- التحديث
- فرص النجاح
جاءت أحداث "لال مسجد" في العاصمة الباكستانية إسلام آباد في يوليو/ تموز الماضي لتعبر عن صدام مبكر وقاس بين برامج وتوجهات متناقضة تضمنتها الدولة الباكستانية في عهد الرئيس برويز مشرف.
ومع أن هذه التوجهات قد اشتملت عليها الدولة منذ نشأتها، لم يكن عنصر التحدي بينها أكثر بروزا منه في هذا العهد الأخير.
لقد تضمنت فكرة باكستان منذ نشأتها قبل 60 عاما عناصر علمانية وأخرى دينية، ولكن مشروع بناء الدولة الذي تبناه الطرفان في البداية أدى إلى نوع من التوافق النادر بينهما في صورة "الرابطة الإسلامية"، حيث صار الدين جزءا من القومية عند طرف والقومية جزءا من الدين لدى الطرف الآخر، ولم تكن هذه إلا مصالحة ظاهرية ومؤقتة بين الفكرتين والتيارين.
من جهة ثانية يبدو وضع الجيش الباكستاني في هيكل الدولة أهم وأخطر مؤسسة في البلاد، وهو يعمل وفقا للمصلحة الباكستانية العليا بطبيعة الحال، لكن يغلف هذا العمل دائما لون خاص حسب شخصية الزعامة المسيطرة في البلاد ورؤيتها، سواء كانت إسلامية أم قومية سنية أم شيعية أو تجمع بين عناصر متعددة في بنائها الفكري.
وأهم ما يتصف به برنامج الرئيس مشرف إضافة إلى علمانيته هو أنه برنامج معلن وصريح، وأن صاحبه شديد الإصرار عليه، ويتخذ من الزعيم التركي "مصطفى كمال أتاتورك" ما يشبه المثل الأعلى له ولمشروعه.
ولا شك أن "أتاتورك" يظهر هنا مؤسس دولة أكثر منه أي شيء آخر، بمعنى أن إقامة النموذج الأتاتوركي في باكستان هو الهدف الأخير للرئيس مشرف.
ولا بد أن نؤكد أن هذا البرنامج هو قناعة شخصية لدى مشرف، وليس إملاء خارجيا، وأنه ليس بينه وبين الأميركيين خلاف في هذا الجانب إطلاقا، بل إن واشنطن تدعم برنامج التحديث الذي يقدمه النظام في باكستان بعشرات الملايين من الدولارات كما هو معلن ومعروف.
والخلاف بين الجانبين يبدو في قضايا سياسية لا تتفق فيها إسلام آباد مع واشنطن من آن إلى آخر، ويتصاعد الأمر خاصة حين تقترب الولايات المتحدة من الهند على حساب باكستان، وحين تلعب بأوراق القضية الأفغانية بما يستبعد إسلام آباد من المعادلة أو يقلل من وظيفتها لاعبا مهما في المعادلة السياسية بجنوب وشرق آسيا وفي مقاومة ما تسميه الولايات المتحدة باسم الإرهاب.
التحديث
يمتاز المجتمع المسلم المعاصر في شبه القارة الهندوباكستانية عموما بالجمع الغريب بين التقليد والتحديث، فمثلا ما زال هناك كثيرون من الأطباء يعالجون الناس بطب ابن سينا والرازي إلى جانب أنواع الطب الأخرى المعروفة في العالم، وما زالت الموسوعية العلمية القديمة ميزة للكثير من العلماء، إلى جانب أصحاب التخصص العلمي الدقيق.
فالعالم الواحد يجمع بين التبحر في اللغة والفقه والحديث والتفسير وعلم الفلك القديم والجديد، بل قد نندهش حين نجد أحد المولوية يناقش أفكار أينشتاين منذ حوالي 100 عام مستندا إلى أفكار الفيزيقا والفلك القديم، وهكذا.
