يعيش مفهوم الإصلاح في أعماق الأمة الإسلامية بأشكال متعددة، فسِيَر الأنبياء كما يحكيها القرآن الكريم تقدم نماذج لإنقاذ الأرض من البوار التام، إذ لو تركت الأقوام الكافرة والعاصية لآثامها وذنوبها لأكلتها الآفات الأخلاقية، فيكون مجيء النبي ليس لمجرد إنقاذ الناس من الانحراف العقائدي والعبادي، ولكن لتجديد الإقامة البشرية فوق الأرض وتجنيبها عوامل الفناء الذي ينتجه الانطفاء الأخلاقي والحضاري للمجتمع الإنساني.

كما يعيش مفهوم الإصلاح في أعماق هذه الأمة أيضا بما نراه في صفحات تاريخنا من توالد المصلحين حتى في أحلك الظروف، فلا يخلو جيل من هذه الأمة منذ بُعث نبيّها –عليه الصلاة والسلام- من صالح ولا عالم، أو من مدرسة علمية ولا مدرسة إصلاحية تقوم بدور الحادي الذي ينبه الناس إلى ما ينبغي إحياؤه وما ينبغي تركه من العلم والعمل.

مفهوم الإصلاح يعيش في أعماق هذه الأمة كذلك بهذا الحديث الخالد: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى أبي داود والحاكم في المستدرك والبيهقي عن أبي هريرة، وقال: صحيح). ورأس المائة سنة هنا لا تعني بالضرورة رأس القرن الهجري، حيث إن التأريخ الإسلامي بالهجرة أو غيرها من الأحداث لم يكن معروفا أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم– وإنما بدأ في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– فلا يجب أن يفهم رأس القرن الذي يشير إليه الحديث على أنه بداية كل قرن هجري ضرورة.

وقد شهد العصر الحديث محاولات كثيرة للإصلاح العربي والإسلامي، ومنها ما أطلقنا عليه في أدبياتنا اسم "النهضة العربية الحديثة"، وقد أدى الارتباط الزمني بين هذه النهضة وبين الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798–1801) إلى اعتقاد الكثير من المفكرين والمؤرخين في الغرب والشرق وجود ارتباط سببي بينهما، وأنه لولا هذه الحملة العسكرية الشرسة لما نهض العقل العربي الحديث، ولما تجاوز مأساة التخلف والظلام الحضاري الذي كان يحياه.

والحقيقة أنه من الصعب أن ننكر أهمية الصدمة الحضارية التي نتجت عن التلاقي الغربي الإسلامي أثناء هذه الحملة خاصة، إلا أن تحليل حدث النهضة العربية الحديثة، وهو حدث كبير بلا شك، وإسناده إلى عامل واحد وخارجي في الوقت نفسه تحليل ناقص؛ إذ لا يلاحظ كون الظاهرة المحلّلة مركبة، ولا أن القوى الإيجابية الكامنة في الأمم وعوامل الفاعلية الذاتية شرط ضروري لحدوث الحراك الحضاري.

وكدنا في هذا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبعد أن تحولت دفة "القوة الأولى" في العالم من شواطئ الأطلسي الشرقية إلى شواطئه الغربية، نكرر الأغلوطة من جديد، وذلك حين أعلن الأميركيون عن ضرورة أن تنهج الأنظمة العربية نهجا ديمقراطيا في إدارة بلدانها، وأعلنوا تبنيهم خططا تدعم هذا الأمر.

نشطت لذلك الدعوات الداخلية العربية إلى الإصلاح، وأحس بعض المتفائلين منا بأن قليلا من الدعم أو الدفع أو حتى الحياد الأميركي تجاه الموقف العربي الداخلي سيكون كافيا لتغيير الحال التعس، ولو عن طريق انتخابات تعبر بصدق عن رأي الشعوب بعيدا عن الصناديق الجاهزة وتعنت سلطة الداخل ضد أي تغيير.

ولو جرت الأحداث في هذا المسار، لانطلق المفكرون والمؤرخون بعدها بالقول إنه لولا الدفع الغربي (الأميركي هذه المرة) في اتجاه الديمقراطية لظل العالم العربي والإسلامي أسيرا للثقافة الدكتاتورية ردحا طويلا من الزمن وربما إلى الأبد.

وكأننا وفقا لهذه التحليلات، ناقصو أهلية؛ نملك القدرة على التأثر فقط ولا نملك القدرة على الفعل المستقل، فضلا عن التأثير في الآخرين.

