- التوافق مع أحادية القطب
- الموقف من الآخر
- التآكل والتناقض

مشهد التقاتل الفلسطيني القائم الآن مروِّع بكل المقاييس، ويبعث على الأسى العميق، ويثير في قلوب الغيورين على القضية الفلسطينية خوفا شديدا على مستقبلها.

غير أن هذا المشهد نفسه يبدو طبيعيا تماما بالنسبة للناظر في الأجواء الدولية والإقليمية، وفي المسارات التي تحركت فيها القضية الفلسطينية منذ أن أنشئت منظمة التحرير وحركة فتح منتصف الستينيات وإلى الآن.

كان الجو الدولي منتصف الستينيات وحتى أواخر الثمانينيات جزءا مما اصطلح على تسميته بالحرب الباردة؛ تلك التي اختبأ كثير من الكيانات السياسية أثناءها في لحاف أحد قطبيها هربا من ضغوط الآخر، أو من تناقضاته معها؛ فكانت هيمنة القطبين على الأنظمة الوطنية غير مطلقة في الغالب؛ بسبب الفرص المتاحة لهم حينئذ للمراوحة النسبية بين المعسكرين.

وفيما يخص البؤرة الفلسطينية الساخنة طوال الحرب الباردة، فقد قامت منظمة التحرير وحركة فتح كغيرها، على التوافق مع "ثنائية الأقطاب" أو كنبتة واعدة في ظل أنظمة عربية توافقت مع هذه الثنائية، وحمت انتماءها القومي المتحمس بهذا الوضع الحرج والآني.

إذ يرهن نفسه ومَن خلفه للخارج تحت حسابات لا تمثل حالة مضمونة الاستقرار في السياسة العالمية، وقابلة للنسخ والتغيير طبقا لتطور الوقائع كما قدمته قراءات شرقية وغربية مبكرة توقعت سقوط الشيوعية.

وأما حركة حماس فلم تكن لها علاقة بهذه الثنائية، فهي لم تعش طويلا في ظل الحرب الباردة، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها لم تعش هذه الأجواء مطلقا، حيث كان الوجود السوفياتي في الساحة الدولية قد اضمحل كثيرا حين نشأت الحركة نشوءً علنيا سنة 1987.

فكان امتياز الحركة نابعا مما تدعيه لنفسها من الإيمان المطلق بالحق الفلسطيني والانتماء الصارم إلى الذات العربية والإسلامية، دون حساب لأي تحالف أو توافق مع الداخل أو الخارج على حساب القضية والحقوق الفلسطينية.

 

 

وهنا مفارقة مهمة، ففي مقابل توافق فتح مع مناخ دولي ثنائي الأقطاب يتيح مساحة ما للحركة، ترفض حماس إلى الآن التوافق مع مناخ السياسة العالمية أحادي القطب والاختيار.

فهربت فتح باختيارها هذا إلى القطب الذي بدا لها أنه أقل تناقضا مع مشروعها النضالي من القطب الآخر، في حين لجأت حماس إلى الذات الفلسطينية ثم العربية والإسلامية تستحث قدراتها الكامنة، وتستولد الحلول بصورة أساسية من رحم الواقع الفلسطيني الذي حاولت علاج بعض مشكلاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

لكن لا أحد ينكر أن تحول العالم بعد الحرب الباردة إلى نظام أحادي القطب، أنشأ من الضغوط الداعية للتوافق ما عجزت عن مقاومته دول مستقرة ومستقلة دفعها الواقع الجديد إلى التوافق مع السياسة الأميركية في حربها وسلمها، فما بالنا بمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها.

وحينما حاولت المنظمة أن تتمرد على الوضع الدولي الجديد بتأييد الغزو العراقي للكويت سنة 1989، سقطت في استحقاق أكبر، وهو التوافق (القسري في حقيقته) مع "النظام العالمي الجديد"، حتى بدا هذا وكأنه اعتذار منها عن خطيئة تأييد العراق في غزوه للكويت.

