تطور الديمقراطية يعتمد على عاملين
الديمقراطية الغربية واستيلادها
الشورى والديمقراطية
التأويل يتكئ على ركنين
نالت الديمقراطية –ذلك المنتج السياسي الغربي القديم– نصيبا كبيرا من اهتمام الباحثين السياسيين المعاصرين، معتبرين أنها أفضل نموذج ممكن لتسيير الحياة السياسية الداخلية للدولة الحديثة.
إلا أن النظر إلى الديمقراطية على أنها جسد استاتيكي ثابت لا يتعرض للتطوير هو من قبيل الخطأ، وفي نفس الوقت ظلم للتجربة الإنسانية التي أنتجته وأهدته إلى الأجيال والأمم الأخرى لتواصل التقدم بالنموذج مع التطور الكبير الذي تتعرض له حياة الإنسان من عصر إلى آخر.
تطور الديمقراطية يعتمد على عاملين
وعند النظر في هذا الجانب سنجد أن تطوير الديمقراطية يترتب على شيئين:
أولاً: النقد النظري الذي يطرحه المفكرون حول الديمقراطية
فقد تعرّض النموذج الديمقراطي للنقد الشديد منذ القدم، وعلى يد المفكرين والفلاسفة اليونان أنفسهم، وتركزت مآخذهم الأهم فيما يلي:
1– في ظل النظام الديمقراطي يعيش الناس حسب أهوائهم (كما رأى أرسطو وأفلاطون ويوربيدس وإيسوكراتيس)، بمعنى أن الحرية فيها مطلقة العِنان تماما، وإن صادم الفعل الحر القيم الثابتة والأخلاق المحترمة.
2– الديمقراطية "تنشر نوعا من المساواة بين المتساوِين وغير المتساوين على حد سواء" -كما عبر أفلاطون– والناس كما ينطق الواقع ليسوا جميعا متساوين، بل يتفاوتون في المواهب والقدرات ومستويات الإدراك وغير ذلك.
3– في النظام الديمقراطي "تصبح جمهرة الشعب هي الحاكمة بدلا من القانون، يحدث هذا عندما يكون للقرارات فاعليتها أكثر مما للقانون" – كما قال أرسطو (انظر: أ. جونز: الديمقراطية الأثينية، ترجمة د. عبد المحسن الخشاب، ص 72 – 85).
وقد أثيرت مثل هذه الانتقادات حديثا وزيد عليها، واهتم كثير من "الإسلاميين" أيضا بتوجيه سهام النقد الشديد إلى النموذج الديمقراطي باعتبار المرجعية الفكرية المغايرة التي انبثق منها، وبالنظر إلى وجوه التصادم في الأسس التي يقوم عليها النموذج قياسا إلى الأساس العقائدي الذي يتكئ عليه الفكر السياسي الإسلامي.
والحق أن النقد الكاشف لبعض العيوب لا يستلزم ضرورةً هدم المعبد كله، ولكنه يعني الحاجة إلى تطويره فقط، وهنا أشير إلى فكرة الفيلسوف الكبير كارل بوبر حول أسلوب النقد الذي يقوم عليه العلم، ويكفل "تعريض النظرية لأقسى اختبار ممكن لتعيين الأخطاء وحذفها" (بوبر: أسطورة الإطار في دفاع عن العلم والعقلانية: ترجمة د. يمنى طريف الخولي – مقدمة الترجمة ص 10)، فالنقد هنا عملية إيجابية تنمو بالمنتج البشري –عقليا كان أم ماديا- وتُعِده ليكون أكثر صلاحا للتطبيق وتحقيق الفائدة للجماعة البشرية.
ثانيا: مآزق التطبيق التي تتعرض لها الديمقراطية
مشكلات التطبيق هي المحك الثاني الذي يُثبت حاجة أي منظومة إلى التطوير، أو إمكانية استمرارها كما هي، وقد تعرضت الديمقراطية لمآزق متكررة يمكن من خلالها فهم حاجات النموذج كي يصير أقرب إلى ضمان الاستقرار وتنمية الحياة عند تطبيقه.
