موقع أ .د حسنى ابوجازية ( الغابات والبيئة )

ادعى " حيدر " شاب في العشرين من عمره ، ولدت في مصر ..... و لكنى لست بمصري ، فوالدي " المنصور " من العراق أما والدتي " زينب " من الكويت , دولتين عربيتين شقيقتين تصارعتا معاً لأسباب تافهة .. رغم هذا الصراع إلا أن والدتي أحبت والدي ... و عندما تقدم والدي بطلب زواجها إلى والدها رفض ، لم ييأس والدي و اعترضت والدتي كثيراً على رأى والدها و دافعت عن حبها لوالدي , و عندما استمر رفض جدي لهذا الزواج ، قررا الهروب معاً و لكن إلى أين .. أيظلوا في مكان أخر في الكويت أم يرحلوا إلى العراق ؟؟ ، إلى أن استقروا على الرحيل إلى مصر لتكون مأوى و مستقر لحبهم .

 

عاشوا في مصر بأحد أحياء القاهرة الشعبية , فلم يكن والداي أغنياء ، امتزج والداي مع الأهالي المصريين حيث الحب و العلاقات الطيبة و البساطة في المعاملات ، و كانوا يجتمعون في الأعياد و في الفرح و في الحزن ...

 

ولدت بعد مرور عام .... و أول ما رأته عيني هي مصر و شوارعها و أهلها ، فمنذ طفولتي و أنا أعيش داخل الشارع المصري ، ألعب مع جميع الأطفال ، أحبهم و يحبوني ... و لكن ليست بالدرجة التي أحببتها بها ، فتاة تصغرني بعامين .. تدعى " حنان " اسم على مسمى فهي مليئة بالعطف و الحنان ... كنت أترك الجميع و أذهب إليها ، ألعب معها و أجلس بجوارها ، من يرانا سوف يرى طفلين صغيرين يلعبان ، و لكن الحقيقة أنى أرانا حبيبان يتغازلان .

دخلت المدرسة الابتدائية و تفوقت بها ، ثم انتقلت إلى المرحلة الإعدادية ، و عندما دخلت المرحلة الثانوية أحسست بطبيعة شعوري نحوها ... أحبها ... لم استطع أن أبوح لها بحبي ، فنحن صغيران و ابسط شئ أن يقول أهلنا أنها العاب صبيانية ، كما أنى لست مصري و لا اعلم هل أنا عراقي أم كويتي .... فما هو مصيري ؟؟!!! .

 

تصاعدت مشكلة العراق مع أمريكا ... و أصبح " صدام " في نظر الأمريكان طاغية ، زعيم الإرهاب و الشر ، عدو للإنسانية ... لذلك يجب أن يُحارب و يُقتل ، و تصبح العراق دولة تتمتع بالعدل و الحرية و حقوق الإنسان كما يدعى الأمريكان .

ضربت أمريكا العراق و دمرتها ، فجن جنون والدي و لم يستطع التفكير ، فقرر العودة لوطنه لكي يدافع عنه ، صرخت والدتي في وجه والدي و عارضته بشدة ، فكيف يذهب و الجميع يفرون من هناك ، أيذهب إلى الجحيم و الدمار ؟؟ .

والدي صعب الإقناع ... و أصر على قراره بالرحيل إلى سوريا و منها سوف يصل إلى العراق ، لذلك صممت والدتي على أن نرحل جميعنا ، إذا كان والدي يريد الرحيل من مصر ، و عندما استمر الجدل و النقاش وافق والدي ...

و لكنني قبل السفر كنت أفكر في اصدقائى الذين أحبهم و يحبونني .... " حنان " حبيبة قلبي هل سأسافر قبل أن أصارحها و أبوح لها بحبي ؟! .

 

كنت أفكر و أفكر إلى أن وجدتها ... وجدت الحل ... سوف اكتب لها رسالة ، و لكن ماذا سأكتب فيه ؟! و كيف سأعطيه لها ؟! ، و بالفعل كتبت رسالة كل ما به جملة واحدة " احبك – حيدر " ، ووضعته داخل قصة كنت قد استعرتها منها ، بهذه الطريقة سوف تصل إليها الرسالة دون أن أرى رد فعلها ، ذهبت إلى بيتها و أعطيتها الرسالة ... اقصد القصة ، رحلت مهرولاً خائفاً من رد فعلها .

عدت إلى البيت و دخلت غرفتي و أغلقت بابها ، كنت أفكر ما هو رد فعلها ، تخيلتها حين تقرا الورقة ، أتبتسم و تسعد أم تتضايق؟!!! .

