جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
لا شك أن من يقرأ الحاضر جيدا، ويتصرف وفقا لما يقتضيه، سيكسب المستقبل أيضا، ما دام عمله منهجيا ومتجها إلى النقاط الأساسية في الواقع يسلط عليها مبضع التأثير والتطوير، والتغيير إن لزم.
وقد عاب الشيخ محمد عبده قبل أكثر من 100 عام على المسلمين تواكلهم وسوء فهمهم للقضاء والقدر، وعدّ ذلك من أسباب تخلفهم، وللأسف ما زلنا نحيا مع القدر معادلة خطأ؛ إذ نظن أن الواقع يتغير بضربات حظ لا بعمل جاد، مع أن القرآن الذي يعطي لله تعالى كامل التصرف في كونه لم يمنع الناس من العمل والمبادرة، بل أمرهم بالاحتراز وأخذ الحيطة والسعي إلى القدر، لا انتظار أن يسعى القدر إليهم.
ومن ذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ...}، وقال في الصلاة التي تُؤدَّى في ساحة الحرب: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَة وَاحِدَة...}.
الناظر في واقع أكثر الأقطار الإسلامية الآن يجد أن غيرنا قرأ واقعها بصورة أدق من قراءتنا له للأسف الشديد، فرغم الصعوبات الشديدة التي تلقاها العسكرية الغربية في أفغانستان متمثلة في حلف الناتو، فإن المنظمات التنصيرية والتثقيفية القادمة من أوروبا وأميركا تؤثر في الواقع الأفغاني كالنار في الهشيم، وتعمل بمنهج وخطة زمنية ومرحلية، وتوفر لأعمالها الغطاء السياسي اللازم والإمكانات المادية والبشرية المطلوبة.
وأول ما ساعد هذه المؤسسات على القيام بذاك الدور بعد الاحتلال هو مآسي العقود الثلاثة الأخيرة التي عاشها الشعب الأفغاني منذ الاحتلال الروسي للبلاد، وما خلّفه هذا الواقع من مآس يصعب أن تحدد الكلمات أبعادها بدقة.
فعلى سبيل المثال هناك دمار شامل لَحِق قطاع التعليم الأفغاني، لا على مستوى المرافق التعليمية وحدها، بل على مستوى الكادر البشري الذي يلزم للعملية التعليمية أيضا.
ومع أن عشرات الآلاف من الأفغان تلقوا التعليم في هذه العقود حتى المرحلة الجامعية خارج البلاد خاصة في باكستان المجاورة، لا تتعلق نوعية التعليم الذي تلقوه في الغالب بحقل التعليم، بل باللغات والحاسوب والعلوم التطبيقية عادة، إضافة إلى أن كثيرا منهم يفضلون البقاء في الخارج على العودة إلى وطن جريح ومضطرب.
كما أن المقاومة الأفغانية العاملة ضد الاحتلال قد استقطبت قطاعا كبيرا من الشباب المتعلم وفقا لنظام التعليم الديني في المدارس الباكستانية، وكان من المفترض أن يمثل هؤلاء الشباب أساسا مهما لتعليم قطاع كبير من أبناء الشعب الأفغاني، ولو بصورة أولية تحتاج إلى تطوير منهجي يحفظ عناصر الأصالة فيها، ويستبعد العناصر غير الموائمة.
وتبدو مأساة الفقر وسط الشعب الأفغاني أشد من مأساة التعليم، خاصة بعد وفاة كثير من أرباب الأسر الأفغان في الحروب المتتابعة، ودمار مناطق شاسعة من العاصمة والمدن الكبرى، وما تبع ذلك من هرب أصحاب الأموال والأعمال إلى الخارج، بل إن ألوانا معينة من التجارة هاجرت بالكامل إلى البلاد المجاورة وغيرها، وحقق أصحابها فيها تفوقا عالميا.
وباختصار شديد، أصبح الواقع الأفغاني مخربا على نطاق واسع وإلى مستوى عميق، تنعق على أطلاله البوم، وقد شاركت في صنع المشهد الصعب برمته أياد كثيرة بعضها أجنبي وكثير منها من أبناء الوطن، ولم يعد هذا سرا ولا أمرا يُختَلَف عليه، وإنما المشكلة تتركز في هذا السؤال: كيف يمكن إصلاح ما أفسد أبناء الزمان؟
أورث الواقع المصنوع بعد حروب الأميركيين في العالم الإسلامي منذ سبتمبر/ أيلول 2001 شعورا بالعجز والخوف لدى المسلمين، والمشكلة أن هذا الشعور لم يعد خاصا بالشخصيات العادية، ولكنه شمل حتى الرسميين.
فالخوف من إلصاق تهمة الإرهاب لم يعد بعد هذه الحروب قصرا على الإسلاميين، بل اتسع حتى شمل الوزراء والمسؤولين الكبار في البلاد الإسلامية، خاصة بعد أن رُفعت بعض القضايا في الولايات المتحدة ضد أمراء عرب لدعمهم أعمالا إغاثية وخيرية خارج بلادهم.
لقد ظهر أن الحرب على ما سُمِّي الإرهاب لم تكن على محور واحد وهو المحور العسكري، بل اتسعت لتشمل كل المحاور التي استطاع المشروع المحارب أن يشملها.
لم تكن الحرب معركة شريفة يخوضها فرسان يحفظون للجندية أخلاقها ومبادئها وعقيدتها القتالية، ولكنها كانت فرصة استغلوها لهدم كل شيء استطاعت يدهم أن تصل إليه.