1- ومن هذه المآزق ما حدث في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2004م، حيث تقدم زعيم الجبهة الوطنية الفرنسية "جان ماري لوبان" الموصوف من الجميع بأنه "يميني متطرف" لينفرد في جولة الإعادة مع منافسه جاك شيراك، ويهدد الحياة السياسية الفرنسية بعاصفة قادمة.
وأكد الاندهاش العالمي والتظاهرات الصاخبة في الشارع الفرنسي عقب ظهور النتائج بتقدم لوبان في هذه الجولة أن الفائز قد يكون هو الشخص الآخر الذي يعارض عمومُ الناخبين تقدمه، ولكنه فاز فقط لمجرد خلل في التوازنات وتناحر في صفوف الفرقاء الآخرين. مما يعني أن الإجراء الديمقراطي يقدم قاعدة صماء، لا تأتي دائما بمن ترغب أغلبية الشعب فيه.
2- هذه الرسالة من البر الأوروبي سبقتها رسالة أخرى منه تحمل نفس المغزى العام، وتمثلت في فوز "اليميني المتطرف" أيضًا يورج هايدر في الانتخابات النمساوية متفوقًا في كسب أصوات الجماهير على خصومه جميعا، وهو ما يعني أن الجماهير قد تتعرض لعملية دغدغة إعلامية ودعائية تسوقها إلى خيار قد لا يكون هو الأفضل لها، كما تسوق الإعلانات التليفزيونية المكثفة الناس إلى شراء ما لا يحتاجون!.
الديمقراطية الغربية واستيلادها
أما الحديث عن الديمقراطية الغربية واستيلادها في عالمنا الإسلامي، فليس إلا حديثا عما ينبغي أن نأخذه وما ينبغي أن ندعه من التجربة الحضارية الغربية عمومًا، وهي مشكلة قديمة يدور الجدل الحاد حولها في الساحة الإسلامية منذ أكثر من قرن، وافترقت الآراء فيها بين ثلاثة خيارات:
أ- "حَرْفية" في النقل ترى أخذ الكل أو ترك الكل.
ب- و"قطيعة" لا ترضى إلا بالبراء التام الذي لا يميز أصلا من فرع، ولا يفرق بين ما لدينا بديل عنه وما لا يتوافر لدينا بديل عنه، بل لا تتميز لدى أصحاب هذا الاختيار المجالات التي يجوز الانتفاع بإنتاج الآخرين فيها من غيرها.
ج- و"حكمة" تتحسس مواضع النفع والإفادة فتأخذ بقدر، وتكيِّف ما تأخذه مع الواقع الإسلامي المتميز عن الواقع الذي استُجلبت منه التجربة.
وقد جربنا اختيار "الحَرْفية" في التغريب في تونس منذ الاستقلال عن فرنسا وإيران الشاه وتركيا الكمالية وغيرها، وحصاد هذه التجارب لا يخفى على أحد، فنسبة الفساد الإداري والأخلاقي وانتهاك حقوق الإنسان والاستئثار بالسلطة في هذه العهود بتلك الدول ظلت هي الأعلى في العالم.
وجَرّبتْ اليمن قبل الثورة وعُمان حتى أوائل السبعينيات العيش في تجارب الماضي بلا محاولة للنهوض والتطوير الذاتي أو الانتفاع بما لدى الآخر، وكانت النتيجة أن جُرِفَت التجربتان كلتاهما في تيار الحياة الحديثة المتصاعد، وصراعِ أيديولوجيات الحرب الباردة الذي دفع القوى العظمى إلى العمل على زيادة مواطئ أقدامها في أنحاء العالم قدر استطاعتها.
أما اختيار "الحكمة" فلم يأخذ حظه المناسب من التطبيق في الساحة السياسية الإسلامية إلى الآن، وتحاول دولة كإيران أن تقدم نموذجا لهذا الاختيار، لكنها إلى الآن اكتفت بالإبهار في انتخابات الرئاسة والبرلمان، دون أن تقدم تجربة متكاملة مقنعة في الأخذ والتوظيف، والجمع بين القيم الخاصة وأشكال الممارسة الحيادية، سواء اكتشفناها نحن أم توصل إليها غيرنا.