بعد مرور ساعة ... جاءت ألينا " حنان " و معها والدتها ، اصابنى الذعر و الخوف ، هل أبلغت والدتها و جاءوا ليشكوني لأمي ، لم اخرج من غرفتي ، قلبي يخفق و عيني تدمع .... فجأة سمعت طرقان على باب غرفتي ، تسألت من ؟ ، فجاء الرد " حنان " أنها هي ، مسحت دموعي و قفزت لكي افتح الباب ، وجدتها أمامي ، مدت يدها و سلمت علىّ فخفق قلبي سعيداً ، اعطتنى قصة و قالت لي إنها رواية جميلة يجب أن أقرأها ، ثم ابتسمت و ذهبت ، كنت أنوى أن امسك يدها و اطلب منها ألا تذهب ، و أن تبقى معي و نقرا القصة سوياً ، أغلقت باب غرفتي و أمسكت القصة ، اعتقدت أن بها جواب ترد فيه على ما أرسلته إليها ، ارتجفت خائفاً و أخذت أتصفح القصة .... لم أجد اى رسالة أو ورقة ، فتصفحت القصة مرة أخرى لعلى أجد اى ورقة ، لم أجد شئ ... طويت القصة ، و اصابنى حزن شديد ، وقع نظري على عنوان القصة " قلب بلا مأوى " شدني العنوان و تذكرت ما اوصتنى به ، فأخذت أقرا القصة .. حقاً رواية جميلة تحكى قصة حب بين اثنين لم يجدوا مأوى لحبهم ، ابتسمت و تراقصت عيناي عندما وصلت للجزء الذي تبوح فيه بطلة الرواية بحبها لحبيبها ، لقد وضعت " حنان " خطوطاً بيديها تحت بعض الجمل ، تخبرني بهذه الجمل أنها تحبني ، و في نهاية القصة كتبت جملة بخط يدها ، تخبرني بأنها سوف تقابلني في الساعة الخامسة أمام الميدان ، نظرت إلى ساعتي ... ماذا لم يبقى امامى سوى نصف ساعة على الميعاد ، سارعت لتجهيز نفسي ، ثم ذهبت لكي أقابلها ... رأيت ملاكي .. رأيت حبيبة قلبي الصغير ، تحدثنا كثيراً و تصارحنا بحبنا ، فكل واحد منا اخبر الآخر بحقيقة شعوره ، و ابتسمت عندما علمت أنى كنت خائف عندما جاءت مع والدتها إلى منزلي ، اخبرتنى أن والدتها أرادت أن تسلم على والدتي قبل سفرنا ... تواعدنا على أن نبقى سوياً ، و أننا سوف نتراسل أثناء سفري حتى أعود و نتقابل مرة أخرى ، و تعاهدنا أيضاً على الزواج و الإخلاص ....

 

من يرانا سيبتسم ضاحكاً ، فقصتنا في رأى الأغلبية مراهقة ، شاب صغير في السابعة عشر من عمره و فتاة صغيرة ، فقط هذا كل شئ و ليس بحب ... و لكن الحقيقة عكس ذلك فالحب الصادق يولد في الصغر ، حيث لا تعرف القلوب شئ سوى الحب النقي ، دون اى غرض أخر .

عدت إلى البيت ... دخلت غرفتي و ارتميت على سريري .... لم استطع النوم ، كنت أتذكر ما حدث و ظللت ابتسم حتى أشرق يوم الرحيل ، سنرحل من دُرّة الشرق " مصر " ، ذهبنا إلى المطار .... كان والداي منشغلان بالحديث أثناء الطريق إلى المطار ، و استمر حديثهما أثناء انتظارنا للطائرة ، جاء ميعاد الطائرة ..... حان وقت الرحيل .... بكت عيني و كانت تبكى عينها – عين حبيبتي – و هي في غرفة نومها ببيتها ، فانا اشعر بها و أحس بها ، كما أنها تحس بما اشعر ، تخيلتها أمام عيني ... تودعني بنظراتها ، صعدنا إلى الطائرة فأرسلت إليها سلامي ، ظلت أمام عيني حتى أقلعت الطائرة فغاب عن نظري خيالها و لكنها لم تغب عن قلبي .

 

وصلنا إلى سوريا ، كان ينتظر والدي بعض أصدقائه من العراقيين الموجودين في سوريا ، انتقلنا إلى المنزل الذي سنقيم به ، المنزل يوجد بحي شعبي يشبه كثيراً الحي المصري ، دخلنا المنزل ووضعنا أغراضنا ... لم أحب المكان رغم انه جميل فسوريا بلدٌ رائع ، لكنى لم أرى سوى مصر وطن حبيبتي ، فلقد تركت قلبي هناك .

