، وكذا "المعجزات الإسلامية"؛ فمجموعة من الجنود المحترفين (دولة المماليك) قبل أكثر من سبعة قرون -مثلا- أوقفت طوفان التتار الذي لم يكن من الممكن أن يقف إلا بجائحة أو خسف من السماء، لكن الخسف والجوائح العامة سُنةٌ كانت قد توقفت قبل ذلك بزمن. وجاءت الجائحة التي أوقفت التتار يقينا وسيفا مملوكيا، والخسفُ الذي صدهم عقلا عسكريا وسياسيا مملوكيا كذلك.

لكن هذه المفاجآت ليست مفاجآت في حقيقتها؛ وإنما بدت كذلك للرائي لأنه لم يكن يدرك ما يجري تحت السطوح وفي الأعماق، فعيناه لا ترقبان إلا سيف هولاكو وجنوده يقتل ويذبح وينشر الخوف، وأذناه لا تسمعان إلا حمحمة غليظة من خيل التتار تهبط بالليل والنهار تتخطف الأرواح من الأجساد، وأناتٍ من صغار وكبار ينتظرون حكم السيف الذي غطوا عينيه حتى لا يشفق على الضحايا.

وأما ما كان يجري هنالك في الأعماق محتجبا عن العيون، فآمال تتقاطع، ورؤى تتزاحم، ودول تدبر، وأخرى تقبل، ونفوس شاخت بعد أن أدت وظيفتها فوق مسرح الأحداث، وأخرى تدفع تعقيداتِ الحياة بمناكبها، وتردّ كوارثها بسواعدها، لا ترى في الموت إلا صديقا لا ينبغي أن تخشاه، وصاحبا لابد أن يأتي يوما فلا داعي لأن ترهبه، حتى ولو ركب سيفَ التتار وخيولهم المرهوبة.

إن ما يجري في الأعماق وتحت السطوح في الحياة الإنسانية، ويؤدي إلى انقلابات و"مفاجآت" في الحياة، لهو أمر يتبع قوانين وسننا في حياة المجتمع لا تقل إعجازا عن القوانين التي تدهشنا في الطبيعة والكون؛ فثمة جدليات اجتماعية وفردية إنسانية تتقاطع عندها الخطى والآمال والرغبات، أو تتلاقى، فيقع التحالف بين ما يتلاقى والتنافسُ بين ما يتقاطع منها، فيتقدم متأخر، ويتأخر متقدم؛ وذلك خلال أدوار ومراحل تقصر أو تطول، لكنها تعكس شخصية الحدث والمشاركين فيه وزمانهم ومكانهم.

قد يكون الرعب هو الذي قتل الآباء والأجداد في سمرقند وبخارى وهمذان والري وبغداد وغيرها في سنة 656هـ وما سبقها، قبل أن تقتلهم سيوف التتار. يقول المؤرخون عن هؤلاء الغزاة حينئذ "كان الناس يخافون منهم خوفا عظيما جدا، حتى إنه دخل رجل منهم إلى درب من هذه البلدة وبه مائة رجل، لم يستطع واحد منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحدا بعد واحد حتى قتل الجميع، ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدربَ وحده. ودخلت امرأة منهم في زي رجل دارًا، فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها، ثم استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها - لعنها الله"!

والرعب رعب إن كان قد سبقه أمان، ولكنه ليس كذلك إن كان قد سبقه رعب مثله، والجوع جوع حين يأتي بعد شبع، ولكنه لا يكون بهذه الوطأة إن كان قد سبقه جوع مثله! وهذا ما عاش فيه الأبناء بعد الآباء في تلك الحقبة، فارتدّت الرهبة من الخوف تحديا له، وهذا هو العبور النفسي للهزيمة، وبعده جاء الإعداد والاستعداد يسابق الزمن المربوط بحوافر الخيل ووقع سنابكها، فبدأ تحوُّل الدفة من معركة عين جالوت (658هـ) في رحاب فلسطين العزيزة، ورخُص العدو في عين المسلمين بعد أن أرخص كلَّ دماء في طريقه طوال عقود من الزمان.

