جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
في إمكاننا أن نزعم فيما يخص طبيعة العلاقة بين الحضارات، بعد بحور الحبر التي سُكبت، وسلاسل المؤتمرات التي عُقدت في عواصم العالم لمناقشة هذه القضية؛ وهل هي علاقة حوار أم صدام، نزعم أنها علاقة محكومة بمواقف السياسيين والعسكريين في كل عصر، ومدى استعدادهم للاتجاه إلى التفاهم والحوار أو الحرب والصدام؛ إذ لا يوجد في التاريخ حرب يمكن أن نقول إن طرفيها كليهما قد اضطرا إلى خوضها(!!) إلا أن يكونا ضحية لمؤامرة طرف ثالث.
وأما في عقول البشر ووجدانهم، فإن العلاقة بين الحضارات محكومة بنوع من المغالبة الطبيعية بين الثقافات عند اختلاف الرؤى بينها، فثمة سعي تلقائي لكل ثقافة إنسانية –حتى في غياب ممثليها البشريين- إلى السيطرة والظفر بممثلين، أو مزيد من الممثلين الاجتماعيين لها. ويخضع هذا لقوانين اجتماعية ونفسية لا يكاد يكون للجانب الاختياري للإنسان كفرد دور ظاهر فيها.
ما المغالبة الثقافية؟
تشتمل الثقافة على تصورات أصحابها ورؤاهم وتقاليدهم في مختلف المجالات التي يمارسون نشاطهم فيها، ومن هنا كانت الثقافة مشتملة بطبيعتها على أحكام، وهذه الأخيرة لابد أن تترتب عليها مواقف عملية، والمواقف العملية لا تقبل المزاحمة؛ أي أن الفاعل لا يستطيع أن يفعل الفعل ونقيضه معا، وإنْ فعلهما في وقتين مختلفين فلابد أن يكون أحدهما أصلا، والآخر استثناء.
وهذا يعني أن التعدد الثقافي تنشأ عنه جدلية بين طرفين أو أكثر، ولكنها جدلية غير مطردة النتائج؛ فالثقافة الطارئة أو الجديدة على عقل ما لها أحكامها، والقديمة المستقرة فيه من قبلُ كذلك لها أحكامها، وكونهما ثقافتين يعني أنهما لابد أن تختلفا في قليل أو كثير من رؤاهما وأحكامهما؛ إذ الإثنينية يلزم عنها هذا الاختلاف ضرورة.
فإذا دخلت الثقافة الجديدة في سياق إنساني فردي أو اجتماعي طلبت الغلبة وزاحمت سابقتها؛ أي طلبت أن يكون حكمها هو الحكم، وتصورها هو التصور، وقاومتها الأخرى بدورها بأحكامها وتصوراتها. ولا يمكن أن تظل أي منهما ساكنة تماما، إلا إذا افترضنا خلو اللغة التي تعبر عن المعاني، وخلو معطيات الحس، وفي مقدمتها المرئيات والمسموعات، من مضمونها، وتحوُّل الشيء إلى لا شيء، والوجود إلى عدم.
وهذا ما يمكن أن نسميه "المغالبة الثقافية"؛ وتعني هذا السعي التلقائي للثقافة إلى أن تحجز لنفسها في الواقع البشري موقعا، وسعي ثقافة مقابلة لها –في الوقت نفسه- إلى الدفاع عن نفسها، وتشبُّثها بالبقاء في عقل من العقول أو مجتمع من المجتمعات.
وعدم اضطراد نتيجة هذه المغالبة الثقافية يكشف عن واحد من قوانين التفاعل الثقافي المهمة؛ وذلك لأن عوامل معقدة جدا هي التي تحدد النتيجة، ولا يقوم الحسم في هذا الجانب على قوة الثقافة وحدها، بل تتدخل فيه عوامل أخرى كما سيأتي.
كذلك فإن الثقافة لا يمكنها أن تزحف في فراغ ثقافي تام؛ ولذلك لابد أن تلقى مقاومة ما. وتبدو وضعية المجتمع البشري الأول حالة فريدة وغريبة في ضوء هذا المعنى؛ لأن الإنسان القديم حين تكوَّن مجتمعه الأول كان مزوَّدا ببعض التعاليم الإلهية خلال حياة سيطرت عليها البساطة، وخلت من رصيد عملي سالف يرتبط بالأرض.