الشورى والديمقراطية
وحسب اختيار "الحكمة" عند النظر إلى الديمقراطية لابد أن نؤكد أنها ليست مقابِلة للشورى، لأن الشورى مبدأ لابد له من منظومة سياسية تطبقه، في حين أن الديمقراطية منظومة سياسية تحاول قيادة الحياة الداخلية للدولة، وليس هذا مدحا للديمقراطية ولا تقليلا من شأن الشورى، ولكنه تحديد وظيفي لهما.
لقد أقر الإسلام الشورى كمبدأ من مبادئ الحياة الاجتماعية والسياسية للمسلمين، مِثْلها مثل العدل وأداء الأمانة إلى أهلها، وتَرَك أشكال تطبيقها في الحياة السياسية لاجتهاد الأمة؛ لأن أكثر أمور السياسة تقع في منطقة السماح التشريعي، أي ضمن الموضوعات التي حكمها الإسلام بمبادئه وأسسه العقائدية دون أن يفصل في بيان أحكامها وأنماطها كما فصل في أعمال الصلاة والحج مثلا، نظرًا لتعرض السياسة للتغير المستمر حسب ظروف الواقع البشري.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الانتفاع بالتجربة الديمقراطية الغربية عندنا وارد في باب رعاية المصالح، ومن باب استمداد الحكمة -الخادمة لهذه المصالح- أنَّى وجدناها، ومن أي فمٍ خرجت.
وفي الوقت نفسه لا يلزمنا أن نأخذ هذه الديمقراطية بحذافيرها وأسسها العقائدية، بل يجب أن نطوِّعها بحيث تصير أكثر مناسبة لنا. وأبعد من ذلك يمكن أن نطورها لتتلاشى سلبياتها، ونقدم منظومة سياسية حديثة تتجاوز الديمقراطيةَ نفسَها كما فعلت أجيال من أسلافنا في زمنها.
إن الديمقراطية هنا أشبه ما تكون بالدواوين التي نقلها المسلمون عن الفرس والروم في عهد عمر بن الخطاب، ثم عرّبوها في عهد عبد الملك بن مروان، فالديمقراطية تعني المشاركة والاختيار الحر وصندوق الاقتراع والمجلس النيابي ورقابة الأمة، والدواوين أطر وظيفية تقوم برعاية مصلحة عامة من مصالح الأمة المسلمة (ديوان الخراج مثلا) أو مصلحة خاصة بفريق منها يعيش في ظرف خاص أو يقوم للمجتمع بوظيفة خاصة (ديوان الجند مثلاً).
التأويل يتكئ على ركنين
ولعل أنسب ما نسمي به عملية تطويع النموذج الديمقراطي هذه هو "تأويل الديمقراطية"، وهي عملية تتكئ على ركنين:
الأول: استبعاد الأسس التي تتصادم مع المسلمات القِيَمية لنا, مثل إعطاء الجماهير أو من ينوب عنهم حق التشريع المطلق، وتحل بدلا من ذلك قضية الاجتهاد التشريعي التي تتم بالتعاون بين العالم الشرعي وخبراء الشأن الذي يتم الاجتهاد فيه.
الثاني: إضافة العناصر الأكثر مناسبة لواقع التطبيق عندنا، ولعل منها: المساواة بين الناس في أصل المواطنة، بحيث يكون لجميع الراشدين -رجالا ونساء ومسلمين وغير مسلمين- حق التصويت بصوت واحد، ومن نبغ من هؤلاء وبرز في خبرة من الخبرات أو علم من العلوم ضوعفت قيمة صوته دون غيره.
إن النموذج الديمقراطي يدور حول الإنسان، ويعزز موقعه في صياغة الحياة العامة التي يشارك فيها، وفي الإسلام يشغل الإنسان مكانا أبرز من هذا، حيث يمثل قطب الرحى في الحياة المخلوقة عامة، فالوحي ينزل لهدايته، والمطر يهطل لشرابه وطعامه، والحساب في الآخرة على الحسنات والسيئات خاص به في المقام الأول، وكذا تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والبحار والأنهار وتمهيد الحياة لعيشه فيها، وإمداده بالإمكانات التي تساعده على ممارسة الحياة، إلخ.
وهذه المقارنة تعني أننا أولى من غيرنا -على مستوى النظر والتطبيق- بأن نكرم الإنسان، ونشركه في صناعة الحياة في بلادنا مباشرة وبشكل حقيقي.
ساحة النقاش