أصبحت مسألة الحب الإلهي في الحقيقة موضوعًا رئيسيًّا للشعر عند الصوفية في أواخر القرن الثاني الهجري على يد رابعة العدوية (ت185هـ) التي أحبت الله لذاته، لا خوفًا من ناره، ولا طمعًا في جنته، فهي: " أول من أدخلت هذا المعنى في التصوف الإسلامي بالمعنى الحقيقي الكامل للحب، لا مجرد التعبير بالألفاظ عنه تعبيرًا ظاهريًّا " (1)، فقد تغنى الصوفية بعدها به، واعتبروه مقامًا من مقامات السلوك ، أو حالاً من أحواله .

        على أن بعض المتأخرين من متفلسفة الصوفية قد غلبت عليهم عاطفة العشق الإلهي، وعبَّروا عنها في أشعارهم تعبيرًا فلسفي الطابع، وأدَّى بهم العشق إلى شهود الوحدة في الوجود شهودًا ذوقيًّا (2).

        ومن الباحثين من يرى أن العشق عند الصوفية يبدأ بالحب العذري، ثم يكون الحب الإلهي الشريف ، وينقل عن الكاتب والشاعر الفارسي عبد الرحمن الجامي مؤلف كتاب [ ليلى والمجنون ] أو [ الحب الصوفي ] الذي ترجمه الدكتور محمد غنيمي هلال أن الحب العذري ضرب من التصوف (3).

        وهذا يدفع إلى التساؤل : هل الحب العذري طريق إلى التصوف؟ وهل ما يقاسيه المحب في هذا الحب من أشواق ومواجيد وخلاف ذلك يفيد روحانيته؟ وهل يؤمن الناس بقدسية هذا الحب، أم أنه ضرب من الخيال ؟!

        من النقاط التي أثيرت واختلف حولها الرأي في المحبة والعشق الصوفي تلك التي تتصل باشتراط سبقها بالمحبة الإنسانية؛ أي التي تنشأ بين أفراد الناس .

        نجد أن د / كمال جعفر يقرُّ أن الكثرة الغالبة من الصوفية لا تعول على مثل هذا الشرط (4) ويؤيده في ذلك د/ عبد اللطيف العبد حين أكَّد أن الحب الصوفي لله تعالى ليس انعكاسًا لميول جنسية مكبوتة، وليس هو أيضًا حبًا قد تعثر من قبل، فكثير من الصوفية لم يسبق لهم الوقوع في حب بشري قبل تصوفهم (1).

في حين نجد أن ابن الفارض وابن عربي – كما سنرى - قد اتخذا من الحب العذري والعشق الإنساني طريقًا إلى الحب الإلهي والعشق الرباني، وهو ما أيدَّه د/محمد مصطفى حلمي في حال الحب عند ابن الفارض، فلم يستبعد أن يكون سلطان العاشقين قد أحبَّ حبًّا إنسانيًّا في أول عهده، ثم أقبل بعد ذلك على الله ، وجرَّد عزمه في حبه له، وإعراضه عمن سواه ، فكان لكل من الحبين صداه في شعره(2).

وبعد هذه المقدمة لم يبق لنا إلا أن نقف مع بعض أهل العشق من الصوفية:

عمر بن الفارض (ت632هـ) :

أصبح الحب من ابن الفارض بمثابة المذهب أو الدين الذي لابد منه، حيث يقول:

وَعَنْ مَذْهَبِي فِي الحُبِّ مَالِي مَذْهَبٌ

                                        وَإنْ مَلْتُ يَوْمًا عَنْهُ فَارَقْتُ مَلَّتِي

وَلَوْ خَطرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إرَادَةٌ

                                        عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا قَضَيْتَ بِرِدَّتِي(3).

        لقد وصل به الأمر إلى أن جعل نفسه ملك العشق، وكل العاشقين رعيته ، وحكمه عليهم نافذ ، بل ويحشرون تحت لوائه يوم القيامة، حيث يقول :

        نَسَخْتُ بِحُبِّي آيَةَ الْعِشْقِ مِنْ قَبْـلِي

                                                فَـأهْلُ الهَوَى جُنْدِي وَحُكْمِي عَلَى اَلكُلِّ

ويقول :

        يُـحْشَرُ العَاشِقُونَ تَـحْتَ لِـوَائِي

                                                وَجَــمِيْعُ المِـلاَحِ تَـحْتَ لِـوَاكَـا

 

 

ويقول :

        وَمُلْـكُ مَعَالِي العِشْقِ مُلْكِي وَجُنْدَي الـ

                                                مَـعَانِي وَكُـلُّ العَـاشِقِيْنَ رَعِـيَّتِي (1).

وابن الفارض يخلط في شعره بين الحب الإلهي والحب الإنساني، ويكاد هذا الخلط بين الحبين الإلهي والإنساني، يكون خطًّا شائعًا بين قصائد ابن الفارض كلها .

وقد أكَّد بعض الباحثين أنه ليس من اليسير على أي باحث أن يخضع أشعار ابن الفارض لمقياس نقدي واحد، أو أن يدَّعي أنها كلها بمثابة واحدة في دلالتها على معاني الحب الإلهي – ولو على سبيل الرمز والإيماء – فإن الكثير منها قد يصعب صرفه عن معاني الغزل الإنساني العادي إلا بضرب من الجهد والتأويل (2).

