طبيعة الزيارة
البابا وإسرائيل

البابا والمسيحيون الشرقيون

في زيارته للأردن والضفة وإسرائيل لماذا لم يُرضِ البابا بنديكت السادس عشر أحدًا من الأطراف التي تعنيها زيارته؟ لا الإسرائيليين ولا الفلسطينيين ولا مسيحيي الشرق ولا عموم المسلمين؟

أما الإسرائيليون فقالوا إنه لم يعتذر عن صمت الكنيسة على المحرقة النازية التي لحقت باليهود، وأضاع فرصة تاريخية لفعل ذلك، وحاولوا التفتيش – أثناء الزيارة - عن ماضيه، واتهموه من جديد بالانتماء منذ عقود طويلة إلى الشبيبة الهتلرية.

وأما الفلسطينيون وعموم المسلمين فسبب غضبهم على البابا أنه لم يعتذر وهو ضيف عليهم عن إساءته إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم– التي صدرت عن البابا أثناء إلقائه محاضرة شهيرة في جامعة ريجينسبرج الألمانية أواخر عام 2006، كما أنه أعطى بزياراته ولقاءاته الودود مع الإسرائيليين –حسب الرؤية الفلسطينية والإسلامية عموما- الشرعيةَ لجرائم الاحتلال في الأرض الفلسطينية، ولم يراع شيئًا من الآلام التي يعانيها الفلسطينيون تحت الاحتلال إلا بعبارات إنشائية ودعوات لا تأثير لها.

وأما مسيحيو الشرق غير الكاثوليك، فقد نظروا إلى الزيارة في مجملهم باعتبارها محاولة من البابا لا تخلو من مداهنة ومراوغة لتأكيد زعامته غير المجمع عليها للمسيحيين في العالم.

لكن يبدو أننا لا نحسن التوقع، أو نحسنه ولكننا لا نصدق المواقف حين تصير واقعًا فعليا لا يرضينا، فسارعت كل الأطراف إلى انتقاد الزائر الغربي، على الرغم من أن ثمة اعتبارات وخطوطا معينة تحكم تصرفات البابا –كأي إنسان يشغل منصبا مهما- بعضها سياسي وبعضها ديني يمكن أن نفسر بها مواقفه فتبدو طبيعية تماما؛ فهو لم يأت ليمنح "الغفران" للجميع، ولا حتى ليطلب الغفران من الجميع؛ خاصة أنه يسير في هذه الزيارة على خطوط متناقضة، بحيث لا يمكنه أن يُرضي طرفا إلا إذا أسخط الآخر، كما لا يمكنه أن يعطي من ذاته إلى الدرجة التي تبديه ضعيفًا واهنًا، أي أن ذاته صارت طرفًا آخر في تلك الأحجية الغريبة.

طبيعة الزيارة
المشهد مدهش بلا شك، البابا بنديكت السادس عشر رجل مسيحي غربي ذو منصب مرموق، جاء إلى منطقة تشهد صراعا "سياسيا" حادًّا بين طرف يهودي الديانة غربي العرق -في قوته الضاربة على الأقل- وآخر تمثله شراكة ذات أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية شرقية.

وللصراع نفسه –مع هذا- بُعد ديني قسري، أي لا يمكن غض الطرف عنه، والأساس الأول لهذا البعد هو الأرض التي يدور الصراع حولها بما حوته من تراث ديني له امتداد عميق في التاريخ.

ولم يتركنا البابا لتخمين دوافع رحلته المثيرة، فعبر في لقائه بمفتي القدس عن طبيعة زيارته قائلا: "جئت القدس في حج إيمان". وقد يظن بعضنا أن الرجل يخبئ وراء كلمته هذه أهدافًا أخرى تتعلق بدعم سياسي يقدمه لإسرائيل أو ما شابه ذلك، لكن هذا قد يصدق على رئيس أميركي جديد يريد بالزيارة أن يؤكد صداقته لإسرائيل، أو قديم يقصد دعم تل أبيب في منعطف تاريخي، لكننا هذه المرة أمام زعيم ديني يرأس أكبر كتلة متدينة في العالم تجتمع تحت زعيم واحد.

