جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
يروي المؤرخون أن "خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى بالكوفة (سنة 124هـ)؛ وذلك أن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما... ثم نزل فذبحه في أصل المنبر".
وتذكر صفحة من التاريخ الحديث أن الفرنسيين أعدموا بالمقصلة ملكهم لويس السادس عشر وزوجته الإمبراطورة أنطوانيت سنة 1793م، وأقرب من هذا عهدا إعدام الرومانيين لطاغيتهم نيكولاي تشاوشيسكو وزوجته إيلينا رمياً بالرصاص سنة 1989م.
تاريخ أشبه بالدراما والفن الروائي منه بالواقع العادي، ويبدو اختيار التوقيت في الحالة الأولى عامل الإثارة الأكبر في الحدث، في حين أن موقع الشخصية في الحدثين الفرنسي والروماني أشعل إثارة أكبر في تلافيف "الحكايتين".
سيناريو مثير للريبة
وحاكِي التاريخ لا يتوقف عن سرد مفاجآته طول الزمن، وإعادة بث مشاهد من الماضي في الحاضر، فقد اجتمع عاملا الإثارة السابقان في حادث إعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين -أقوى زعماء العراق الحديث وأكثرهم تأثيرا في تاريخ المنطقة طوال عقود- صبيحة يوم النحر من حج عام 1427هـ، حتى انشغل العالم به عن أعياده، وتردد الحديث عنه في جنبات الحرم الشريف وفي رحاب الكنائس والكاتدرائيات الكبرى على السواء.
لكن لا تخدعنا لغة الحاكي المثيرة وأوجه الشبه هذه عن فروق قائمة بالصورة، حيث إن الجعد بن درهم مثَّل عدوا عقديا لدين الدولة القائمة حينئذ (الأموية)، وكان لابد من التخلص منه؛ تقربا إلى الجماهير والعلماء، أو إخلاصا في المحافظة على نقاء الدين!
وأما إعدام الإمبراطور الفرنسي والرئيس الروماني فقد أنتجته تطورات الحدث الثوري الشعبي في البلدين، وقيام الأمتين في وجه الظلم والفساد المستشري والمحبط لكل الآمال.
وفي المقابل يقف إعدام صدام حسين على أنه فعل طائفي بامتياز، آثر منفذوه اختيار توقيت مثير للتنفيس الزاعق عن مواقف تنافسية بين أبعاض شعب واحد، ولم يأت ذلك على هيئة ثورة شعبية ضد الظلم، ولكنه توظيف لغزو خارجي وتصالح معه ومع مجموعات طائفية مماثلة؛ أعني أن وراء الحكاية الجديدة صفقة سياسية، كما سيتضح بعد.
وبدا في المشهد أن الثوار القادمين في ركاب الأجنبي قد فضلوا الثأر من "خصم لا خطر له في الحال" على مواجهة "عدو تبلغ خطورته تهديد الهوية والذات الحضارية في الحال والمآل"، مما يعني أن هناك أهدافا مريبة وراء السيناريو المفاجئ.
لقد عززت عملية الإعدام صبيحة يوم النحر الصورة القاتمة لحاضر العراق الصعب، وزادت من تثبيت واقع الموت والخراب والدمار، حتى صار الأصل في أخبار بلد الرافدين العريق وعاصمتِه "دار السلام!" هو العنف والانفجارات وإزهاق الأرواح مهما كانت العاقبة.
وثبت أن "القتل" ليس كما قالت العرب في جاهليتها "أنفى للقتل" على الإطلاق، بل قد يكون القتل بداية لموجة أو سلسلة طويلة من أعمال العنف المدمر، ولا يكبح جماحها إلا منطق عاقل يؤثر التعايش ويقدمه على التصفية التي قد "لا تبقي أحدًا يحكمه المنتصر إلا القبور"، كما علق أحد المحللين على الحرب الأهلية في أفغانستان أثناء عقد التسعينيات.
وحقيقةً لم يكن ممكنا لاختيار وقت آخر لتنفيذ حكم الإعدام في صدام حسين أن يوقف دائرة العنف في العراق، ولكن التنفيذ نفسه يتوقَّع بقوة أن يزيد العنف في الساحة العراقية ضراوة فيما يستقبل، وهو أمر قد بدت "تباشيره" المؤسفة بعد الإعدام مباشرة.
والحقيقة أنه لن يوقف العنفَ في العراق إلا عقول تقدم المصلحة العامة على المصلحة الطائفية، وتؤثر التجميع والتلاقي على التفتيت والتقتيل، وتبصر معالم طريقها الصعب إلى مستقبل يحتاج الكثير من الجهد لإصلاح ما أفسده الاحتلال والديكتاتورية، وتعلم أن التدين والتمذهب الديني إذا لم يكونا خيرا لأصحابهما ولغيرهم عامة فإن العلمانية خير للناس منهما!!
حقا ليس صدام رمزا للسنة في العراق حتى نفسر إعدامه على أنه فعل طائفي، حيث إن أعماله العنيفة أيام حكمه لم تقتصر على خصومه من الشيعة، كما أن فترة حكمه لم تكن خاصة بالنفوذ السني، فقد شاركت فيه وفي قيادة "حزب البعث العربي الاشتراكي" في عهده بعض الأسماء الشيعية الكبيرة، ولكنه حُكْم العشيرة صيغ في صورة حزبية عجيبة جمعت أطيافا من الانتماء المذهبي والعرقي وحتى الديني، وحاولت في الوقت نفسه الاحتفاظ بالشكل القومي المتطرف للحكم وسط تعدد عرقي ظاهر في البناء السكاني للدولة.