حقيقة كدنا نكرر أغلوطة النهضة العربية والثورة الفرنسية، لولا التردد ثم التراجع الأميركي عن دعم الديمقراطية في المنطقة العربية، حيث أدت الحسابات الأميركية في المسألة إلى توقعات راجحة بأن لا يأتي هذا الدعم بنتائج في صالح الأميركيين، وأيدت ذلك النماذج الواقعية في انتخابات العراق ومصر وفلسطين.

ولأجل هذا تركت السياسة الأميركية قاطرة الإصلاح العربية تواجه مصيرها وحدها وسط عوامل دفع وعوامل تعويق تتضمنها خريطة الواقع العربي والعالمي عموما.

ومع هذا، فليس من الغريب أن تبقى السياسة الأميركية تجاه المنطقة العربية واحدا من أهم العوامل الخارجية المؤثرة في جهود الإصلاح الداخلية في العالم العربي، إذ إن تخلي الأميركيين عن دعم الديمقراطية والإصلاح في العالم العربي، ولو بشكلها غير المشروط، لا يعني أنها نأت بنفسها عن تلك الساحة، بل أنها تنظر إلى الداخل العربي –كما هي العادة– بمنظار المصالح الأميركية.

وتلفت النظر هنا حالتان قائمتان للتعامل الأميركي مع القضايا العربية، الأولى هي إعادة الأميركيين كامل علاقاتهم الدبلوماسية مع الجماهيرية الليبية فجأة مؤخرا، وهو أمر لم يأت نتيجة تغيير حقيقي في نهج الحكم الليبي، ولا بعد إضفاء شيء من الديمقراطية على أنماط إدارة الدولة، وإنما فقط بعد الاطمئنان التام إلى تفكيك ما سمي بالمشروع النووي الليبي، واستجابة طرابلس لكل المطالب الغربية بالتعويض عن حوادث التفجير التي اتهمت ليبيا بالضلوع فيها، وأشياء أخرى قد تفاجئنا الأيام بالكشف عنها.

وعلى النقيض من هذا يأتي الموقف الأميركي من الصومال، حيث يدعم الأميركيون زعماء الحرب الذين حطموا كيان الدولة الصومالية، وفشلوا في تحقيق الاستقرار حينما حاولوه، وذلك ضد المحاكم الإسلامية التي هي جهد شعبي حاول أن ينتشل البلاد من الفوضى في انتظار أن تأتي حكومة منتخبة من الشعب تتسلم مقاليد الأمور في البلاد، لتبني على ما بذله المجتمع المدني الصومالي من جهود رائعة بالقياس إلى إمكاناته القليلة.

إذن الذي يحكم الموقف الأميركي من حركات الإصلاح العربية في البداية والنهاية هو مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها، خاصة إسرائيل، وليس الديمقراطية ولا غيرها.

بل إن محاولة تسكين الديمقراطية في المنطقة هي نفسها بحث عن المصلحة الأميركية، كما يسهل فهمه من تصريحات المسؤولين الأميركيين عن ما سمي "دمقرطة المنطقة".

ولكن قاطرة الإصلاح العربية لا تتأثر بالعامل الأميركي وحده، فهناك عوامل الداخل التي هي أكثر تأثيرا عليها، وأخطر هذه العوامل اثنان:

1 - عقلية الحكم العربي المطالَب بالإصلاح: وأمامه ثلاثة خيارات؛ فإما أن يفاجئ التاريخ بمواقف غير متوقعة ويتبنى مشروعا إصلاحيا يقود الأمة به مثل الحالة الماليزية إسلاميا.

وإما أن يسلك سبيل الالتفاف على المطالبة بالإصلاح بإجراء تغييرات شكلية يبقى معها أصل الحال كما هو.

وإما أن يواجه المطالبين بالإصلاح مواجهة عنيفة، ويستمر مسلسل القبضة الحديدية. والأخيران أمران شائعان في أغلب التجارب العربية مع دعوات الإصلاح إلى الآن.

2 - الطبيعة العقلية والتكوينية للحركة الإصلاحية نفسها: وهي في الواقع القائم تقع بين الضغط الداخلي والضغط الخارجي المؤجل إلى مراحل أكثر حساسية، وبقدر استعمال الحركة قدراتها وطاقاتها المادية والمعنوية في مواجهة تعقيدات الواقع الداخلي والدولي يمكن أن تنجز الإصلاح أو شيئا منه.