غير أننا لا ينبغي أن نفهم "حج الإيمان" هذا بصورته الساذجة؛ لأن البابا الذي جاوز الثمانين من عمره لم يكن ليتجشم عناء المرور خلال هذه الخطوط الساخنة دون أن يكون لرحلته هدف كبير يتعلق بالطائفة التي يرأسها، ويبدو لي أنه أراد دعم الوجود الكاثوليكي في الشرق، خاصة القارة الآسيوية، وهي زاوية دينية تعبر عن لون آخر من طمع الغرب في الشرق وتكمل الرؤية السياسية والاقتصادية التي تعبر عن هذا الطمع من زوايا أخرى.

ويأتي هذا الدعم البابوي في ظل تنامي الوجود السياسي للكاثوليك في الشرق، فإضافة إلى وجود دولتين ذواتي أغلبية كاثوليكية في قارة آسيا (الفلبين وتيمور الشرقية)، تشهد بعض الدول ذات المستقبل السياسي والاقتصادي الواعد في العالم، خاصة الصين والهند، تقدمًا سريعًا للكاثوليكية.

لقد كتب البابا بنديكت السادس عشر رسالة مطولة إلى رؤساء الكنيسة الكاثوليكية في الصين يحدد فيها إستراتيجية للتوافق مع الظروف الضاغطة في بلادهم، ومن الأقوال الدالة جدًّا في هذا السياق مما تضمنته هذه الرسالة قوله: "كما أن الألفية المسيحية الأولى تميّزت بزرع الصليب في أوروبا، والألفية الثانية في أميركا وأفريقيا، كذلك في الألفية الثالثة سيتمّ جمع حصاد إيمان كبير في القارة الآسيوية (قارة المسيح) المترامية الأطراف والحية".

ولعل الزيارة التي قام بها البابا لبعض البلدان الأفريقية قبل شهرين تؤكد هذا التحليل أكثر؛ حيث أراد أن يحقق دفعا أكبر للكاثوليكية في أفريقيا التي بدت أرضًا واعدة جدا بالنسبة لتقدم الكنيسة الرومانية في العالم، إلا أن الزيارة لم تحظ باهتمام إعلامي واسع كالذي حظيت به زيارته الحالية لـ"الأرض المقدسة".

البابا وإسرائيل
في ضوء هذا لابد أن نفهم أن مواقف البابا من إسرائيل هي مواقف ذات منطلقات دينية تخدم طائفته وتوجهاته العقدية أساسا، لكن بسبب إشكالية إسرائيل ككيان سياسي وعلاقة اليهود الدينية بجميع الطوائف المسيحية كان لابد لمواقف البابا إزاء تل أبيب من لون سياسي.

والحقيقة أن هناك مقولتين تحكمان نظرة المسيحيين في العالم إلى اليهود عامة وإلى الدولة العبرية خاصة، المقولة الأولى هي كونهم "شعب التوراة"، والثانية أنهم "قتلة المسيح" -حسب الاعتقاد المسيحي المشترك– ولا يمكن الجمع بين المقولتين في فكر واحد؛ ولأجل هذا اقتسمت الكنائس في العالم هاتين المقولتين فيما بينها، فكانت الأولى من نصيب البروتستانت أولا ثم الكاثوليك، والثانية من نصيب أغلب كنائس الشرق.

لأجل هذا لم يطق الفاتيكان المعاصر الجمع بين المقولتين المتناقضتين، فصدرت وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح -عليه السلام- بعد أن وقع عليها البابا يوحنا الثالث والعشرون، سنة 1965 في أعقاب جدل عاصف حولها، وتجاوز الموقعون نصوصًا دينية صريحة لديهم، في براغماتية دينية أعادت تفسير الكتاب المقدس أو رهنته لظرف سياسي قد يتغير في مرحلة تاريخية أو أخرى.

وإذا كان كثير من النشاط الديني البروتستانتي قد تماهى في الاتجاهات الصهيونية الحديثة، فقد يكون هذا موقفا ثابتا للبروتستانت منذ أن ألّف مارتن لوثر كتابه "عيسى وُلد يهوديًا"، أما الكنيسة الكاثوليكية فقد فرض عليها الموقف الديني القديم تبني رؤى متعصبة ضد اليهود "قتلة المسيح"، لكن الموقف الجديد ألزمهم بأن يقفوا مواقف إيجابية تجاه "شعب التوراة".