تركنا والدي الذي خرج لكي يقابل أصدقائه ... علمت منه عندما عاد أنهم قرروا السفر عبر الحدود إلى العراق لكي يدافعوا عن وطنهم ، تشاجر والداي لأول مرة في حياتهم ، كان السبب أن والدي قرر السفر للعراق بمفرده ، لأول مرة منذ أن تقابلا و تزوجا سيفترقان ، انتهى الشجار بموافقة والدي على أننا سنسافر جميعنا ، ذهبت إلى النوم ، و في الفجر ....!  ، استيقظت على صرخات والدتي ، فأسرعت إليها ، ارتمت في حضني و هي تبكى ، لقد رحل " المنصور " رحل حبيب قلبي و تركني ، رحل والدك و تركنا بمفردنا ....

مر عام كامل على رحيل والدي عنا و ذهابه إلى العراق ، انقطعت أخباره بعد مرور شهر واحد على رحيله ، اشتقنا لوالدي كثيراً ... كما اشتقت لرؤية حبيبتي " حنان " ، منذ أول وهلة لي في سوريا و أنا لم استطيع التأقلم مع أهلها ، ليس لسبباً فيهم فهم طيبون و ودودون و لكن ليس بينهم من أحب ، كنت أرسل ل " حنان " الخطابات و هي ترد عليها .

 

الأحوال في العراق تزداد سوءاً ، و القتلى كثيرون و في كل مكان ، لم يسلم شيخ أو طفل أو امرأة ، الجميع يصاب و يموت من القذائف الأمريكية و طلقات قوات مشاة البحرية الأمريكية ، أو يقتل على ايدى المجانين الذين يفجرون أنفسهم ليس في القوات الأمريكية و لكن في أقاربهم و أعمامهم و أبائهم و أبنائهم من العراقيين ، بدعوة أنهم يحررون الوطن ، هل يقتل العراقي أخاه ليدافع عن وطنه ؟! .

 

احتل الأمريكان العراق ... ليس كما يدّعون و لكن لنهب و سرقة خيرات العراق ، فعم الخراب و الدمار ، الانفجارات و القتلى و السرقات علانية في كل مكان ، العنف و الإرهاب ، الصراعات الأهلية بين السُنة و الشيعة و الأكراد ، و الوطن الواحد يتفرق و يتمزق ، كذلك ما يريدوه حتى يستمر احتلالهم لها ، العراق يتمزق كأنه شاه قد ذبحت ، و يتصارع على أكلها الجائعون دون انتظار طهيها ....

إلى أن جاءت لحظة الحزن ... اللحظة التي جاء إلينا فيها خبر موت والدي ، مات البطل ... مات شهيداً و هو يدافع عن حرية بلاده .... فمات أثناء قيامه هو و بعض أصدقائه بقذف طائرة هليكوبتر أمريكية بالاربيجيه ،فبعد أن أسقطوها ضربتهم طائرة حربية أخرى بقذائفها .... فماتوا جميعاً ... ماتوا شهداء .... لم يموتوا بتفجير أنفسهم بين أخوانهم العراقيين ... ماتوا شهداء .... كما مات الكثير من الشهداء الذين يفجرون أنفسهم و لكن بين قوات الاحتلال الامريكى .

 

ساد الحزن على والدتي ، و استمر بكاؤها الشديد على والدي مما أدى إلى ضياع نظرها ، لم نستطيع البقاء في سوريا ، قررت أن أعود مع والدتي إلى مصر ، و لكن قامت السلطات السوية بمنعنا ، حيث تم ترحيلنا نحن و باقي العراقيين اللاجئين إلى العراق حسب الاتفاق بين البلدين ....

عندما وصلنا إلى بغداد كان المرض قد اشتد على والدتي ، و قبل أن تذهب إلى المستشفى التي كان مقرر لها أن تتلقى العلاج بها ... تُوفيت ... أصبحت وحيداً يتيماً ... قُتَّل والدي و ماتت امى حزناً على موته ، حتى حبيبتي التي أحبها ، و كانت تهون على مأساتي ، لا استطيع أن أراها ، حتى اخبارى انقطعت عنها بسبب رحيلي إلى العراق ، لم يكن السبب بيدي ، فقد كتبت لها الخطابات و لكنها لم تصل بسبب ظروف الحرب .