وفيما يخص الداخل ينبغي أن يُطَمئن دعاة الإصلاح والتغيير الحكومات إلى أن الإصلاح الحقيقي يأتي في مصلحة الجميع، بل سيكون إنجازا تاريخيا عظيما للحاكم الذي ينجزه (محاضر محمد نموذج الحالة الماليزية).

كما ينبغي أن لا يخدع دعاة الإصلاح بسياسات الالتفاف على مطالبهم الأساسية فقها للقاعدة العُمرية "لست بالخب ولا الخب يخدعني".

وأما السياسة الحديدية فلا تقدر على إطفاء الجذوة المتقدة، وكما قالوا: الضربة التي لا تكسر الظهر تقويه، وقد أدرك الأميركيون هذا الأمر الأخير في تعامل الحكومة المصرية القاسي مع الدعاة إلى الإصلاح ومؤيدي القضاة في مصر، فعبرت الولايات المتحدة عن قلقها تجاه هذه السياسات؛ لأن الأمر قد يؤدي إلى اضطراب أو انفجار غير محدد العواقب.

أما بالنسبة للخارج، فلابد أن نقرر بلا تردد أنه ليس من مصلحة جهود الإصلاح العربية أن تستظهر بأميركا أو غيرها من قوى الخارج؛ لأن تحقيق أهدافها بهذا الطريق يعني أنها غير مؤهلة أو لا تمتلك القدرة الكافية على الانتقال بالأمة إلى حال أفضل، كما أنها إن نجحت فستجعل مصيرها أسيرا للخيارات التي يقع عليها الخارج (النموذج العراقي).

ولا يغيب عنا هنا درس التحرر من الاستعمار منذ أربعينيات القرن الماضي، حيث أثبتت حركة التحرير مصداقيتها أمام الجماهير بما انتهجته من سبيل الإصرار على التحرر التام من الاحتلال العسكري بدون استقواء بالخارج.

ولكن حركة التحرر هذه فشلت، من جهة أخرى، في مواصلة السير بالأمة إلى الأمام لأنها لم تنظر أبعد من قدميها؛ أعني أنها بحثت عن التحرير بمعناه الضيق، وهو خروج العساكر الغربية من البلاد، وإن كان مطلبا مهما، ولكنه لم يكن كافيا.

وهذا يعني أن حركة التحرير كانت في حاجة إلى حركة إصلاح سياسي وفكري واجتماعي تكمل المسيرة، وهو ما نأمل أن تقوم به جهود الإصلاح الحالية.

ولكن، ماذا نقول عن العائق الخارجي لعملية الإصلاح في العالم العربي: كيف نتجنبه؟

وفي الجواب أقول: إن قضية الإصلاح بشكل عام تقع –كما سبقت الإشارة- بين عوامل متعددة بعضها عامل دفع ومؤازرة للحركة الإصلاحية، وبعضها عامل تعويق، وربما تحطيم لجزء من جهود الإصلاح.

ومحاولة تقوية عوامل الدفع وإضعاف عوامل التعويق هي إستراتيجية الفعل التي ينبغي أن يلتزم بها الإصلاحيون، ويقترن بذلك تسويق المشروع الإصلاحي على نطاق جماهيري واسع، تعزيزا لوجوده في عقل الأمة ووجدانها.

ومن هنا يصبح اقتلاع الإصلاح من جذوره، حين يمثل مشروع أمة، أمرا لا تستطيعه أي قوة خارجية أو داخلية، وهذا ما يهمنا: أن تبقى عملية الإصلاح فسيلة حية في تربة الوطن تستطيع الأجيال أن تتناوب على محاولات استنباتها حتى تنمو وتستغلظ وتستوي على سوقها، ثم يتبع ذلك الإزهار والإثمار الحضاري العظيم.

إن قاطرة الإصلاح العربية لا تستطيع ببرامجها ومواقفها الثابتة أن تنجز بعض أهدافها فحسب، ولكن تستطيع أن تسهم أيضا في مراكمة التناقضات فوق صورة خصومها في الداخل والخارج.

وهذا هو الأمر الذي يخنق –ولو بالتدريج– أعتى القوى، ويضعها في تناقضات صارخة في المفاهيم والمواقف، ولكن المعول عليه أولا هو القوة الذاتية للإصلاح وليس انتظار مواقف الآخرين.

 

المصدر: د/نبيل الفولي
  • Currently 90/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
30 تصويتات / 499 مشاهدة
نشرت فى 12 مايو 2010 بواسطة Drnabill

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,643