حسابات المقاومة
الدعم السلبي
مرحلة في الصراع

بعد هذا, هل يجب أن تستمر المقاومة الفلسطينية، أم الواجب أن تتوقف؟.. سؤال بات محيِّرا ومتعدد الإجابات ومتأثرا في كل حال بالوضع الذي تحياه القضية الفلسطينية من لحظة إلى أخرى.

ولكل إجابة على السؤال اعتباراتها؛ ففي استمرار المقاومة استمرار الحصار والتجويع والقصف والقتل الإسرائيلي، لكن في توقفها ضياع الأرض والعرض والتاريخ والجغرافيا، بل الماضي والحاضر والمستقبل.

نعم، في بقاء المقاومة الفلسطينية في هذه الأجواء الدولية الجائرة بقاء للسخط والمقاطعة الدولية، لكن استمرارها يمنع تمرير مشاريع إنهاء القضية لصالح الطرف الأقوى، الذي ليس له في فلسطين من الحق إلا مثل ما للبوذيين في الفاتيكان!

وأيضًا مع بقاء المقاومة ستبقى البذرة التي تتحول إلى شجرة للمجد في كل مشروع تحريري، وفي انتهائها ستموت القضية خلال جيل أو جيلين، وسينساها أصحابها أنفسهم في أجواء الغربة والتعويم العولمي وتذويب الثقافات والهويات.
للمقاومة في أي قضية تحريرية حسابات تتعلق بالغاية والوسائل، فما دامت الوسيلة تقرِّب من الغاية، أو تحول دون إلغائها، أو تضعف قدرة الخصم على الصعود في درج التمكن من فرض موقفه، فليس لأحد أن ينتقد مقاومًا لأنه صمد ولم يستسلم، أو لأنه مات ولم يحيَ يئن أنين العبيد.

ووفقًا لهذه الحسابات، فإن الأمم العاقلة لا تلوم أبناءها على تضحياتهم، ولا تتبرأ من شهدائها، بل إنها تعد لحظات التضحية أعظم صفحات مجدها، وتضع شهداءها فوق هامتها، وتعد حاضرها الحر ابنًا شرعيًا لتضحيات أبنائها ومقاومتهم للاحتلال والظلم.

وسل في ذلك إن شئت الجزائر وثورتها، بل فرنسا ومقاومتها للاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية، والاتحاد السوفياتي الشيوعي وضحاياه في وجه الألمان.

والمشكلة القائمة في الحالة الفلسطينية في هذا الجانب هي أن الاحتلال قائم بالفعل، ويستبعدون كثيرون أن يرحل هذا الاحتلال، ولكن من كان يظن أن يخرج الروس بترسانتهم العسكرية الجبارة من أفغانستان، وقبلهم الأميركيون من فيتنام، وقبل هؤلاء وأولئك خرج الجيش والمستوطنون الفرنسيون من الجزائر بعد دهر طويل من الاحتلال: "... مَا ظَنَنْتُم أنْ يَخْرُجُوا وظَنُّوا أنَّهم مانِعَتُهم حُصُونُهُم..." سورة الحشر/2.

لكن، ماذا لو جرَّت المقاومة بحساباتها هذه أهوالا من المتاعب على مجتمع بأكمله؟ ماذا لو مات بسببها الأطفال والشيوخ والعجائز والمرضى في المستشفيات وعلى المعابر؟

ولكي نجيب عن هذه الأسئلة يجب أن نعلم أن لأي مجتمع جزءًا يمثل روحه وعقله، أي مبادئه وثقافته، وجزءًا أكبر يمثل جسده، أعني الأداة التي تنفذ مشاريع هذا المجتمع منطلقة من مبادئه.

وكما أن هؤلاء وأولئك يحصدون ثمرة الرفاهية في مراحل القوة والعنفوان والعطاء، فجميعهم كذلك يتحملون ضريبة الظروف العصيبة.

