القيمة والشيء المشهد الفلسطيني نموذجا جدلية الحياة تبدو العلاقة الأميركية بإسرائيل فريدة من نوعها في التاريخ كله، فمع الغيرية المؤكدة بين الطرفين بحيث إننا نقر بأن كل واحدة منهما كيان سياسي غير الآخر، فإن السياسة الأميركية تناصر المواقف الإسرائيلية بدون تمييز بين ما يخدم المصلحة الأميركية وما لا يخدمها، وكأن إسرائيل نفسها صارت مصلحة أميركية عليا لا تُقدَّم عليها مصلحة! القيمة والشيء وهذا معناه أن السياسة الأميركية فقدت التمييز بين القِيَم والأشياء، حيث إن القيم تظل مفعولات عقلية وروحية محترمة وربما مقدسة بإطلاق لدى الجماعات الإنسانية، وتأخذ الأشياء مكانتها الإيجابية أو السلبية وفقا لصلتها بالقيم موافقة ومخالفة. أي أن الإنسان باعتباره شيئا -وكذلك هذا الطعام أو هذا الشراب أو العلاقة بشخص ما– يأخذ قيمته الإيجابية بتوافقها مع القيم التي يحترمها البشر. أما أن تؤيَّد مواقف إسرائيل بإطلاق، فهذا معناه انقلاب الموازين، وتحول القيم إلى تابع للشيء، فما دامت إسرائيل فعلت فهي على صواب!!
وإذا شئنا أن نتذكر في هذا السياق قولة أبي بكر الصديق عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– في أحداث الإسراء: "إن كان قاله فقد صدق", فهذا لا يعني أكثر من الثقة الكاملة في التزام النبي –صلى الله عليه وسلم – بالقيم واحترامه لها، حتى صار هو إياها وهي إياه، ولو خالف قيم الصدق والأمانة وغيرها ما وقع من نفس أبي بكر هذا الموقع الكريم.
ليس غريبا بعدُ أن تؤدي هذه السياسة الأميركية إلى كثير من الحُمق.. كثير من المآسي.. كثير من التردي في حياة البشرية.. بل ليس غريبا أن تؤدي إلى ظهور "تنظيمات القاعدة" هنا وهناك، ووقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وشيوع الخوف في داخل أميركا التي كانت آمنة، وأشياء أخرى يحملها المستقبل لا يعلمها إلا الله.
إن الظلم يحفز قوى المظلوم لينتقم من ظالمه، ولو دفع المظلوم حياته لأجل هذا، فما بالنا إذا ساندت ذلك عقائد وأديان تدعو الناس إلى الانتصاف من ظالميهم ودرء الظلم عن أنفسهم قدر الطاقة؟!!
إن العقل السياسي الأميركي ضعيف النظر؛ لأنه لا يفكر في أبعد من الحدث الواحد وردود فعله، وكأن هذا العقل لا يدري أن الأحداث يتراكم بعضها فوق بعض في الوعي المذهول والوجدان المحترق للشعوب والجماعات المظلومة، فتؤدي إلى انفجار في لحظة ما بقوة قد تكون أكبر من تفجيرات السفارتين الأميركيتين في تنزانيا وكينيا وتدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.
لقد تعامل الأميركيون ودولتهم الحادثة مع الأمم التي صنعت حضارات العالم منذ القدم بالمنطق نفسه الذي تعاملوا به مع الهنود الحمر، بمحاولة محو الآخر وتذويبه بتمييع مواقفه وإخضاعه للإملاءات الأميركية، ولم يدركوا أن الهنود الحمر فقدوا الوسيلة التي تحميهم من عصا الحضارة السامة، ولولا التفاوت الهائل في الوسيلة بينهم وبين خصمهم العابر إليهم من القارة البيضاء لاستطاع هؤلاء المساكين المقاومة والبقاء فترة أطول.
إن شخصا عظيما مثل المسيح عليه السلام حفر في نفوس البشر -على اختلاف آرائهم ومعتقداتهم فيه– حبه واحترامه، لكنه حفر ذلك عميقا في نفوسهم بالجلال والجمال الذي رافق سيرته، مع أنه لم يكن يمنح أحدا مالا أو سلطانا.
وفي المقابل حفرت أميركا كراهيتها في نفوس كثير من الشعوب بأظافرها بل مخالبها، على الرغم من أنها أكبر مقدم للمعونات ومواد الإغاثة وأكبر داعم للمنظمات الدولية في العالم!
المشهد الفلسطيني نموذجا
والحقيقة أن المشهد الفلسطيني الحالي والموقف الأميركي منه يمثل حالة صارخة للسياسة الأميركية وطريقتها في إدارة الأزمات ومقابلة المواقف، حيث يقوم الموقف الأميركي بوظيفة القابلة التي تُولّد من الأزمة الواحدة أزمات عدة تشارك في تعقيد المستقبل -وربما الحاضر أيضًا– وتحول دون الوصول إلى الهدف الأميركي نفسه، وهو الآن أمن إسرائيل في مواجهة الفلسطينيين.
لا شك أن المشهد السياسي الفلسطيني منذ ظهور السلطة الفلسطينية جاء صناعة أميركية إسرائيلية لضمان أمن الدولة العبرية، وليس من السهل أن يسمح هؤلاء الصنّاع بأن يتدخل طرف مناوئ للاستفادة من مشهد صنعوه هم بأيديهم.
