موقع العبد الفقير إلى الله تعالى المؤرخ أ.د/السيد محمد الدقن رحمه الله

غفر الله ورحم د/السيد محمد الدقن وزوجته وأدخلهما فسيح جناته

صحيفة الأهرام في 7 يوليو 2002

محروسة‏...‏ ذهاب بلا عودة‏!‏
تحقيق : محمد هندى
المحروسة أعرق وأفخم اليخوت المصرية ولعله اليوم أقدم اليخوت الملكية فى العالم على الإطلاق ومنذ أكثرا من مائة سنة يجوب سواحل البحر المتوسط رافعا الرأس شامخا بما يحمله من ذكريات ثلاثة أجيال من الزمان تعكس رائحة التاريخ ولعل أشدها نفاذا ذكريات عاهلين كانا ملئ السمع والبصر حملهما يخت المحروسة الى النفى ثم يعود ويلقى مراسيه على أعتاب قصر رأس التين كأنما يحاول أن يجد شبابا لا ينضب
ما أشبه الليلة بالبارحة والليلة هي السادس والعشرون من يوليو‏1952‏ والبارحة هي السادس والعشرون من يونيو‏1879,‏ ففي منتصف هذه الليلة الاخيرة أوقظ عاهل مصر الخديو اسماعيل من نومه في قصر عابدين ليسمع نبأ عزله عن حكم مصر بفرمان سلطاني‏,‏ وعلي المحروسة رحل الخديو إسماعيل  يوم‏26‏ يونيو‏1879‏ كما يقول الدكتور السيد محمد الدقن استاذ التاريخ‏.‏
واستدعي كبار ضباطه ممن فتحوا له قلب القارة السوداء حتي بلغوا خط الاستواء‏,‏ ولكن وجد منهم فتورا وترددا‏,‏ لقد فات الأوان‏!‏
فمن ثم استسلم إسماعيل لقدره.‏
وهكذا أحني الخديو رأسه للعاصفة‏,‏ وأعد نفسه لان يحمله المحروسة إلي منفاه ولكن إلي أين؟
فلما كان يوم الوداع الثلاثون من يونيه ــ خرج الخديو المعزول من قصر عابدين متكئا علي ذراع أبنه محمد توفيق وعلي مياه نابولي بأيطاليا أقام الخديو اسماعيل خمسة عشر يوما في المحروسة ولكن عندما فكر في أن يضمه إليه أنذرته حكومة القاهرة وعلي رأسها أبنه الخديو محمد توفيق بأنها سوف تقطع عنه المعاش السنوي الذي كان قد تقرر له إذا ما فكر في الاستيلاء علي المحروسة لانه من املاك الدولة فمن ثم انتقل إلي قصر فافوريتا المطل علي خيلج نابولي‏,‏ وتدور الأيام دورة لتودع علي ظهر المحروسة ـ الحفيد المعزول فاروق بصحبة ابنه الرضيع الأمير أحمد فؤاد في طريقهما إلي نابولي‏.‏
تؤكد رواية أخري‏-‏ كما يقول الدكتور السيد الدقن‏-‏ أن القائمقام سليمان عزت حضر إلي الميناء في ساعة متأخرة من ليلة‏24‏ وصعد إلي السفينة وأمر ضباطها بالتحرك إلي شاطئ المنتزه ولما عارضة بعض الضباط رد بأنه يتلقي أوامرة من القصر مباشرة وفي صباح اليوم التالي إقترب زورق يحمل علما من اعلام نادي اليخوت الملكية وعليه انطون بوللي سكرتير الملك للمعلومات والحلاق سابقا وصعد إلي السفينة وبعد قليل نقل إلي الزورق جهاز لاسلكي وعاد الزورق إلي قصر فكان الجهاز حلقة الاتصال بين السفينة والقصر‏,‏ ثم اتصل القصر بقائد السفينة‏(‏ صباح‏25‏ أو‏26)‏ وأبلغه بتحرك قوات الجيش فأنسحبت السفينة إلي الميناء ثم قدم قائدها إستقالته من السلاح ولكنها لم تقبل ونقل القائمقام سليمان عزت إلي إدارة الكلية البحرية‏(‏ تولي بعد ذلك السلاح البحري‏)‏ وفي الساعة الخامسة مساء وصل المحروسة إلي مساره أمام قصر رأس التين ويذكر السادات في كتابه البحث عن الذات في الاشارة إلي خروج الملك بعد التوقيع علي وثيقة التنازل تم أرسالها أي الوثيقة إلي الملك فوقعها وعلي الفور اتصلت بقائد المحروسة يخت الملك الخاص وطلبت إعداده للابحار بالملك وأسرته في السادسة مساء علي أن يعود اليخت إلي مصر بمجرد أن ينتهي من مهمته‏.‏ والمسلم به أن هذه التعليمات لاتصدر الا من رئيس الحكومة أو من القائد العام لان البكباشي السادات حتي هذه اللحظة لم تكن له صفه رسمية حتي يستجيب له قائد المحروسة وهو القائمقام محمود حمدي بك فضلا عن أن الذي قاد المحروسة بالفعل إستجابة لطلب الملك هو الأميرالاي بحري جلال الدين علوبة بك قائد اليخوت الملكية‏.‏ والمحروسة ليست يخت الملك الخاص بل هو من أملاك