وفي هذا المناخ وامتداداته عُقِد مؤتمر مدريد للسلام واتفاقية أوسلو ومحادثات كامب ديفيد الثانية، حيث سقطت بعض البنود من شجرة النضال الفلسطيني، وصار استخدام البندقية ضد الاحتلال مجرد وسيلة للضغط على المفاوض الإسرائيلي ودعم المفاوض الفلسطيني.

وهذا ما يعبر عنه أحد بيانات فتح بصورة غير مباشرة حين يقول "نحن الفتحاويين نؤمن منذ انطلاقتنا عام 1965 أن النضال المسلح يزرع، والعمل السياسي يحصد، ومن لا يزرع لا يحصد، ومجرم وخائن من يزرع ويرفض أن يحصد، وإلا تحوّل النضال إلى لعبة دم مقيتة تفرغ النضال من محتواه"!

إذن هو تناقض في الرؤى، وصراع بين أيديولوجية متوافقة مع الوضع الدولي القائم، وأخرى تجد تميزها أصلا في مقاومة التوافق.

 ولكن حتى هذا لا يكفي في فهم كل أبعاد الموقف الفلسطيني الراهن، ويعنينا هنا بشكل خاص فهم الموقف النظري لكلا الطرفين من الآخر؛ أعني بالتحديد ما سجلته الوثائق الرسمية لهما بهذا الخصوص.

ففي حين يؤكد ميثاق منظمة التحرير التي أثرت فتح في توجهاتها منذ وقت مبكر أن "التناقضات بين القوى الوطنية هي من نوع التناقضات الثانوية التي يجب أن تتوقف لصالح التناقض الأساسي بين الصهيونية والاستعمار من جهة والشعب العربي الفلسطيني من جهة ثانية" فإن ميثاق إنشاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يقرر أن "منظمة التحرير الفلسطينية من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية، ففيها الأب أو الأخ أو القريب أو الصديق... فوطننا واحد ومصابنا واحد ومصيرنا واحد وعدونا مشترك..

(ولكن) تأثرًا بالظروف التي أحاطت بتكوين المنظمة، وما يسود العالم العربي من بلبلة فكرية، نتيجة للغزو الفكري الذي وقع تحت تأثيره العالم العربي منذ اندحار الصليبيين، وعززه الاستشراق والتبشير والاستعمار، ولا يزال، تبنت المنظمة فكرة الدولة العلمانية.

والفكرة العلمانية مناقضة للفكرة الدينية مناقضة تامة "وعلى الأفكار تُبنى المواقف والتصرفات، وتتخذ القرارات".

فموقف المنظمة التي ترى نفسها بقيادة فتح الممثل الشرعي والوحيد لشعبها من الآخر الفلسطيني موقف عائلي حالم يلفق المواقف بين أبناء لا تكفي الشعارات للجمع بينهم، لأن التوافق على الهدف لا يكفي -كما تنطق فصول الواقع الفلسطيني نفسه- لجمع الصفوف خلفه.

وأما موقف حماس فيعتمد على المفاصلة الفكرية مع الآخر غير الإسلامي، مع هامش من التسامح معه لا يحقق تلاقيا على الأسس الرئيسية للمشكلة الفلسطينية.

وكلا الموقفين يحوي في طياته نقاط تقاطع يمكن أن تنفجر حين تتوفر العوامل المساعدة على ذلك، فعقوق أمومة المنظمة، وكذا التناقض العملي مع الفكرة الإسلامية وأحكامها الفقهية من الطبيعي أن تولد على الأرض في الظروف القائمة أزمة سلاح لا أزمة مواقف.
وأعني بهذا أن هناك استعدادا أصليا للمواجهة بين الطرفين تتمثل بعض عناصره في تباين البنية والتوجهات الفكرية، إلا أن هذا يظل مشروطا بشروط ينتمي بعضها إلى البنى الاجتماعية والعقول الممثلة لهذه الأيديولوجيات، وبعضها إلى الظروف الخارجية المحيطة بها.