وقد يبدو أن تشبيه المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بالمشروع الاستيطاني الصليبي في بلاد الشام أولى من تشبيهه بالاكتساح المغولي الخطير للعالم الإسلامي. وهذا صحيح تماما، وتبدو انعكاساته المعاصرة واضحة في اهتمام الجامعات العبرية البالغ بدراسة التجربة الصليبية في العالم الإسلامي وأسباب إخفاقها. إلا أن المقصود باستدعاء النموذج المغولي آنفا هو مراقبة الولادة المستحيلة للممكن البعيد من رحم بدا عقيما، والنظر في إمكانية تكرار هذا في فلسطين من جديد.

والحق أن تحقق هذا النوع من "المفاجآت" أو قوانين التدافع بين الجماعات والأمم منوط في كل وقت بشروط؛ لعل أهمها: بقاء الفكرة، وبقاء أصحاب القضية الذين يحملون هذه الفكرة. والله تعالى –قبل ذلك وبعده- يفعل ما يشاء.

بقاء الفكرة
من أكبر الأخطاء التي يمكن أن نقع فيها: إخفاء الحقائق أو تحريفها بزعم أن الظروف ليست مواتية لها، أو أن زمانها ولى وانقضى. فالحقيقة لها واقعان: واقع علمي، وواقع عملي، والواقع العملي قد يتعرض لضغوط يطفو فيها الزيف فوق السطح، وتبقى الحقيقة معها مطمورة. وأما الواقع العلمي للحقيقة فلا يتأثر بالتبدلات والتغيرات، وأضعف الإيمان هو تقريره وإثباته كما هو.

وقد قال المؤرخون عن أحوال المسلمين الصعبة وهم يواجهون أهوال التتار: إنهم "دُفِعوا من العدو إلى أمر عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، وقد عُدِم سلطان المسلمين". ولكن مع هذا القدر الهائل من الصعوبة والتعقيد في الواقع الإسلامي حينئذ لم تمت "الفكرة"، وهي القدرة على البقاء بالذات والهوية والجذور نفسها، فكان من اليسير على المماليك أن يصنعوا بمن بقي معهم من المسلمين لا ما يوقف عنفوان الطوفان فقط، ولكن ما يكسر حدته، ويغير اتجاهه شيئا فشيئا أيضًا.

واليوم تقف القضية الفلسطينية في واقع لعله الأصعب لها منذ بدأت الإرهاصات العملية للمشروع الصهيوني؛ أي طوال قرن تقريبا، فقراءة الواقع الداخلي المباشر (الفلسطيني) والداخلي غير المباشر (العربي) والخارجي القريب (الإسلامي) والخارجي البعيد (العالمي) للقضية تشير إلى تعقد بالغ في خيوطها؛ بحيث تعمل أغلب العوامل المؤثرة في القضية في الاتجاه المضاد لحقوق الشعب الفلسطيني.

والأشد فداحة من هذا، أن ظهور عامل جديد يحيي الأمل الفلسطيني؛ مثل تولي الشعب الفلسطيني بنفسه الدفاع عن حقوقه بصورة موسعة خلال الانتفاضتين وما تلاهما؛ وذلك لأول مرة منذ ثورة 1936، وكذا الصمود المدهش للقطاع الفقير أمام جبروت الآلة العسكرية الإسرائيلية في حرب عام 2009 – هذا وذاك تبعه مباشرة فقد خطير لمكامن أصيلة للقوة في مشروع التحرير؛ مثل وحدة الشعب الفلسطيني، وتجييش إسرائيلي ودولي ضد الحق الفلسطيني لتطويق هذه الخطوات، وكأنهم يحرسون الأقدار أن تأتي بما يكرهون، أو تفاجئهم بما فوجئ به الغزاة الصليبيون والتتار قبل قرون!

وفكرة الحق الفلسطيني مسجلة في الذواكر، متنَاقَلة بين الأجيال، لها رموزها المادية والمعنوية، وموثَّقة تاريخيا وعلميا، ومدعومة بأطر من الدين والقومية، تشهد بها حتى الكتب الدينية اليهودية في كلامها وإشاراتها عن حال أرض كنعان عندما وفد إليها الخليل الجليل إبراهيم (عليه السلام) –كل ذلك في خليط عقلي نفسي حسي يثبت حق الشعوب في ترابها، وحق الإنسان في حقل أبيه ومفتاح داره، ويأبى التسوية بين ما أثبتته الأدلة وما ساقت إليه "الأساطير" والأوهام.

