ليست مشكلة الرسوم الغربية التي أساءت إلى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم إلا مشهدا مكررا يعبر عن الاختلاف المفاهيمي والقيمي العميق بين قطبي العالم الثابتين: الشرق والغرب، خاصة حين يتعلق الأمر بقضية من قضايا "حرية التعبير" والفكر.

وقد بدا ذلك من قبل في مواقف مماثلة، منها: إساءة الكاتبة البنغالية تسليمة نسرين إلى بعض المفاهيم الإسلامية، وتجريح الأديب الهندي الأصل سلمان رشدي لشخص النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الأكرمين، ودراسات الأكاديمي المصري نصر حامد أبو زيد حول القرآن الكريم باعتباره نصا تاريخيا نسبيا، ومواقف غيرهم ممن يكرمهم الغرب ويمنحهم جوائزه، في حين ينظر إليهم المسلمون باعتبارهم مارقين.

وبناء على هذه الطبيعة التي عاشتها التجربة الغربية: غاب المقدس وغير المقدس لحساب القانوني وغير القانوني، ولأجلها لم يدرك الغرب إلى الآن الفرق بين الدين الذي رفضه (المسيحية الغربية) والدين الذي ينتقده في مثل هذه المواقف (الإسلام).

فكلها "دين" والدين من شأنه أن يتسلط على ملكات الإنسان وحقوقه فيصادرها أو ينتقصها -كما عاينوا في تجربتهم- وهو جدير بأن يتحول إلى خيار شخصي مقلم الأظافر، أي بلا دولة ولا سلطة، والدين في هذا مثله مثل غيره يمكن انتقاده أو هجاؤه دون حساسية.

وأما التجربة الإسلامية المعاصرة -باعتبارها جزءا رئيسا من الشرق وباعتبار ذاتها الخاصة كذلك- فهي نتاح أمرين أيضا.

الأول: ماض يستمد أسسه من الدين باعتباره ركيزة للحياة القائمة والحياة القادمة (الآخرة)، وهو ما سمح بتحديد دائرة صلبة الجوانب للمقدس الإسلامي لا تقتَحم، والجسارة هنا لا تعني إلا الخروج على الدين في عمومه.

وتختلف دائرة المقدس هنا عما هي عليه في الأديان الأخرى، حيث سمحت هذه الأديان لدائرة المقدس فيها بأن تتسع فتضم جديدا، وتضيق فتستبعد بعض العناصر الكلاسيكية منها، فقد قبلت الهندوسية المعاصرة في رحابها حتى مَن اكتفى بمجرد التقديس الشرفي لكتابها "الفيدا" وقام ببعض الرياضات الدينية.

كما استبعدت اتجاهات مسيحية عريضة أفكار الخطيئة الموروثة والصلب والفداء من أدبياتها، وتنازل اليهود المعاصرون –إلا الاتجاهات الأرتوذكسية والمحافظة منهم وليسوا بأكثرية- عن اعتبار العهد القديم وحيا مقدسا وعن فكرة التميز الذاتي لليهود (شعب الله المختار).

وهذا التباين في الموقف من دائرة المقدس يمكن أن يفسر لنا جانبا من الحماسة البالغة التي تميز مواقف المسلمين تجاه أي تجريح يتعرض له القرآن الكريم أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو مسجد (البابري بالهند، وأكثر من هذا الأقصى بفلسطين مثلا) أو معنى ما من المعاني الإسلامية.

الثاني: قامت التجربة الإسلامية الحديثة على شيء آخر، وهو الكفاح المرير ضد الغزو الخارجي، وإنتاج واقع وطني متشابك ومختلف عن الواقع التراثي للمسلمين السالفين، وهو في الوقت نفسه غير موافق على بيع الهوية والتاريخ للغزاة.

ومن هذا وذاك نشأت مشكلات التوفيق الصعب بين ثلاثي الأصيل والجديد والوافد، وظهر الاختلاف العميق في الأفكار المطروحة لنقل الواقع الإسلامي إلى الأمام بين سلفية حرفية، وتغريبية تقدِّم العنصر الحضاري المستورد على حساب العناصر الذاتية الأصيلة.

لقد احتوى المقدس القانوني وصار مصدرا أساسا له لا يقبل المصادم شريكا في مفهوم الشرق الإسلامي التراثي، وورث المسلمون المعاصرون أصول هذا المفهوم، وإن بدا لديهم غائما شيئًا ما.

لكن الواقع الآن يسير أمامهم بقوانين وضعية مستوردة في الغالب ولا هيبة لها لولا عصا السلطان، فتعيش الجماهير المسلمة منذ أكثر من قرن –لأجل ذلك- ممزقة بين المفاهيم التي تؤمن بها والواقع الذي تعاينه.

واللافت للنظر في زلزال الرسوم وتوابعه هو أن كلا الطرفين -الإسلامي والغربي- يحاسب الآخر في مواقف رد الفعل من منطلقه هو المحدد سابقا.

فالغرب –حتى على مستوى المفكرين والمؤسسات المستقلة عن الدولة– ينتقد بشكل مكرر حالات انتهاك حرية التعبير في عالمنا الإسلامي مهما تكن تلك الأفكار الممنوعة (راجع بعض حالات ادعاء النبوة مثلا)، وفي المقابل لا يتردد العالم الإسلامي عن الاحتجاج الصارخ على الإساءة إلى شخص أي نبي، وإن كان للغربيين علاقة قوية به.

وقد بدا ذلك بوضوح في رفض المسلمين للفيلم الشهير "آلام المسيح" ومقاومتهم انتشاره، والاحتجاج على نشر صور خيالية لنبي الله موسى عليه السلام، وفي الحالين قُدم المقدس من قبل المسلمين متجاوزا للقومي، وحتى القانوني (الغربي) بشكل كبير.

ولعل الأهم والأخطر كذلك هو أن مواقف الفعل الغربي تجاه المسلمين تصدر مراعية لمنظوره هو وحده، حيث لا يرون أنهم يخالفون "القانون" بالتعرض لشخص النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق (والتراجع ليس أكثر من التفاف براغماتي على الموقف، وسيبقى ثابتا من وجهة نظر أدبياتهم أنهم لم يخطؤوا).

وغاب عنهم أن القانون في أصله ليس مجرد مجموعة من القواعد التي تبيح أشياء وتحظر أشياء أخرى، وأن الالتزام الأخلاقي بوجوب طاعة القانون الذي يقول به القانونيون الغربيون أنفسهم يعني أن القانون لا ينفرد وحده بسياسة حياة الناس، حيث تشاركه أصول أخلاقية أوسع منه مدى، وهي وحدها يمكن أن تلزم الإنسان باحترام خصوصيات الآخرين، ووضعِ بعض الأشياء والأشخاص بعيدا عن مرمى التجريح والاستهزاء.

وعلى هذا الأساس لا يعرضون لشخص المسيح عليه السلام مثلا بمثل هذا التجريح.

 

المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 150 مشاهدة
نشرت فى 12 مايو 2010 بواسطة Drnabill

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,646