جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
ربما لا يكون الوقت مناسبًا لأي نوع من الوقفات المتأنية والهادئة لفهم الواقع في غزة وعموم القضية الفلسطينية، خاصة مع الهجمات الإسرائيلية الشرسة على القطاع الصامد، فلم يكتف صناع السياسة والقتل في إسرائيل بتشديد الحصار على غزة وتجويع أهلها، بل أضافوا إلى هذه الجريمة جريمةً أشد وحشية تتمثل في هذا السفك الواسع للدم الفلسطيني.
إلا أن من يريد البقاء في أي نوع من الصراع لابد أن يفهم بصورة جيدة مبادئ الصراع العامة وأصوله التي تحكمه، وألا يغفل عن هذا بسبب سخونة مشهد أو آخر؛ لأن مشروعات المقاومة والتحرر الوطني ليست مجرد جولة ينتهي فيها كل شيء، بل هي سلسلة متتابعة من الجولات التي قد تنتهي بالاستقلال، أو تؤدي إلى تشكيل كيان توليفي تزاوجي جديد، وذلك حسب مجموعة متداخلة من العوامل والظروف الخاصة بكل قضية تحريرية.
ولعل الجانب النفسي في مشروعات المقاومة والتحرير الوطني في حاجة إلى إيضاح؛ إذ إنه مَعْقِد مهم من معاقد النجاح –الكلي أو الجزئي- التي حققتها جميع حركات التحرير في التاريخ المعاصر، وهو أمر يرجِّح بقوة نجاح مشروع التحرير الفلسطيني -في المدى المتوسط أو البعيد- في مواجهة المشروع الصهيوني الغربي.
فمتى يولد أي مشروع للمقاومة في عقول أصحابه؟ وهل يولد كاملا من البداية؟ وما العوامل التي تنضجه وتعمق وجوده فيهم؟ وهل يُفتَرَض أن يكون كل أفراد المجتمع المقاوِم على صورة واحدة من تبني هذا المشروع؟
ولا أريد أن أتجاوز في الإجابة عن هذه الأسئلة المحورية في مشروعات التحرير والاستقلال حدود الفعل النفسي والانفعال الناتج عن تطورات الواقع، ومن هذه الناحية نجد أن مشروع استرداد الحق عمومًا ينشأ في نفس الإنسان وقت اغتصاب هذا الحق منه، ففي اللحظة التي يشرع فيها اللص في خطف حقيبتك يتشكل لديك الانفعال الطبيعي والاستعداد العملي للمصاولة على الحقيبة، بل إنك تدخل معه منذ بدء احتكاكه بك وتعرفك على هدفه نوعًا من الصراع حول حقيبتك، حسب درجة امتصاصك للصدمة أو استيعابك للمفاجأة.
والإنسان مدفوع إلى هذا بقوة فطرية مغروسة فيه، ولولاها لوقع في تناقض صارخ مع نفسه، أو لَمَا انسجم مع ذاته؛ إذ إن ملكيتي للشيء ملكيةً شخصية تعني ضرورة أن يكون في حوزتي، وألا أمكِّن منه أحدًا بغير المعاملات الحرة المألوفة بين الناس، والقائمة أساسًا على الرضا، كالبيع والشراء والهبة والصدقة، وهي دائما معاملات تحتفظ للذات المعطية بالندية -على الأقل- مع الطرف الآخر.
والحق أن مقاومة الغاصب، والسعي إلى استرداد الحق منه -حتى في هذا المثال البسيط- قد تتطور من شكل إلى آخر تبعًا للقوة التفاعلية لصاحب الحق ومدى قدرته على توظيف قدراته الخاصة وإشراك عناصر أخرى مساعدة له في معركته مع اللص.
وإذا حُسمت معركة الحقيبة لصالح الغاصب، فإن هذا لا يعني انتهاء مشروع البحث عن الحق في نفس صاحبها، والمشكلة فقط تبدو في الواقع الذي ربما لا يتيح له أن يخرج مشروعه المقاوِم إلى الفعل.
ولعل قصة المثل الشهير "الحديث ذو شجون" تكشف عن هذا بجلاء تام، فيروون أن سُعَيد بن ضَبَّة بن أد المُضَري قُتل قبل الإسلام وغُصبت ثيابه، ولم يمنع أباه من الثأر له إلا أنه لم يعرف قاتله.