ومع هذا، فإن جرائم الاحتلال لا يمكن أن تُسأَل عنها المقاومة كما يشيع الإعلام العالمي الموالي لإسرائيل في حالتنا الفلسطينية، فليست المقاومة هي التي جوَّعت أهل غزة، ولا هي التي منعت الوقود وقطعت الكهرباء عنهم، بل هو الاحتلال، والاحتلال وحده.

وإسرائيل لا تشن كل هذه الهجمات التدميرية على الفلسطينيين، ولا تفقد إنسانيتها في حصار غزة لهذه الدرجة من أجل صواريخ المقاومة ذات التأثير المادي المحدود.

وإنما تتخذ من هذا ذريعة لفرض الحل الذي تراه في هذه المرحلة الحرجة خوفًا من المستقبل الواعد للمقاومة، ولطمأنة المواطن الإسرائيلي إلى أنه يعيش في ظل حكومة قادرة على حماية أمنه خاصة أن اهتزاز فكرة الأمن في إسرائيل يؤدي إلى تآكل الدولة بتقليل العنصر البشري الوافد إليها، وزيادة عدد الهاربين منها.

ويتمثل الحل في نظر تل أبيب منذ أوسلو –بعد تقليم أظافر المقاومة- في حكومة فلسطينية على طراز مدموغ بالعمالة، تتنازل لإسرائيل إلى أقصى درجة ممكنة، وتقمع هذه الحكومة (الخيالية إلى الآن) الشعب الفلسطيني لحماية هذه التنازلات.


لا ينبغي أن نخفي أن لدى إسرائيل خوفًا وقلقًا صار مزمنًا -ونعده مشروعًا بمنطق الحرص على الحياة- من التصاعد الغامض لقوة المقاومين لمشروعها في المنطقة.

والأصعب من ذلك لدى تل أبيب هو ما صاحب هذا التصاعد من تغير نوعي في المقاوِمين، فقد تهمش دور الأنظمة العربية في مقاومة المشروع الصهيوني بعد أن كانت في الصدارة منذ حرب 1948 حتى زيارة السادات للقدس عام 1977، وتولت الشعوب من جديد –كما كانت قبل النكبة– المواجهة مع المشروع الخطير.

والمواجهة مع الدول أهون بكثير من المواجهة مع الشعوب؛ فللدول مصالح ولها ممثلون محددون بشخصياتهم ومناصبهم، وهناك منظمات دولية سياسية واقتصادية يمكن أن تضغط عليها، كما أن الدولة أقل شجاعة في الإقدام على المواقف الخطيرة من الشعوب التي تواجه بنفسها.

وقد اندفع موقف الدولة الإسرائيلية أكثر من مرة لمواجهة الموقف الشعبي المقاوم في فلسطين ولبنان بالطريقة نفسها التي كان يواجه بها الأنظمة العربية من قبل، دون أن يقرأ المعادلة بدقة، ومن هنا جاءت الورطة الإسرائيلية في لبنان صيف 2006، وفي غزة والضفة الغربية مرة بعد مرة.

ومما يؤسَف له أن يستمد الموقف الإسرائيلي الشرس ضد أهل فلسطين من نهرها إلى بحرها دعائمه من جهات عدة، أخطرها هذه السلبية السائدة في الموقف السياسي العربي والإسلامي، وقد نتج هذا الموقف ولا شك عن تراكم سياسات عقود طويلة تلت مرحلة الاستقلال عن الاستعمار.

وينبغي أن نعذر الساسة العرب الآن شيئًا ما؛ لأنهم يعملون في أجواء دولية غير مواتية. ولكن لابد أن نعي أيضًا أن هذه الأجواء لن تغير اتجاهها ذاتيًا، ولكن بفعلٍ يدفعها إلى هذا.

كما أن للتواؤم مع الأجواء الدولية حدودًا لا ينبغي أن نتعداها، فالأسير –وهو يمثل أشد الأوضاع فقدًا للحرية- قد يستجيب لأوامر آسره، لكن من الواجب عليه –كما تقضي بذلك مبادئنا وتشريعاتنا- أن يعصيه إن أمره بقتل نفسه أو بقتل إنسان بريء.