لكنهم نسوا أو تناسوا أن الذي اضطرهم إلى صناعة هذا المشهد المدريدي الأوسلوي هو المقاومة الفلسطينية التي دفعت رابين يوما إلى أن يتمنى لو استيقظ فأخبروه بأن قطاع غزة قد ابتلعه البحر!
وجعلت شامير يتنازل ويصافح أيادي فلسطينية كان يراها من قبل نجسة! ودفعت الجنرال القوي شارون إلى بناء الجدار العازل، ولا ندري ماذا كان سيصنع الأخير لو بقي حتى رأى أن الفلسطينيين لم يعودوا يتعبون أنفسهم بالعمليات الفدائية، فيكفيهم أن يصنعوا صاروخا قد لا يقتل أحدا، ولكنه يهز الكيان العبري من شماله إلى جنوبه، ويقلق آباء إسرائيل/الدولة في قبورهم على مستقبل كيانهم الصهيوني؟!
لقد راهن الأميركيون والإسرائيليون في صناعة المشهد الفلسطيني على فلسطينيين بدا لهم أنهم أكثر اعتدالا لمواجهة الراديكالية الفلسطينية التي تسعى إلى إزالة إسرائيل، فقدموا خيار السلطة الفلسطينية في أوسلو، وبدت ثقوب كثيرة في الثوب الجديد، فليس من مصلحة إسرائيل أن تقوى هذه السلطة، فسعوا إلى إضعافها وتفريغها من معناها.
وليس من مصلحتها أن تدرب هؤلاء "المعتدلين" على إدارة غزة والقطاع إدارة طبيعية جيدة؛ مخافة أن ينقلبوا عليها، وليس من مصلحتها أن تمدهم بالسلاح الثقيل حتى لا يقع في يد الراديكاليين، ففشلت السلطة لأجل هذا وغيره، ولم تصمد مليشيات فتح –في واحد من تجليات الفشل- في الأحداث الأخيرة أمام قوات مدربة بشكل أقل بكثير من الجيوش المحترفة للدول.
جدلية الحياة
نعم، حاول الأميركيون والإسرائيليون أن يسيطروا على خيوط المشهد الفلسطيني كلها عن طريق التحالف مع الاتجاهات الليبرالية والقومية ضد الإسلاميين المتصدرين للمقاومة.
فلما لم يجدوا بغيتهم في هؤلاء (وكامب ديفد عرفات باراك كلينتون شاهد على ذلك) لجؤوا إلى الطابور الخامس من الفلسطينيين –وهو ما لا يخلو منه مجتمع إنساني– مما جلب على الساحة الفلسطينية اقتتالا داخليا غير مسبوق، لكن من البعيد جدا أن يفلح هذا وأمثاله في تصفية القضية الأخطر في العالم لصالح الاحتلال.
مهما يكن فإن الدولة المهيمنة تستطيع أن تصوغ مشهدا سياسيا يخدم مصالحها، لكنها لا يمكن أبدا أن تتحول إلى إله يتحكم في كل عناصر المشهد، ويضبط إيقاعاته بحيث تظل خادمة لمصالحها وحدها.
وهذه هي جدلية الحياة البشرية الأبدية التي يتبادل فيها الخلق الأدوار والمواقع، بحيث لا يظل طرف مسيطرا إلى الأبد والآخر مغلوبا إلى الأبد: {وتلك الأيام نداولها بين الناس...}.
والأمم التي تتراكم عليها المتناقضات تغلبها السنن الكونية والاجتماعية لا شك، وما يفعله الأميركيون في عموم مواقفهم الدولية الحالية هو دعوة ملحة للسنن إلى أن تنتصف منهم؛ إذ كيف تقبل أميركا أن تطبَّق الديمقراطية على أرضها وشعبها، في وقت تدعم فيه أكثر من خمسين ديكتاتورا في العالم؟!
لقد جهزت أميركا العالم لكي ينفجر يوما ما في وجه سارقيه ومضطهديه، وأحسب أن قليلا من الظروف الدولية والمحلية المواتية يمكن أن يفجر الأوضاع في عشرات الدول بالعالم –على طريقة تشاوشيسكو في رومانيا ومن شابهه- جراء المواقف الأميركية الظالمة للشعوب.
وأما الأنظمة المتحالفة مع الأميركيين فلابد أن تدرك –ولو لأجل مصلحتها الشخصية– أنهم يعملون ضد السنن وضد شعوبهم وضد أنفسهم، وأن اللعنات الخافتة التي ترددها الشعوب سرا إنما هي دخان لنيران تتأجج، وما تنطق به ضمائر الشعوب هو حكم التاريخ كما سيعلنه المستقبل، وأن الفرص المواتية لانتصاف الشعوب قد لا تكون بعيدة منا.
إن إسرائيل تدرك أكثر من الديكتاتوريات المتحالفة مع واشنطن أن التفوق العسكري والتكنولوجي لا يضمنان لأميركا التصدر المستمر في قيادة العالم؛ لذا يدرس الخبراء الإسرائيليون منذ سنوات بدائل عن الحليف الأميركي مخافة أن تباغتهم التطورات بواقع عالمي تتغير فيه المعادلات الأساسية القائمة اليوم... (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)!
ساحة النقاش