ولعل للقضية الفلسطينية في هذا الصدد خاصية مهمة بين قضايا التحرر في العالم كله؛ إذ إن كل قضية من هذا النوع تجد سندها من الفطرة الإنسانية؛ إذ الإنسان مدفوع بجبلته للدفاع عما في ملكه وحوزته من أشياء، وإلى استرداد ما يُسلَب منه بغير حق قدر طاقته. وهذا أمر لا يمتاز به مشروع التحرير الفلسطيني عن غيره كثيرا، إلا أن هذا المشروع المذكور يمتاز عن غيره بأن المذخور الديني الذي يقف وراءه، يوجب السعي قدر الطاقة والوسع نحو التحرر إيجابا لا يبقى مع التقصير فيه إلا الذنب والإثم العظيم!

أصحاب القضية
من المعروف أن الأفكار لا تعمل بنفسها، ولو كانت تنزيلا سماويا، ولا بد لكي يكون لها تأثير أن تتناولها عقولٌ ونفوس بشرية بالفهم والعمل. وقضية تحرر الشعوب هي من هذا القبيل، وإن احتاجت إلى عمل كثير.

وقد رُزق مشروع التحرير الفلسطيني في مواجهة المشروع الاستيطاني الصهيوني الغربي حظا وافرا من الممثلين والأتباع الحقيقيين في أنحاء العالم، ممن يرون أن حقهم في فلسطين دِين ودَين واجبان، ولا حق لأحد في أن يسقط هذا أو يتنازل عن ذاك. وهذا يمثل للمشروع مادة خاما بشرية لا تنفد، وإن كانت لا تنفي أن الفلسطيني يجب يأتي في مقدمة المشهد، وأن نيابة غيره عنه وتعطيله عن الفعل خطيئة سياسية وعسكرية سابقة أطالت أمد الاحتلال، وأخرت ساعة التحرير إلى دور تاريخي آخر.

وهذا لا ينفي أن الفلسطينيين يصعب جدا أن ينتصروا وحدهم؛ فكل قضايا التحرير بطبيعتها لم تستغن عن عمق تلوذ به، وظهير تستند إليه؛ لأن إزاحة الاحتلال، وليس مجرد إثبات الذات والمصابرة من أجل البقاء في مواجهته – خاصة في حال الاحتلال الاستيطاني – هذه الإزاحة تحتاج إلى أدوات لها قدرة على التجدد لقطع العروق المتصلبة في صخور الوطن.

وأخطر ما يهدد مشروع التحرير الفلسطيني في ممثليه هو محاولات تدجينهم وإخضاعهم لواقع يشعرون أنهم أسرى له، وأنه ليس في الإمكان أبدع منه، وأن المناداة بإسلامية فلسطين وعروبتها لا يمكن أن تغير شيئا من الواقع الثقيل الذي تدعمه أقوال دول العالم وأنظمتها ومنظماتها السياسية.

ولكن أحسب أن الجماهير والنخب لا يمكن أن تنخدع كلها، وإن انطلت الحيلة على كثيرين، فسيبقى من يدعو إلى تصحيح الرؤية وتعديل الوجهة، وأقوى ما يعينه في ذلك حماقات الاحتلال التي يرتكبها وهو يغالب الأقدار الآتية من بعيد!

هناك من المسلمين متحمسون يحملون بالفعل مع رسالة التحرير الخرابَ للعالم، ولكن هؤلاء المتحمسين المندفعين هم أبناء الظلم الطويل الذي حاق بأمتهم على يد السيد الأبيض طوال قرنين من الزمان، وبقي ماثلا في أقوى صوره فوق أرض فلسطين، وخلال السياسات الغربية الظالمة للحق العربي والإسلامي في فلسطين وغيرها.

ولكن هناك أيضا في المسلمين (صلاحدينيون) كثيرون يحملون رسالة التحرير والعفو، وأقصى ما في يدهم لا يتجاوزون به القصاص العادل.

لقد علمتنا السنن الإلهية في الأمم والمجتمعات أن الظلم الجماعي والفردي لا يبقى طويلا، إلا إذا رضي به أصحابه.

المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
  • Currently 120/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
40 تصويتات / 395 مشاهدة
نشرت فى 6 يونيو 2010 بواسطة Drnabill

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,645