وبعد زمن حجَّ ضَبَّة إلى مكة، "فلقي بها الحارث بن كعب، ورأى عليه بُرْدَيْ ابنه سُعيد، فعرفهما، فقال له: هل أنت مُخْبِرِي ما هذان البردان اللذان عليك؟ قال: بلى، لقيتُ غلاما وهما عليه فسألتهُ إياهما فأبى علي، فقتلته وأخذتُ بُرْدَيه هذين! فقال ضبة: بسيفك هذا؟! قال: نعم. فقال: فأعْطِنِيه أنظر إليه فإني أظنه صارما، فأعطاه الحارث سيفه، فلما أخَذَه من يده هَزَّهُ وقال: الحديثُ ذو شجون، ثم ضربه بِهِ حتى قتله".
والقصة قريبة من الواقع، ويرى الناس أمثالها في حياتهم كثيرًا؛ إذ إن عجز الرجل عن الثأر لابنه بسبب المانع الخارجي لم يعنِ أن الفكرة قد ماتت في نفسه. ويكفي أن نعلم أن أحد الناس في صعيد مصر قد أخذ بثأر عمه بعد ستين سنة من قتله؛ وذلك حين توفرت في الواقع عناصر متكاملة مكنت صاحب الثأر من ثأره.
والحقيقة أن هذه الأمثلة على بساطتها تعكس المعاني نفسها التي يعكسها أي مشروع وطني تحرري في نفس الطرف المقاوِم، إلا أن المسألة تتعقد كثيرًا حينما تكون الحقوق المغتصبة حقوق مجتمع؛ إذ إن ما يملكه كل فرد في وطنه مثلا -سوى خصوصياته- هو شيء غير محدَّد في الحقيقة، ومن هنا فكل مواطن يملك كل شيء عامٍّ في وطنه؛ الأرض والسهل والجبل والنهر والبحر والثروة والسلطة والحدود، وليس من حقه فردًا كان أو جماعة -مع هذا- أن يتنازل عن شيء منها، فاحتاج الأمر إلى دعمٍ من عامل خارجي؛ إذ إن النفس الإنسانية تفرق بين ما تملكه بشكل محدد، وما تملكه مشتركًا مع غيرها.
وهنا تتدخل التعاليم الدينية والأفكار الوطنية كذلك، لا لتنشئ قوة الدفاع عن هذه الحقوق في نفوس أصحابها، فقد كفتها الفطرة هذا الواجب الخطير، ولكن لتحدث نوعًا من التوازن الذي لا يقتل الطبع ولا يدعه ينطلق بلا حساب: "... وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا"، "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ…"، ويُترَك لصاحب الحق الفردي بعد ذلك أن يتنازل عن حقه إن شاء، غير أن المستفاد عمومًا هو ألا يُكرَه الفرد -ولو من حاكمه- على العفو عن حقه، بل قد يُكرَه –كما يترجح لدى الفقهاء– على العقوبة، وذلك إذا كان مغتصب الحق معروفًا بإجرامه معتادًا على التعدي على حقوق غيره.
فهنا تكون للدين وظيفة أخرى غير دعوة الناس إلى حفظ ممتلكاتهم الشخصية، وهي وضع هذه المعاملة في إطار عام، وتحويل الحق الاختياري في حفظ الحقوق في بعض الأحيان إلى واجب، وتأكيد الرابطة بين حفظ المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وهو ما ينطبق تمامًا على حفظ الحقوق الوطنية للأمة، فكما أنه لا يجوز لولي المقتول أن يعفو عن القاتل الذي اعتاد القتل، وسبق أن عُفي عنه من قبل، فكذلك يصبح الذود عن الحقوق العامة ليس مجرد حق بل هو واجب؛ وذلك لما في التفريط في هذا الواجب من ضياع كل شيء، ومكافأة المعتدي بالسكوت على اعتدائه.
وهنا نجد أن المبالغة في السماحة التي امتازت بها بعض الأديان – كالبوذية مثلا – لم تكن واقعية، حيث تجاوزها أتباع هذه الأديان بالفعل في واقع الحياة؛ لما هنالك من فرق شاسع بين السماحة وبين حفظ الحقوق وردع المعتدين.