ومن هنا بدا أن الشخصية الواحدة في هذه المنطقة قد تتجاور أو تتصالح فيها عناصر يندر أن تجتمع إلا في عصرين متباعدين، فأبو الكلام آزاد سياسي كبير وعالم متبحر في علوم الشرع، وله تفسير للقرآن الكريم.
وكذلك عناية الله مشرقي رياضي عالمي كبير وله خواطر مهمة حول القرآن الكريم، ومحمد إقبال شاعر وفيلسوف وصوفي أشبه ما يكون بمولانا جلال الدين الرومي، ويعرف الأردية والفارسية والعربية والإنجليزية والألمانية، ودرس في جامعات إنجلترا وألمانيا.
مهما يكن، فإن هذا التجاور بين العناصر التقليدية وعناصر التحديث معهود في التاريخ المعاصر لشبه القارة عموما، لكنه تجاور متراكم -إن صحت العبارة- تحقق في عهود طويلة من الزمن، وعن طريق الاحتكاك مع الفكر والثقافة الغربية والاحتلال البريطاني الطويل للمنطقة.
غير أن الجديد في فكر الرئيس مشرف هو أنه يطرح برنامجا تحديثيا متحديا بقوة وصراحة ممثلي التقليد في البلاد، ومخالفا سنة التدرج، ولا يعطي الدين، وهو السمة الأبرز في الأمة الباكستانية، أكثر من قيمة عنصر فولكلوري مؤقت -كما هو في مشروع أتاتورك- أو دائم، كما قدمه الفكر القومي العربي.
وهذا في الحقيقة واحد من تجليات الأزمة الإسلامية المعاصرة مع التحديث، إذ يعتقد -كما نستكشف ذلك مثلا من رؤية طه حسين لمصر في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" – أن التناقض طبيعي بين القديم والجديد، فلا يجتمعان، وأنه لا بد من ترك كل تقليدي مهما كان أصيلا ومهما، لأجل التحديث، مع أن كلا من الجديد والقديم فيه بطبيعة الحال ما يرد وفيه ما يقبل.
والمشكلة الأخرى في مشروع التحديث الباكستاني الحالي هي أنه مشروع انتقائي، يحدث قطاعات من المجتمع ويهمل أخرى باعتبارها خصما لا يرجى أن يغير مواقفه، حيث تختفي -بتأثير المواجهة الأميركية لما يسمى الإرهاب- حتى محاولات الحوار والتفاهم العادي مع من يسمون بالمتشددين والتقليديين، وهم وأنصارهم يمثلون نسبة كبيرة من الشعب الباكستاني.
وفي ظلال هذا التعرج الذي تعاني منه خطوط التحديث في باكستان، بحيث تتبنى إستراتيجية للمواجهة العلنية مع قطاعات معينة من الأمة والتحالف مع أخرى، من الطبيعي أن تزيد التناقضات في جسم الكيان القائم، وهو لم يكن يملك منها قليلا في الأصل، ولكنه تأقلم مع القديم منها منذ زمن، حين قام مشروع الدولة على يد جميع أطياف الوطن.
ومشكلة هذه التناقضات الجديدة الصارخة أنها إما أن تصنع مواجهات خطيرة، لا تبدو أحداث "لال مسجد" إلا واحدا من تجلياتها، حتى يصفو الجو لأحد الطرفين، ولو مؤقتا، وإما أن تظل التجاذبات زمنا طويلا حتى يحدث التصالح القسري على خلفية من التنازلات من الطرفين.
وثمة احتمال ثالث، هو الأسلم على كل حال، وهو أن يلجأ الغرماء إلى الشعب الباكستاني بأمانة وشفافية تامة ليقول كلمته من خلال صناديق الاقتراع.