لقد استغل كل صاحب غرض الفرصة المواتية منذ الإعلان عن "مشروع بوش" لمحاربة الإرهاب، فالساسة عدوها أجواء مناسبة للتخلص من الأنظمة المناوئة لهم، وإن لم تكن لها صلة بالإرهاب، وجماعات الضغط والمؤسسات الغربية المنتفعة من تشويه صورة العرب والمسلمين حرضت الجماهير العادية ضد كل ما هو عربي وإسلامي، واقعيا كان أم تاريخيا.
واندفعت الجمعيات الدينية والثقافية الغربية تنشر أفكارها في البلاد الإسلامية، وتربي أبناء المسلمين عليها، وأصيب الإعلام الغربي بهستيريا ضد المسلمين عموما، وصار كل شيء مجيَّشا ضد الإسلام والمسلمين.
وكانت أكبر كارثة حلت بالمسلمين في هذه المرحلة هي خندق الخوف الذي حشروا فيه، نعم خسر المسلمون كثيرا باحتلال أفغانستان والعراق، وضرب العمل الخيري الإسلامي العملاق في العالم، ودفعهم إلى مواقف سياسية وتفاوضية لم يكونوا يقبلون بها قبل ذلك، إلا أن حشرهم في خندق الخوف هي النتيجة السوأى على الإطلاق، لأن معناه أن الهزائم ستتكرر ولن تتوقف.
لكن، هل يمكن إزالة هذا الواقع المعوق بل القاتل، أو حتى تحييده بحيث لا يعمل كله ضدنا؟ أعني هل في قدرتنا كأمة كبيرة من حيث العدد على الأقل أن نحيِّد بعض عناصر الواقع المواجه ليعمل في صالحنا؟
إن الكوارث حين تحل بالأمم تترك لها بصيصا من الأمل ومساحة من العفو التاريخي أو القدَري تعمل فيها، ولا يبقى على الأمة إلا أن توظف هذا في الاتجاه الصحيح وبالقدر المناسب.
وأحسب أن حل المعادلة الأفغانية في ظل الاحتلال، ومثلها المعادلة الفلسطينية له زاويتا نظر تتضحان فيما يلي:
أولا: بالنسبة للشعب في داخل الأرض، الشعوب المحصورة لا تقاوم الاحتلال وحده، بل تقاوم الموت معه، وقد فُطرت الحشرات الدقيقة على مقاومة الموت والسحق والهرب منهما.
وهي في ذلك تحتال لنفسها، ولو لم تجد عونا من غيرها، بل تعتمد على قدراتها الذاتية قبل أن تطلب العون من غيرها، ما يعني أن البشر أولى من هذه المخلوقات بصناعة معجزة البقاء تحت السيوف المسلطة على الرقاب، خاصة أن حيل الإنسان لا تنتهي، وقدرته على التأقلم مع الواقع المأزوم كبيرة.
ولعل معرفة الأفغان ببلادهم وجغرافيتها مع شدتهم وعمق تمسكهم بالدين، لعلها هي ما يعينهم على إقلاق الاحتلال وترسانته العسكرية الهائلة باستمرار، ويقدّم الأفغان في هذا نماذج للمقاومة تلفت الأنظار، حتى إنها تدهش جنرالات الحرب الغربيين في كثير من الأحيان.
إلا أن هذا على أهميته لا يعدو أن يكون وجها واحدا من وجوه الملحمة المطلوبة التي تستلزم حفظ هوية الشعب الأفغاني من خلال عمل فردي ومؤسسي مدروس، لصيانة فكر الشعب من التحلل والانحراف الذي يزحف دائما في صحبة العسكرية الغربية.
ثانيا: بالنسبة للأمة التي تمثل امتدادا للشعب في الداخل: ما سبق عن أفغانستان الداخل لا يعفي من المسؤولية تلك الأمة التي تمثل امتدادا جغرافيا وثقافيا عظيما للشعب الأفغاني، ألا وهي الأمة الإسلامية، مهما بلغت الصعوبات ومحاولات عزل القضية الأفغانية وفصلها عن محيطها الإسلامي، ووضعها بدلا من ذلك تحت مظلة دولية أو إقليمية تعطي الهند دورا في الأزمة، وتكتفي من باكستان المسلمة بمقاتلة القاعدة وطالبان على حدودها.
وتأتي المسؤولية في هذا الجانب أول ما تأتي على عاتق المنظمات الإسلامية، سواء كانت سياسية أم ثقافية أم علمية، مثل منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الثقافة والعلوم، واتحاد الجامعات الإسلامية، ورابطة العالم الإسلامي، وغيرها، فبإمكانها أن تمثل مظلة لتقديم المعونات التعليمية والاجتماعية والمعيشية للشعب الأفغاني، خاصة في المناطق الهادئة التي يمكن أن تمثل محضنا طيبا لمشاريع تعليمية وإغاثية لعوام الأفغان.
وحتى نخرج من هذا التعميم يمكن أن توفر هذه المنظمات آلاف المنح الدراسية للأفغان في جامعات العالم الإسلامي بشكل مدروس ودقيق، بحيث تلبي حاجة الشعب الأفغاني في مستقبله القريب.
كما يمكن أن تتعاون المنظمات الإسلامية المعنية مع الشخصيات الأفغانية المستقلة التي لا تتعامل مع الاحتلال، وفي الوقت نفسه لا تدخل معه في مواجهة حربية، تعاونا عمليا لتقديم المعونات للأسر المنكوبة والعائلات الجائعة.
المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
ساحة النقاش