وفي ضوء المغالبة الثقافية تحدث عملية "مثاقفة" اضطرارية بين طرفين، لا مجرد "تثقيف" خالص من طرف لآخر، حتى بدون اعتبار أحيانا لموازين القوى الذاتية والاجتماعية والمعرفية التي تتفوق بها ثقافة على أخرى، وهذا ما يمكن معاينته من تأثر ثقافة الحداثة –الأكثر سيطرة في التاريخ- في عقر دارها بتيارات دينية وفكرية شرقية خالصة لا زلت تتسع حصتها في أوساط الجمهور الغربي.
وفي عصر المعلومات حدثت عولمة نسبية لكثير من الثقافات، وليس للحداثة وحدها؛ فقد خرجت الديانات والثقافات العتيقة من مكامنها، وانتشر ممثلوها في حواضر العالم المتقدم (مثل: الهندوسية، والبوذية، والزردشتية)، فضلا عن أوطانها الأولى، وزالت السرية عن كثير منها، وأتاحت لنا مواقع الإنترنت والفضائيات أخيرا التعرف المباشر على ديانات وقوميات وثقافات كانت في الماضي القريب محاطة بالأسرار (كالنصيرية والسريانية واليزيدية والزردشتية)، والمعرِّف هنا هم أصحاب هذه الثقافات والديانات أنفسهم، وهم يفعلون ذلك في حماسة شديدة عادةً.
ووقوع "المثاقفة الاضطرارية" التي أشرت إليها له حالات شتى؛ أغربها أن يلم الرجل بثقافات متعددة يكبح جماحها جميعا عن السيطرة على سلوكه إلا واحدة، وكأنها، إلا هذه الواحدة، كائنات فضائية لا تصلح للعيش في عالمه، غير أنه لا يُعدَم تأثيرها عليه على أي حال، ولو في طريقة تفكيره. وقد ورد في كتب التراجم أن أهل الذمة كانوا يقرأون على كمال الدين بن يونس (ت 639هـ) "التوراة والإنجيل، ويشرح لهما هذين الكتابين شرحا يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله"! إضافة إلى ما ألم به ابن يونس من ثقافة إسلامية ويونانية.
أسباب الإزاحة الثقافية
ثمة أسباب تؤدي إلى إزاحة ثقافة لثقافة أخرى جزئيا أو كليا أثناء المغالبة والتنافس على عقول الأفراد أو الجماعات، ولعل أهم هذه الأسباب تتمثل فيما يلي:
أ- طبيعة الثقافة: الخصائص الذاتية للثقافة هي التي تحدد طبيعتها، ويتمثل ذلك في انفتاحها أو انغلاقها، وكونها عملية أو نظرية أو جامعة لكليهما، وهل هي دينية أو دنيوية أو جامعة لهما؟ وما موقفها من الروح والعقل والحرية؟ وهل هي متجاوزة لبيئتها أو مرهونة بها وبمعطياتها؟
إن خصائص معينة في الثقافة نفسها قد تتيح لها قدرا أكبر من التفوق عند التنافس على العقول؛ ومن ذلك: كونها واضحة ومتاحة للعقل المتوسط والعامي اللذين يمثلان الأغلبية في أي مجتمع إنساني، وكونها قادرة على الاستجابة لمطالب نفسية واجتماعية ومعرفية لدى الإنسان كإنسان، وتوفيرها الوسائل الميسِّرة لمعيشة النوع الإنساني فوق الأرض، واتساع نطاقها بحيث تشمل الجوانب الرئيسة على الأقل في حراك الإنسان الفردي والجماعي.
ولأهمية هذا العامل قد يُظن أن طبيعة الثقافة هي العامل الحاسم الوحيد في ضمان انتشارها أو انحسارها؛ إلا أن فرص انتشار ثقافة ما لا ترجع فقط إلى هذا الجانب، وإن كان له تأثير كبير في المسألة؛ فالثقافة التي تستجيب لمطالب بيئة واحدة لا يسهل عليها أن تخترق بيئتها إلى غيرها مهما كانت قوية، والثقافة المغلقة التي يربطها أصحابها بعرق معين دون غيره (كالثقافة اليهودية، والهندوسية قبل العصر الحديث) ليس من اليسير عليها أن تعبر حدود العِرق أو القومية إلا بعد تحطيم الأسوار المصطنعة حولها بيد أصحابها أنفسهم قبل غيرهم.