ويتمثل هذا بالنسبة للحالة الفلسطينية الآن في ثلاث نقاط: الأولى أن تقاسم السلطة والقوة بين فتح وحماس على أرض واحدة ودون تحديد عرفي أو قانوني لصلاحيات وحدود كل طرف، أو دون استعداد الطرفين للالتزام بحدودهما وصلاحياتهما، يمثل جانبا خطيرا وداعما للأزمة.

وتختلف وجهات النظر هنا بين الحركتين حتى الأعماق، ففي حين ترى منظمة التحرير أنها هي التي أنتجت الواقع السياسي الفلسطيني القائم بنظاميه الرئاسي والوزاري، ولا حق لأحد أن يستفيد من هذا المناخ على حساب المنظمة أو بدون الأسس التفاوضية التي قام عليها، فإن حماس ترى أنه لا حق لأحد في أن يتكلم باسم القضية الفلسطينية وفي فكره أن يتنازل عن أي جزء من الأرض مهما يكن.

وهذا ما أكده ميثاق الحركة في المادة الحادية عشرة حين قال عن التنازل عن فلسطين أو أي جزء منها "لا تملك ذلك دولة عربية ولا كل الدول العربية، ولا يملك ذلك ملك ولا رئيس، ولا كل الملوك والرؤساء، ولا تملك ذلك منظمة ولا كل المنظمات سواء كانت فلسطينية أو عربية؛ لأن فلسطين أرض وقف إسلامي".

النقطة الثانية: الظرف الدولي الساعي إلى تطويع كل شيء وفقا للرؤية الأميركية، أو ما يمكن تسميته "فرض التوافق" على كل الأطراف، إن لم يكن بلين المحادثات فبقسوة الحديد والنار.

وهذا الأمر هو الذي ولد أجواء التصادم الدموي، وحوَّلها من تهديدات إلى وقائع، ومن نار مكتومة تصدها جدران الواقع غير المتاح إلى إمكانية واسعة للتنفيس عنها.

ولكن لعل التصادم جاء أشد ترويعا مما يتوقع، وهذا أيضا تابع لمستوى الدعم السياسي والعسكري الكبير من الولايات المتحدة وإسرائيل وغيرهما لأحد طرفي الأزمة التي لم تستهدف حكومة حماس وحدها، بل استهدفت الحركة كلها وربما المقاومة عموما.

النقطة الثالثة: لم تعد حركة فتح شيئا واحدا نستطيع أن نحكم عليه حكما عاما، فهناك من يستجيب للتحريض الخارجي ويتلقى الدعم الصريح لأجل هذا، وهناك من لا تسمح له مروءته ولا وطنيته بهذا، إلا أن "فتح الفاعلة" هي الأولى، وأما الثانية فتكاد تكون عاجزة في خضم الأحداث المتصاعدة.

ومهما يكن التحريض الخارجي قويا، فإنه لن يؤثر إلا في وجود استجابات من الطرف الداخلي مستعدة لذلك.

إذن، هل القضية الفلسطينية تأكل نفسها في خضم الأحداث الجارية، أم أنها تتخلص من تناقضاتها؟

أستطيع أن أقول: إنها تفعل الأمرين معا؛ لأن الأحداث الجارية ستؤثر بالتأكيد على قوة الطرفين، وتعمل على تآكل بعض هذه القوة؛ إلا أن أصعب ما فيها –مع بغضي الشديد لشلال الدماء الذي يسيل- هو أن تُبقِي الطرفين على نفس المستوى من تكافؤ القوة، فتظل إمكانية التقاتل قائمة ورهنا بأي تحريض خارجي.

وستكشف الأحداث بعد أن ينجلي الغبار الكثير المثار عن حسابات من الشارع الفلسطيني لكل الأطراف، وربما حسابات داخلية في حركة فتح، إن تغلبت روح العقل والوطنية على روح المغالبة والسيطرة بأي ثمن كان، وهذا هو تخلص القضية الفلسطينية من تناقضاتها.

المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 73 مشاهدة
نشرت فى 12 مايو 2010 بواسطة Drnabill

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,646