ومع هذا يلوح في الأفق الباكستاني الآن ما يشبه الاتفاق على عقد صفقات سياسية اعتادتها التجربة الديمقراطية الباكستانية، بحيث يحتفظ الرئيس بجزء من السلطة ويشاركه أحد الأطراف الحزبية الديمقراطية (بينظير بوتو خاصة) بجزء آخر، ويترك للإسلاميين شيء من فتات المائدة، وهو ما يحتمل أن يسكن إليه الجميع حفاظا على الدولة وعلى القنبلة النووية إزاء التهديدات المحيطة.
فرص النجاح
مهما بدا من الاشتراك الظاهري في بعض الخصائص الشخصية بين مشرف وأتاتورك، مثل الإصرار والتحدي والحسم، ومهما بدا كذلك من التطابق بين برنامجيهما وتقليدية بلديهما، فإن هناك فروقا مهمة بين الشخصين والمشروعين والأجواء التي عاشا فيها ستحدد بالتأكيد مستقبل المشروع القائم.
وأهم هذه الفروق ما يلي:
أ- بنى أتاتورك الدولة قبل أن يفرض الأيديولوجيا، ولم تأت خطواته التغييرية الخطيرة إلا بعد أن بنى لنفسه مجدا عريضا -بالحق أو بالتآمر- بإخراج الحلفاء من تركيا بعد الحرب العالمية وبهزيمته لليونان وتكوين جيش تركي يعتد به ويواليه تماما وبتأسيس الجمهورية، فتحرك "الغازي" في علمنة تركيا من موقع قوة صعب على خصومه أن يئدوا مشروعه.
وفي مقابل ذلك لا يبدو الرئيس الباكستاني في نظر خصومه إلا مختطفا لدولة كانت قائمة قبله، حيث أتى به انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول 1999، وساعدته في الاستمرار أجواء الحملة الأميركية على "الإرهاب".
ب- امتلك مشروع أتاتورك عنصر المفاجأة في قراراته بدرجة كبيرة، فحرم خصومه من مجرد الاحتياط، بحيث إن الرجل الذي بنت عليه الأمة الإسلامية آمالا عراضا في النهوض بها فاجأها بنقيض ما ادخرته له تماما.
وقد بدت الخديعة والآمال متجاورين من خلال أشعار انطلقت من هنا وهناك تمجد أتاتورك بلسان العرب، منها قول أحمد شوقي الذي لم يكن المخدوع الوحيد في هذا:
الله أكبر كم في الفتح من عجب**يا خالد الترك جدد خالد العرب
وكان لمسلمي شبه القارة نصيب كبير في التعبير عن هذه الآمال، ومن ذلك قول أديب الهند محمد إعزاز أمروهي (ت 1955م) عن بعض انتصارات أتاتورك:
باتوا أمانيهم قد مثلت لهـــم
فتربتها سيوف "المصطفى" البطل
هذا الذي تعرف اليونان وطأتـه
هذا حسام لقهار على القهـــل
وقول محدث الهند محمد شاه كشميري (ت 1934م) عن اليونانيين والإنجليز:
فاستـدرجوا حتى تفارط أمـرهم
في الغي والطغيـــان والعـدوان
حتى تدارك رحمـــة من ربنـا
من دولة الإســلام من عثمـان
"المصطفى الغازي الكمال" فهدهم
صرعى وهلكى هل ترى من غان
من جهبذ ماضي العزيمة صــارم
حامي الحقيقـة فــارع مـزدان
وفي المقابل لا يفتأ الرئيس مشرف يصرح بأهدافه ويعلن عن إستراتيجيته لتحقيقها، ما يحرمه هذه الميزة التي تمتع بها أتاتورك.
وأخيرا نتساءل: هل نجح مشروع مصطفى كمال في علمنة تركيا وقطع جذورها الإسلامية أصلا؟ وهذا السؤال بالغ الأهمية في سياقنا، لأن الإجابة عليه تسهم في بيان الجدوى من اتخاذه مثلا يحتذى.
ساحة النقاش