|
الأزمة الأميركية
الأزمة الأوكرانية
مشكلةُ تطبيقٍ أم أزمةُ نظرية؟
أذاع العقل الشعبي والأدبي في العالم كله قصص "التنين"، ذلك الوحش المخيف ذو الرؤوس المتعددة، وجعل هذا العقل من تعدد الرؤوس قوة زائدة للتنين، فكلما زاد عددها زادت قوته على التدمير والإحراق.
ولكن فات هذا العقل الخيالي أن الرأس مركز القرار حتى في الحيوان، بحيث إن تعدد الرؤوس يتبعه –أحيانا على الأقل- تعدد طبيعي في القرارات والمواقف، خاصة عند تساوي أو تقارب قوة هذه الرؤوس، حتى إنه من الطبيعي أن نبدع قصة يأكل فيها التنين نفسه بنوع من الحيلة التي يصنعها بطل القصة، وذلك لاختلاف هذه الرؤوس في التصرف الجدير بالتنفيذ في هذا الموقف أو ذاك!
هكذا تبدو مقترحات النظام الديمقراطي في سعيه إلى الحيلولة دون انفراد جهة واحدة بالقرار السياسي فيه، حيث أنتج الواقع في بعض التجارب نظاما سياسيا ذا رأسين أو عدة رؤوس، ما أدى بشكل طبيعي إلى وقوع تصادم بين جهات عدة لها الحق في اتخاذ القرار أو تعطيلِه، كما نرى في المشهد السياسي الحالي في كل من الولايات المتحدة وأوكرانيا.
الأزمة الأميركية
مع أن حقيقة الأزمة السياسية في كل من أوكرانيا والولايات المتحدة واحدة، وتتحدد في وقوع تصادم بين أركان النظام الديمقراطي الحاكم في كل منهما، فإن اختلاف التجربة التاريخية في هذا الجانب في كلا البلدين يدفعنا إلى القطع بأن الديمقراطية ليست دائما هي الحاكم على البيئة التي تُطبَّق فيها.
بل إن البيئة بثقافة إنسانها وتكتلاتها السياسية ومستوى التعارض بين هذه التكتلات لا تقل في فاعليتها وقدرتها على توجيه الديمقراطية نفسها وجهات خاصة.
للديمقراطية الأميركية بلا شك عراقتها وجذورها العميقة في نفسية المواطن الأميركي في الداخل، كما أنها جزء من مفهوم "أميركا من الداخل" لدى الخارج، بحيث اعتاد هذا الخارج ألا يفهمها إلا على أنها دولة "حرية وديمقراطية"، وإن جاز أن يرى لها في الخارج وجوها أخرى عديدة غير ذلك، إذ إن الديمقراطية ما زالت تمثل في العالم كله نظاما لسياسة الدولة من الداخل، ولم تمد نظرها إلى الخارج لتحدد مبادئ ضابطة في تعامل الأمة الآخذة بها مع الكيانات السياسية الأخرى.
ومن الطبيعي في هذه الحال أن تصبح السياسة الخارجية بأشكالها المختلفة مجرد خادم للسياسة الداخلية في كل الديمقراطيات الحديثة والقديمة، مهما افتقدت هذه السياسة الخارجية من منطقية، وألقت من غيوم على حالات مستقبلية تمثل ارتباط الدولة بالخارج.
ولأجل ما أشرت إليه من التجذر الديمقراطي في ثقافة المواطن الأميركي ونفسيته، تبدو الإجراءات الاستثنائية الداخلية التي تتخذها إدارة الرئيس بوش من وقت إلى آخر تحسبا لأي أعمال "إرهابية" –كما تروّج- تبدو شديدة الوطأة على المواطن الأميركي الذي لم يعتدها.
وإن كان هذا المواطن يتراوح في موقفه منها بين التماس العذر للإدارة بعدما تلقَّى منها كمّا وافرا من التخويف والترهيب من شبح الإرهاب، وبين الملل من هذه الإدارة التي تعتقد أن التمسك بها مرهون بنشر ثقافة الخوف التي تصوغ بها –وهي تدري أو لا تدري- أميركا جديدة تختلف عن أميركا الراحلة منذ 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وتبدو هذه المسألة حادة جدا إلى درجة أننا قد لا نرى في الداخل أميركا ما قبل 11 سبتمبر/ أيلول مرة أخرى!
ورغم هذا التشاؤم الأميركي أصلا فإن الديمقراطية الأميركية برصيدها الكبير حصرت أزمتها الحالية في السلطة التنفيذية (البيت الأبيض) والسلطة التشريعية (الكونغرس)، أي في إطار أركان النظام الديمقراطي نفسه، حيث ظلت التجاذبات وتبادل الاتهامات محصورة فيهما.
ولم يحرض أي منهما أنصاره في الشارع الأميركي على التظاهر ضد الآخر، رغم خروج تظاهرات عارمة في واشنطن وغيرها من المدن الأميركية مطالبة بالانسحاب من العراق، وأيضا رغم محاولة الرئيس بوش إحراج الديمقراطيين وإظهارهم أمام الشعب في صورة من يتخلى عن الجيش الأميركي –الذراع الحامية للوطن– في أوقات عصيبة.
ولا تغيب عنا غبطة "الديمقراطيين" بالتظاهرات الصاخبة التي تطوف المدن الأميركية داعية إلى الخروج من العراق، إلا أن هذا لا يعدو –كما يبدو- أن يكون توافقا في المواقف زادته الذكرى الرابعة للاحتلال ظهورا وحدّة، إذ إن الجماهير عادة تنشط سياسيا عند مفاصل الأحداث، وليس من عادتها أن تطيل الأنفاس في ممارسة هذه اللعبة.