 

لم أجد مأوى لي سوى مسجد صغير ، يقع بقرية صغيرة خارج الموصل ، كنت أقيم و أنام بداخله حتى جاء يوم ..... قبل صلاة العصر ، كان الناس مجتمعون داخل المسجد ، دخل شاب مهرولاً إلى المسجد ، و لولا رحمة الله ... لانفجر المسجد ، فعندما دخل الشاب من باب المسجد ، فجر نفسه لينتشر القتلى و الجرحى في كل مكان ... ما الذي أوصل هذا الجنون لهذا الحد ... المسجد و المصلون لم يسلموا من يد الإرهاب ، نعم هذا إرهاب و ليس عملاً وطنياً .

جاءت القوات العراقية و معها بعض الجنود الأمريكان ، و قاموا بالقبض على من بقى داخل المسجد للتحقيق في الحادث ، عندما علمت القوات العراقية أنى من أصل كويتي ، ابلغوا الأمريكان الذين قاموا بالاتصال بجدي في الكويت ، فاعتقدت انه سياخذنى إلى الكويت ، و أخيرا سيصبح لي وطناً و مأوى ، بعد مرور أسبوع فوجئت بان جدي أرسل محامياً ، قام المحامى باخراجى و ابلغني بان جدي قد قرر أن يرسلني إلى فرنسا ، لكي ادرس و أعيش هناك ، فهو لا يرغب بان يكون له حفيداً من أب عراقي ، و كأن العراق عار على جبين العرب ، أبلغت المحامى أنى أريد السفر إلى مصر بدلاً من فرنسا ، اتصل بجدي الذي وافق بسرعة ، لم يرد أن يراني أو حتى يتحدث معي هاتفياً ، جهز المحامى إجراءات سفري و مكان اقامتى في مصر ، و اخبرني أن جدي قد وضع لي حساباً في احد البنوك المصرية .

 

عندما وصلت إلى مصر .... ذهبت إلى  الحي الذي كنا نعيش فيه ... ذهبت لأرى حبيبة قلبي " حنان " ... فوجئت أنهم قد انتقلوا إلى مكان أخر ، لا يعلمه احد من اهالى الحي .

 

مرت ثلاثة أشهر و جاء ميعاد الجامعة ... ذهبت في أول يوم لي ، و جلست وحيداً في احد أركان المدرج ، قبل بدء المحاضرة وجدت فتاة تجلس بجواري ، و تدعوني باسمي ...؟!  ، فالتفت إليها ... إنها هي " حنان " نعم نحن معاً في نفس الجامعة ، فبسبب سفري للعراق تأخرت عامين عن دراستي ، كنت اكره هذين العامين لما بهما من حزن ، و لكن أصبحت أحبهما ، فبدون هذين العامين ما كنت سأكون مع " حنان " في نفس المرحلة الدراسية .

 

تحدثنا كثيراً بعد المحاضرة ، و أخبرتها بما حدث لي ، و قامت باخبارى بما حدث لها أثناء سفري ... ثم ذهبنا إلى منزلها ، سلمت على والدها و والدتها و أخواتها ، الذين رحبوا بى كثيراً ، و أبلغت والدها بما حدث معي ، كما صارحته بحقيقة شعوري تجاه ابنته ، و أنى أريد أن أتزوجها ، فابتسم ضاحكاً ووضع يده على راسي ، ثم قال لي انه ليس لديه اى مانع ، و لكن .. يجب الانتهاء من دراستنا اولاً ، و الحصول على الشهادة الجامعية ....

هكذا ابتسمت لي الحياة مرة أخرى ، و أصبح لي املاً قوياً و هدفاً للحياة ، الآن فقط وجدت مأوى لي و لحبي .... و لكن هل يصبح هذا المأوى وطناً ؟؟؟ ، و هل أخيرا و بعد مرور عشرين عاماً على مولدي أصبحت منتمياً إلى وطن ؟؟؟ ، أتكون مصر مأوى لقلبي و وطناً له ؟؟!!! .حسام سعد الدين عوض عسكر

المصدر: من مؤالفات وخواطر المهندس الزراعى الشاعر حسام سعد الدين عوض عسكر
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 249 مشاهدة
نشرت فى 9 إبريل 2011 بواسطة Drhosney

ساحة النقاش

د حسنى عبد العظيم ابوجازية

Drhosney
يعرض الموقع العديد من الموضوعات البيئية المتعلقة بالغابات والنبانات المختلفة والصور والالبومات المرتبطة بطبيعة عملى كأستاذ بجامعة الاسكندرية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

461,404