والأمر في الحقيقة أدق من هذا، فصناعة الموقف الرافض تحتاج إلى أن تجيّش له السلطة أمتَها، بحيث يُرَى هذا الرفض موقفًا طبيعيًا، فحين نصنع ديمقراطية حقيقية في الداخل تستمد مواقفها من الأمة نستطيع أن نفرض على العالم خياراتنا.

إن أخشى ما أخشاه أن يكون قد بلغ بنا الخوف مبلغ هذا الرجل الذي قتلته تصوراته قبل أن يقتله عدوه، حيث يقول ابن الأثير في "الكامل" عن التتار: "ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً وقتله به"!


لقد صارت غزة والمقاومة الفلسطينية ضحية لقدرها وواقعها على السواء، فمع أنها نسبيا لا حول لها ولا قوة، وأن ما تفعله لا يتجاوز في ميزان القتال والحروب مواجهة الدبابات والطائرات بالحصى والنبال، فإن هذه المقاومة ترابط فوق تاريخ لا يمكن محوه، وتستند إلى جغرافيا ما زال شهودها أحياء ووثائقها أكثر عددًا من الفلسطينيين أنفسهم، وهذا ما يجعل للرفض في داخل فلسطين قوة مرعبة وقادرة على تعويق أي اتفاق لا يرضيها بشأن القضية.

لذلك فمن المؤكد أن الأميركيين والإسرائيليين واهمون حين يظنون أن بإمكانهم أن يلغوا التاريخ والجغرافيا بمجرد اتفاق وتنازلات. لقد تنازل نابليون الثالث للإنجليز عن ثلث أميركا بثمن بخس، ومضى هذا الاتفاق وكأنه بيع لصاع من قمح؛ لأنها ليست أرضًا فرنسية، ولم يكن هناك شعب يملك لسان العصر ويعرف آلاته الإيجابية والسلبية في المقاومة ليقاوم الحقيقة الجديدة.

وفي المقابل، لم ينجح تنازل حكومة فيشي الفرنسية عن حرية بلادها للألمان في الحرب العالمية الثانية؛ لأنه ضياع لباريس والتاريخ والجغرافية والفنون والعلوم والآداب الجميلة، وبيع لفولتير وموليير ومونتسكيو في سوق النخاسة.

وفي كل الأحوال يجب أن نثق في أن الصراع على فلسطين لن يُحسَم -وفقًا للقوانين المألوفة في التاريخ الإنساني- بين ليلة وضحاها؛ فلا إسرائيل قادرة على إسكات كل مقاومة لمشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، سواء سلكت في هذا سبيل السرقة الناعمة بالترغيب والوعود والسلام، أو اتبعت طريق السرقة الخشنة بالترهيب والحديد والنار، دعك من أنْ يستطيع الفلسطينيون والعرب في هذه المرحلة من تاريخهم أن يحسموا الصراع لصالحهم.

لكن المهم هنا هو أن إسرائيل عاجزة عن حسم الصراع لصالحها في جو سياسي دولي منحاز إليها، وأما الجانب الفلسطيني فيعمل في جو دولي وأممي معادٍ لحقوقه بشكل واضح.

لكن التغير في مواقف القوى الدولية نحو الحياد الحقيقي على الأقل، وكذلك التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الإيجابية في العالم الإسلامي –وكلها أمور ممكنة ومتوقعة في المستقبل- يمكن أن تقرِّب الحلم الفلسطيني من الواقع أكثر فأكثر، وهو دولة في كل فلسطين يحكمها أهلها، وتعيش فيها جماعات دينية حرة بقدر ما اتسع صدر الإسلام وحضارته طوال ألف سنة.

وهذه النظرة إلى الصراع ينبغي أن يعيها المفاوض العربي والفلسطيني؛ حتى لا يوغل في التنازل إن اضطر إليه، وحتى لا يتحول التنازل إلى ثوابت وأصول في أجندته السياسية غافلا عن نقاط القوة في موقفه.

المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
  • Currently 100/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
32 تصويتات / 460 مشاهدة
نشرت فى 14 مايو 2010 بواسطة Drnabill

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,643