ولعلنا نلفت النظر هنا إلى حالة عربية مشابهة من هذه الناحية، وهي أن الصخب الجماهيري الذي أحدثته المعارضة في لبنان لم يكن كافيا لإسقاط حكومة الأغلبية لسبب كهذا، فالجماهير رهان مهم لكنه لا يُستخدَم إلا في لحظة سريعة لا يطول أمدها، وحاسمة لا تحتاج إلى تكرار كثير، خاصة في دولة كانتونية ذات طوائف متعددة مثل لبنان، أي أن كل طائفة فيها تمثل مجتمعا متكاملا وشبه مستقل.
وبالعودة إلى موضوعنا سنفسر تصرف بوش في استثارة مشاعر الجماهير ضد خصومه على أنه إقحام لعناصر من خارج العملية الديمقراطية أثناء ممارسة عمله في إطار النظام الديمقراطي الذي جاء به إلى البيت الأبيض بطريق أو بآخر، ومن الصعب أن يجد بوش استجابة شعبية لهذه الاستثارة.
الازمة الاوكرانية
وفي المقابل تأخذ الأزمة في أوكرانيا بين الرئيس يوتشينكو ورئيس الوزراء يانكوفيتش شكلا آخر مختلفا عما سبق، فمن المفروض أن للأزمة طرفين فقط يتمثلان في الرئيس ورئيس الوزراء بأغلبيته البرلمانية، إلا أن الجماهير والجيش ظهروا كأطراف أكثر تأثيرا على مستقبل الأزمة، أو كأطراف مرجِّحة لكفة أحد طرفيها الأصليين.
ولا نحتاج إلى كثير اجتهاد كي نفهم أن للخارج (روسيا ودول حلف الناتو) أيادي فاعلة في هذه الأزمة، إلا أن نوعية الاستجابة التي أبدتها الجماهير -والجيش معها- تشير إلى مستوى ضعيف من رسوخ الديمقراطية في هذا البلد الخارج من الأسر الشيوعي منذ أقل من عقدين من الزمان فقط.
إن التجربة الديمقراطية الأوكرانية القائمة تعيش صراعا أو تجاذبا بين ماضيها وحاضرها من جهة استشراف المستقبل عبر التحالفات المصلحية مع هذا الطرف أو ذاك.
ولا نقول إن هناك من يفكر من أطراف الأزمة في إعادة الماضي كله أبدا، إذ إن المركز الأول لهذا الماضي نفسه (روسيا) قد هرب منه جملة، إلا ما بقي من الحمية ضد الأميركيين وحلفائهم.
ومع أن الخلاف الأوكراني بهذه الصورة ليس على الديمقراطية نفسها، فإن بعض أطرافه -على الأقل- مستعد لكسر عنق الديمقراطية لأجل ترجيح خياره على خيار غريمه، ما يعني أن الثقافة الديمقراطية للساسة والجماهير في أوكرانيا لم تنضج بشكل كاف إلى اللحظة الآنية، وما زال الماضي يلقي بظلاله على الحاضر فيها.
ويلفت النظر هنا أن طرف الأزمة الأوكرانية المائل إلى التحالف مع الغرب (الرئيس يوتشينكو) يمسك بسلاح شرقي عتيد يهدد به الديمقراطية ألا وهو الجيش، في حين أن غريمه المحالف للروس يراهن على الجماهير التي كانت دائما مستمسَك الديمقراطية في الغرب والشرق.
مشكلة تطبيق أم أزمةُ نظرية؟
خلص العقل الغربي المعاصر بعدما عاش فترة مُرّة من الغرور والكبرياء حتى القرن التاسع عشر، إلى أن ما ينتجه من علم أو فكر أمر نسبي قابل للتعديل، حتى فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية.
فالأفكار العلمية والنظم صحيحة حتى يثبت عكس ذلك، أو حتى يظهر بديل أفضل مما هو قائم. ينطبق هذا على النظريات الكبرى والقوانين والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يقترحها لحياته.
وفي هذا الإطار تُفهَم الديمقراطية الغربية على أنها منتج تم اختياره من بضاعة القدماء مع شيء من التحديث والتكييف، باعتباره أفضل ما أتيح لهم من داخل إطارهم الحضاري، إلا أن هذا المنتج الذي نال ثقة كاملة لدى الغرب لا يختلف عن نظريات الفيزياء في حاجتها إلى المتابعة الدائمة لعلاج أوجه القصور التي تبدو فيها، أو لدعمها بالأدلة، خاصة من خلال التطبيق العملي.
معنى هذا أن الديمقراطية تبدو فقط أفضل المتاح سياسيا للعقل الغربي الذي ينظر إلينا وإلى جميع المغايرين له بكبرياء المنتصر، وليست الديمقراطية معبودا مقدسا حتى عند أهلها.
ومن هنا نختلف مع من يروّج في عالمنا العربي والإسلامي لضرورة نقل التجربة الديمقراطية عن الغرب بحذافيرها وفي إطارها القيمي كله، وكأن ثوب الدب لابد أن يكون مناسبا للجمل ما دام قد بدا ملائما للدب!!
مهما يكن، فإن الأزمة القائمة أزمةُ نظرية في المقام الأول وتتفاوت حدتها في التطبيق من مكان إلى آخر، وأظن أن الفكر الشرقي بتراثه الديني والأخلاقي والسياسي أيضا، يمكن أن يغني التجربة الديمقراطية -التي هي تراث إنساني عام– بما يسد الكثير من الخلل الواقع فيها.
ساحة النقاش