إننا نستطيع –في ضوء هذا– أن نفهم أن المشروع التحريري الفلسطيني بضيقه واتساعه مشروع قديم وذو فصول متتابعة، وأنه بدأ منذ ظهر المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين نظريًّا، وتطور مشروع التحرير -مع تطور واقع الفاعلين في القضية الفلسطينية- في عقول المهجَّرين وداخلَ مخيمات اللاجئين في الداخل والجوار والشتات، وعلى وقع القصف وبين ركام الهدم، بل تعمق في نفوسهم على أنغام هذه المآسي الحزينة، وكأنها محاضن ضرورية لولادة الفكرة قويةً.
وقد قفز هذا المشروع إلى الواقع في صور مجموعات نضالية (المنظمات الفلسطينية القديمة والجديدة)، وفي صور أفراد يتحركون بالفكرة ويسوقونها (الخطباء والفنانين والأدباء الفلسطينيين)، وكل يؤدي دورًا، إلا أن انتهاء فصل من المشروع الفلسطيني التحريري لا يعني بالضرورة انتهاء المشروع نفسه؛ فحتى لو حال الواقع دون فعل تحريري كامل، فإن بقاء المشروع في نفوس أصحابه (فلسطينيين وغير فلسطينيين) كفيل بأن يضمن عودته إلى الواقع من جديد.
ولهذا فإن تدريس التاريخ لتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات في البلاد العربية والإسلامية بصورة تجعل إسرائيل صديقة لنا، وتمحو من الذاكرة حقوق الأمة في أرض فلسطين؛ هو أشد خطورة على القضية الفلسطينية من كل صواريخ إسرائيل ودباباتها.
وكان من الممكن للأجيال الفلسطينية الجديدة التي سمعت عن التهجير ولم تشهده، وحُكيت لها أحداث النكبة ولم تحضرها، كان من الممكن أن تكون صورة المشروع التحريري الفلسطيني في ذهنها أقل قوة مما هي عليه الآن، إلا أن صناعة الحرب في إسرائيل أبت إلا أن تدعم مشروع التحرير الفلسطيني بمزيد من الدماء والتعدي على الحق الفلسطيني في العيش والأرض من وقت إلى آخر، دون أن تدري أن مزيدًا من الانفعال الفلسطيني بالدماء والخراب لا يعني أبدًا تأديب الفلسطينيين –كما يطمع فيه الطرف الإسرائيلي– ولكن مزيدًا من التبييت للثأر للقديم والجديد، ثأرا منصفا للنهر والبحر، والسهل والجبل، والبرتقال والزيتون.
إن التفاوض قد يقتل أو يؤجل على الأقل جزءًا من مشروع التحرير لأي وطن، أما المقاومة فهي –لأنها عالية الثمن– تأبى في العادة إلا كامل الحقوق. والجمع بين التفاوض والمقاومة هو حل زمني ممتاز تضطر إليه أطراف الصراع في كثير من الأحيان، إذ يرى كل طرف فيه فرصة لالتقاط الأنفاس، أو الحصول على بعض المكاسب بثمن أقل.
وأخيرًا لكي لا يقتلنا الحزن، فإن مقارنة سريعة بين واقع القضية الفلسطينية الآن وبين واقعها عقب النكبة وعقب حرب يونيو 1967 يفيد أن وضعها الحالي –ومنذ الانتفاضة الأولى بالتحديد- أفضل من الوضعين السابقين، على الرغم من أن القضية تمر الآن في حقل من الألغام؛ والسبب في هذه المفاضلة هو:
- أن المقاوم الفلسطيني يملك قدرة على الفعل قد تبدو الآن ضعيفة، لكنه لم يكن يملكها من قبل أصلا.
- كما أن آباء إسرائيل الكبار –وآخرهم شارون- قد ماتوا في الواقع دون أن تلد الدولة العبرية كفاءات مثلهم.
- إضافة إلى أن جميع المحللين الاقتصاديين والسياسيين يتوقعون أن تغير الأزمة المالية العالمية الحالية من ميزان القوى في العالم، وهو ما قد يرد أميركا –الظهير القوي لإسرائيل- إلى كثير من الانزواء الذي كانت عليه قبل الحربين العالميتين.
قيل: "غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله. وولَّى أبو مسلم (الخراساني) رجلاً ناحيةً فقال له: إياك وغضبة السِّفْلة فإنها في ألسنتها، وعليك بغضبة الأشراف فإنها تظهر في أفعالها".
المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
ساحة النقاش