وليس سرا –في ظل هذا- أن أخطر الأبواب التي يسوَّق بها لدولة إسرائيل بين أتباع الكنائس الشرقية –خاصة في المهجر الغربي– هو تذويب مقولة "قتلة المسيح" في الذاكرة المسيحية لصالح مقولة "شعب التوراة"، وسط ضباب الدعاية الكثيف حول اضطهاد المسلمين للأقليات المسيحية في بلادهم.

لكن إذا كان الأمر بهذا التصور، فلماذا لم يعتذر البابا عن موقف الكنيسة من المحرقة النازية مع ما في هذا من تأييد لشعب التوراة؟ والجواب يكمن فيما ذكرته من قبل عن حضور الذات المسيحية الكاثوليكية في المشهد، فقد جاء الرجل يصرخ من الأرض المقدسة: نحن هنا في العالم، ولابد لأجل هذا أن يبدو شامخا في عين أتباعه (الذين يؤمنون بقدسيته وعصمته من الخطأ) قبل غيرهم، ولا داعي لأي استجداء أو طلب للغفران يظهره على شيء من المهانة أو الضعف.

وفي المقابل، فإن أي موقف من شأنه أن يمثل دعمًا لخصوم "شعب التوراة" أو يظهر البابا ضعيفًا كان لابد للرجل أن يتجنبه، وفي ضوء هذا نفهم إباءه الاعتذار عن سابق إساءته إلى النبي محمد –عليه الصلاة والسلام– وشجْبَ الممارسات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة أرضًا وشعبًا.

وقد كانت كلمة الشيخ تيسير التميمي –قاضي قضاة فلسطين- أمام البابا مسبارًا ممتازًا لقياس اتجاه المواقف البابوية؛ إذ دعت كلمته "الحبر الأعظم" باسم "الإله الواحد" إلى إدانة "جرائم" إسرائيل ضد الفلسطينيين، لكنْ حتى هذا بدا تعديا وهجومًا على "شعب التوراة" سارع الفاتيكان إلى إدانته.

البابا والمسيحيون الشرقيون
يقدم البابا نفسه في خطاباته قائلا "بصفتي خليفة لبطرس وراعي الكنيسة الكونية"، كما يعتبر الفاتيكان "أن الطوائف المسيحية خارج الكاثوليكية ليست كنائس مكتملة الأركان" حسب وثيقة كاثوليكية مثيرة للجدل صدرت عام 2007.

وحقيقة لا يقتصر الفرق بين رجال الدين المسيحي الكاثوليك وجمهرة المسيحيين في الشرق على وجود اللحية وعدمه كما يمكن ملاحظته، بل تضاف إلى ذلك اختلافات معروفة في فهم وتفسير المقولات الأساسية للدين وتوجيه نصوص "الكتاب المقدس" هذه الوجهة أو تلك، لكن ادعاء إحدى الكنائس أنها تحتكر الحقيقة المسيحية كاملة –كما فعل الفاتيكان- دون بقية كنائس العالم من شأنه أن يثير أزمة ثقة بل صراعا على الشرعية بين الكنائس المسيحية المختلفة.

وقد تجسد بعض هذا الصراع قبل عقود طويلة حين أنشأ المسيحيون الرافضون لسلطة بابا الفاتيكان على مسيحيي العالم ما يسمى بمجلس الكنائس العالمي عام 1948.

يضاف إلى هذا أن "الوجود الكاثوليكي في الشرق أدى إلى صعوبات جديدة في العلاقات بين الكنائس" كما اعترفت رسالة مهمة في هذا الشأن أصدرها مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك تحت عنوان "الطوائف المسيحيّة: من أين.. وإلى أين؟".

فبعد أن كان الخلاف بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الشرقية يدور في محيط الفكر والاعتقاد، اتسع وصار العنصر المكاني أحد الأبعاد التي تزيد منه، خاصة في ظل حركة التبشير بالمسيحية الغربية في الشرق على حساب الأديان الشرقية عمومًا.

يبقى جوهر الموقف البابوي من الكنائس الشرقية غير التابعة له إذن شبيها بجوهر موقفه من المسلمين، ففي الوقت الذي لا تملك فيه هذه الكنائس موقعًا سياسيا يدفع البابا إلى مجاملة أصحابها، فإنهم لا يبدون في رأيه إلا مسيحيين من الدرجة الثانية وربما الثالثة.

المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 95 مشاهدة
نشرت فى 14 مايو 2010 بواسطة Drnabill

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,644