ففي ديوان ابن الفارض أبيات لا نستطيع أن نقف إزاءها مقيدين بقيود التلويح والإشارة، بل نحن مضطرون إلى أن نذهب في فهمها مذهبًا إنسانيًّا أو ماديًّا يجعل من الحب الذي يتغنى به الشاعر فيها شيئًا حسيًّا، ومن المحبوب الذي يذكره مخلوقًا آدميًّا، كهذا الذي يصوره الشاعر في قوله :

لَـَّما تَـلاقَـيْنَا عِشَـاءً وَضَمَّـنَا

                                        سَوَاءَ سَبِيْلِي دَارَهَا وَخِيَامِي

وَمَلْنَا كَذَا شَيْـئًا عَنْ الحَي حَيْثُ لاَ

                                        رَقِيْبَ وَلاَ وَاشٍ بِزُوْرِ كَلامِ

فَرَشْتُ لََهَا خَدِّي وِطَاءً عَلَى الثَّرَى

                                        فَقَالَتْ لَكَ الْبُشْرَى بِلَثْمِ لِثَامِي

فَمَا سَمَحَتْ نَفْسِي بِذَلِكَ غيْرَةً

                                        عَلَى صَوْنِهَا مِنِّي لِعِزِّ مَرَامِي

وَبِتْنَا كَمَا شَاءَ اقْتِراحِي عَلَى المُنَى

                                        أَرَىَ المُلْكَ مُلْكِي وَالزَّمَانَ غُلامِي (3).

فهل يصح من ابن الفارض، أو غيره، أيًّا كانت مكانته ومرتبته وحبه، أن يخاطب الله عزوجل بمثل هذه الأقوال، أو غيرها ؟!

وابن الفارض يخاطب من يحب تارة بضمير المفرد المذكر أوالمؤنث، وتارة أخرى بضمير جمع المذكر أو المؤنث المخاطب أو الغائب، وهو حين يذكر محبوبته تراه يسميها مرة ليلى، ومرة سلمى، وتارة مي ، وتارة أخرى سعاد .

وقد حاول د/ محمد مصطفى حلمي أن يجد تأويلاً لهذا فاهتدى إلى : " أن الذي يحتمل وجهين، أحدهما صوفي والآخر إنساني، أو الذي يحتمل وجهًا واحدًا إنسانيًّا يلاحظ عليه الضعف من الناحية الفنية سواء في ألفاظه ومعانيه وأخيلته ونفسه ومبلغ حظه من الانسجام يختلف اختلافًَا ظاهرًا عما تمتاز به قصائد الحب الإلهي الخالص من رقة اللفظ، ودقة المعنى ، وعمق الخيال ..."(1).

وحب ابن الفارض قد انطوى في صورتيه الإنسانية والإلهية على منازع فلسفية، يمكن أن ترد هذه المنازع على كثرتها إلى فكرتين لهما قيمتهما من الناحية الفلسفية: إحداهما فكرة الوحدة التي تنتفي معها الكثرة، والأخرى فكرة الخلق الصادر في عالمي المحسوس والمعقول عن الحب .

والباحث ليتعجب من موقف د/ محمد مصطفى حلمي الذي يقول:

" فليس من الإنصاف في شيء أن ينظر إلى ما وصل إليه ابن الفارض في حبه، وعن طريق ذوقه ووجده، نظرة ازدراء تجعل من فتوحاته محض أوهام ومجرد خيالات، أو إدراكات شخصية لا ضابط لها من العقل ولا غناء فيها..." (2).

هل يريد منا الإيمان بأن وحدة ابن الفارض – كما قال – وحدة شهود لا وحدة وجود، أم الموافقة على ما ذهب إليه في عشقه للذات الإلهية وتغزله بها؟! فإن فتوحات ابن الفارض المزعومة ما هي إلا مجرد خيالات لا ضابط لها من العقل .



(1) د/ عبد الرحمن بدوي: شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، ص 61، بدون تاريخ ، مكتبة النهضة المصرية، سلسلة دراسات إسلامية.

(2) د/ التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، ص 260 .

(3) د/ محمد إسماعيل إبراهيم: المعارج القدسية، ص 6- 9 ، 42 وما بعدها، بدون تاريخ ، دار الفكر العربي، القاهرة.

(4) د/ كمال جعفر: التصوف طريقًا وتجربة ومذهبًا، ص 74 .

(1) د/ عبد اللطيف العبد: الإنسان في فكر إخوان الصفاء، ص 239 .

(2) د/ محمد مصطفى حلمي: ابن الفارض والحب الإلهي، ص 150 .

(3) د/ محمد مصطفى حلمي: ابن الفارض سلطان العاشقين، ص 22، 1382هـ/ 1963م ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والطباعة والنشر .

(1)  د/ محمد مصطفى حلمي: ابن الفارض والحب الإلهي، ص 218 .

(2)  د/ عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الإسلام، ص 229 .

(3)  د/ محمد مصطفى حلمي: ابن الفارض والحب الإلهي، ص 153- 154.

(1)  د/ محمد مصطفى حلمي: ابن الفارض والحب الإلهي، 155 .

(2) نفس المرجع السابق، ص 232، و د/ عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الإسلام، ص 228 .

Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1307 مشاهدة
نشرت فى 2 يونيو 2012 بواسطة Dr-mostafafahmy

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

454,559