ب- وسائل عبور الثقافة: وهنا يأتي دور الوسائل التي تعْبر عليها الثقافة إلى العقول، فعلى الرغم من أن هذه الوسائل لا تشترِط في الثقافة المنقولة خلالها أصالة أو عدم أصالة، إلا أن لها تأثيرا كبيرا في الترويج لها.
ومن أهم وسائل نقل الثقافة: الاحتكاك الاجتماعي، والإعلام، والكتاب. وإذا كان الإعلام أحدث هذه الوسائل، فهو أيضًا أوسعها مدى، وأكثرها قدرة على الاختراق والوصول إلى كل الشرائح الاجتماعية في العالم بمختلف اهتماماتها وتفاوت مستويات الوعي لديها.
ومع هذا لا يبدو أن الإعلام في ذاته هو أعمق هذه الوسائل تأثيرا، وإن كان يقدم في بعض الأحيان صورة حداثية للكتاب (من خلال إتاحة الصور الأصلية للكتب على الحاسوب، وكذلك برامج القراءة التلفزيونية في المؤلفات مثلا) والاحتكاك الاجتماعي (من خلال الأعمال الدرامية والأفلام التسجيلية مثلا) على السواء، فيمكنه لهذا أن يكتسب بعض عمقهما التأثيري، كما أن القدرة الهائلة للإعلام على التكرار والتنويع تترك آثارا انقلابية عميقة في الثقافة في كثير من الأحيان.
ويبدو الإنسان حامل الثقافة هو الوسيلة الاجتماعية لنقل ثقافته، إذا لم يستهدف هذا النقل قصدا، وأما إذا قصده فيصبح النقل هنا علميا أو إعلاميا؛ خاصة إذا أظهر قدرة على اختراق الحواجز النفسية والقُطرية التي تقوم في وجه ثقافته.
وقد تملك بعض الثقافات قدرة على "الانتشار الذاتي"، كما يُعبَّر أحيانا عن انتشار الإسلام بدون أي جهد من المسلمين في بعض البيئات، وعن إحياء ثقافات قديمة اندثر أصحابها، ولم يبق منها إلا بعض الآثار –إلا أن هذا وأمثاله لا يعني غياب الوسائل تماما، وإن كان قد يعني تواضعها مقارنة بالوسائل الحديثة مثلا.
ج- وضعية مستقبِل التأثير: من أسباب اختلاف نتيجة المؤثر الواحد من حالة إلى أخرى، إلى درجة التناقض أحيانا: تباين استعدادات المتلقين العقلية والنفسية، بحيث يرى بعضهم سطح الحدث أو الظاهرة ويرى بعضهم عمقه، وبحيث تكون لدى بعضهم استعدادات نفسية لو أُشبعت لضحى بعقله وقناعاته من أجلها، في مقابل آخرين لا يقبلون خُدَع الإشباع النفسي التي مورست باحتراف شديد مثلا مع كثير من المبتعثين المسلمين للدراسة في الجامعات الغربية منذ القرن التاسع عشر، فرجعوا أبواقا للثقافة الغربية الحديثة بأصولها وفروعها أحيانا.
إن مالك بن نبي وسيد قطب وعلي شريعتي أمثلة مهمة لمعايشة الظاهرة الغربية في عقر دارها، والعودة بعدها بصدمة لا ترى في هذه الظاهرة سوى مجموعة من التناقضات توشك أن تقضي على نفسها بنفسها. إلا أن هناك –في المقابل- نماذج كثيرة من مفكرينا تماهت في الثقافة الغربية، حتى بدت وكأنها غيرت بطاقة هويتها، بل استبدلت بالتربة التي كانت جذورها مغروسة فيها تربة أخرى مختلفة.
وأخيرا، فإن ما ورد عن بعض أسلافنا من النهي عن تعلم الفلسفة والعلوم العقلية قبل التشبع بالشرعيات، ينم عن إدراكهم العميق للمغالبة الثقافية، ويكشف أيضًا عن إدراكهم أن تمكن ثقافة جديدة في عقل ما ينم عن ضعف المستقبِل في استيعاب ثقافته أو ضعف ثقافته نفسها، ومن ذلك ما أورده المؤرخون عن شمس الدين الأصبهاني (ت 688هـ) أنه "كان من دينه أن الطالب إذا أراد أن يقرأ عليه الفلسفة ينهاه، ويقول: لا حتى تمتزج بالشرعيات امتزاجا حقيقيا جيدا".
المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
ساحة النقاش