مع كل هذه الاعتبارات، فإن إعدام صدام فُهم في التفسير البَعدي للحدث -وبمنأى عن قصد أصحابه ومنفذيه- على أنه جزء من الاغتيال الشيعي للوجود السني في العراق، وأن ضحيته ينتمي إلى سنة العراق، مهما بدا من واقع سيرته السابقة.
ولم يكن هناك باب لتفسير حادث الإعدام وسط مصائب العراق الكثيرة والمتتابعة في الوقت الراهن إلا هذا.
أضف إلى ذلك كله أن العقوبات التي توقعها الدولة؛ أي دولة، بحق بعض مواطنيها ليست لأجل التشفي والانتقام أبدا، وإنما هي إجراءات لضبط حياة الناس ومنع تعدي بعضهم على بعض، وهذا يعني أن صدام حسين نجح في الإعدام الطائفي الذي جُهِّز له -كما رأى الشارع السني والدولي على الأقل- وسقطت الدولة العراقية المزعومة سقوطا مروِّعا في حمأة الطائفية البغيضة، كما يرى العقلاء.
صفقة إعدام صدام
لا يخفى على الكثيرين أن عقد الصفقات هو الأساس في دنيا السياسة القائمة في عالم اليوم؛ كما يبدو الأمر في منح النفوذ مقابل تقديم الحماية، وإعطاء خصوصية في العلاقات مقابل مكاسب اقتصادية، وتقديم الدعم الحربي مقابل الأرض، وعقد التحالفات الداخلية بمقابل سياسي ما.. ويبدو لي أن إعدام صدام حسين هو صفقة من هذا القبيل، وهو ما تساعد على فهمه قراءة النقاط التالية:
1 - قاطع نواب مقتدى الصدر (30 نائبا) ووزراؤه (6 وزراء) حكومة نوري المالكي بسبب اجتماع الأخير بالرئيس الأميركي جورج بوش في الأردن عند زيارته لها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
2 - هددت المقاطعة الأخيرة الائتلاف الشيعي بالتفتت، مما دفع ذوي النفوذ في الطائفة الشيعية إلى السعي إلى إنقاذ ائتلافهم من الانهيار، وعقدوا لأجل هذا اجتماعات عدة مع الأطراف الشيعية المختلفة، وعلى رأسهم مقتدى الصدر.
3 - حضرت عملية إعدام الرئيس العراقي الراحل -كما شاهد العالم وسمع- وجوه كثيرة تابعة لمقتدى الصدر المقاطع لحكومة المالكي أصلا، وهتفوا باسم زعيمهم الشاب وباسم والده المفكر الشيعي الراحل محمد باقر الصدر الذي قُتل في عهد صدام حسين سنة 1984 بتهمة تزعم ثورة في العراق شبيهة بثورة الخميني في إيران.
إن إعادة الصدر الصغير إلى الائتلاف -وفق هذه المعطيات- لابد أن يكون لها ثمن، ولعل تسليم صدام حسين إلى ممثلين من فرق الموت الصدرية المقنَّعة لتنوب عن الدولة في تنفيذ الحكم/الانتقام -الذي لم يُتوقَّع تنفيذه بهذه الصورة المفاجئة- ليس إلا عربون التوافق مع الصدر فحسب، على أن يبلغ الانتقام أقصى درجاته بتنفيذ الإعدام في الرجل بصورة مهينة وفي وقت يعتبر مناسبة للفرحة لا للقتل، ويُذاع هذا على العالم بالصوت والصورة في انتهاك رديء لحقوق الإنسان!
ومن خلال هذه الصفقة يمكن أن تحافظ حكومة المالكي على الائتلاف قائما؛ حيث إن استمرار الوزارة مرهون ببقائه، وفي الوقت نفسه سيثأر مقتدى الصدر لأبيه المقتول.
ولكن أين دور الأميركيين في الصفقة؟ ولم سلموا الرجل في هذا التوقيت؟ ما يهم الأميركيين في الأساس هو أن تخف حدة الهجمات في العراق ضدهم، وأن يقل التقاتل الشيعي السني حتى يتسنى لهم ضبط أمور البلاد، وإخراج العراق إلى واقع مستقر -كدولة أو أكثر- يوقفه في موقع المحايد الضعيف التابع للأميركيين مثل العديد من دول المنطقة.
والكثير من هذه الأهداف يمكن أن يتحقق بالتوافق مع الصدر الصغير، الذي إن كان قد ثار على المالكي للقائه ببوش، فإنه يتبنى سياسة فعلية أكثر تشددا مع المسلمين السنة، مما يعني أنه قد يشتري العداوة الأبعد بالأقرب.
ولعل مما يدعم هذا أكثر أن نعرف أن أغلب أعمال المليشيات السنية العراقية في الحرب الأهلية الدائرة تستهدف حماية السنة أو الرد على أعمال القتل الطائفي، في حين أن جيش المهدي التابع للصدر يتحمل المسؤولية الكبرى عن هذه الحرب بشهادة أطراف لا يُظَن أنها ذات مصلحة في هذا.
فقد صنف تقرير لوزارة الدفاع الأميركية صدَر في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي مليشيا جيش المهدي التابعة لمقتدى الصدر على أنها "الخطر الأكبر على أمن العراق"، وحاول الكثيرون من زعماء الطائفة الدفاع عن الصدر ومليشياته في وجه هذا الاتهام، ولكن بدون جدوى.
المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
ساحة النقاش