الدولة وكان قد صرف علي تجديده نحو مليون جنيه في تاريخ سابق مما اثار ضجة في لجنة الميزانية بمجلس النواب حينئذا وأن التعليمات بالعودة بعد إنتهاء الرحلة صدرت بالفعل من رئيس الحكومة لان هذه الحالة يكون في مياه أجنبية فإذا حدث نزاع فيكون رئيس الحكومة هو ممثلها في هذا النزاع‏.‏
كان الموقف في ميناء الاسكندرية في الساعة الخامسة من مساء يوم‏26‏ يوليو علي النحو التالي كما يقول الدكتور السيد محمد الدقن أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر اليخت المحروسة علي مرسي قصر التين‏(‏ باستخدام قارب بخاري بين الرصيف وسلم اليخت‏).‏
مكتب فاروق داخل المحروسة
والنسافات والطرادات فاروق إبراهيم الأول ومحمد علي ورشيد وأبو قير تحيط بالميناء سفينة التدريب دمياط التي عادت علي الفور من لشبونة‏,‏ أما اليخت فخر البحار الذي يملكه الملك فقد كان مشتركا في مسابقة لليخوت علي مياه نابولي‏.‏
في الساعة الخامسة من المساء وصل الرئيس علي ماهر إلي قصر التين وكانت الجماهير علي طريق الكورنيش وحول ميدان رأس التين لم تترك سوي مجري ضيق لمرور سيارة رئيس الوزراء‏.‏
اجتمع الملك برئيس وزارته فترة في البهو العلوي من القصر وكان الملك يرتدي بدلة القائد الأعلي للأسطول البيضاء اللون ثم هبط علي ماهر إلي البهو الأرضي حيث السفير الأمريكي وعدد من رجال الحاشية منهم اللواء النجومي باشا والسكرتير الخاص الدكتور حسن حسني باشا والطبيب الخاص عباس الكفراوي باشا ووكيل الديوان أحمد علي يوسف بك‏.‏
وفي الساعة‏5.30‏ مساء‏,‏ نزلت الملكة ناريمان وعلي عينيها نظارة سوداء وبصحبتها أمها السيدة أصيلة وولي العهد تحمله مربيته وتبعتها الأميرات الثلاث فريال وفوزية وفادية‏.‏
أقل الملك يخت أبيض من اليخوت الملكية يصحبه بعض رجال الحاشية حمله إلي المحروسة وبمجرد صعود الملك إلي سلمها رفع العلم الملكي البحري الازرق عليها وعزفت موسيقي المحروسة السلام الملكي وأطلق الطراد الملك فاروق احدي وعشرين طلقة من مدافعه تحية للملك وقد اختير هذا الطراد لوداع الملك لان لواءه كان معقودا لأكبر ضباط البحرية وهو أميرلاي محمد محمود ناشد‏(‏ قائد عام البحرية بعد ذلك‏)‏ وكان علي ظهر الطراد البكباشي أنور السادات وعدد من ضباط الحركة‏,‏ لقد كانت تعليمات القيادة تقضي كما تم الاتفاق عليه مع رئيس الوزراء بأن يكون توديع الملك توديعا رسميا تتبع فيه كافة قواعد البروتوكول الخاصة بتوديع الملك عند سفره‏.‏
الساعة السادسة مساء في ميناء الاسكندرية كان مما أستقر عليه الاتفاق استكمالا لقواعد العرف الدبلوماسي أن يقوم القائد العام بوداع الملك وخرج القائد العام في عربة جيب من مقره بمعسكر مصطفي باشا وبصحبته القائمقام أحمد شوقي بك‏,‏ وبكباشي أ‏.‏ح‏.‏ حسين الشافعي قائد جناح جمال سالم وياوره الخاص يوزباشي اسماعيل فريد واتجه إلي قصر رأس التين إلا أن السائق ضل الطريق إلي مدخل القصر وحين دقت الساعة السادسة نظر الملك إلي ساعته واتجه إلي المرسي كما سبقت الاشارة‏,‏ وبعد دقائق وصل القائد العام وصحبه إلي البهو المؤدي إلي الرصيف البحري وكان رئيس الوزراء مازال واقفا‏,‏ وتحدث محمد نجيب في وصف ماحدث في كتابه كلمتي للتاريخ بقوله كما يضيف الدكتور‏.‏
غادرت مقر قيادة المنطقة الشمالية في وقت مناسب للوصول وغاب عني ما اعترضني أثناء الطريق من تجمع أهل الاسكندرية وازدحامهم لتحيتي وتعطيل حركة المرور‏,‏ كما أن السائق ضل الطريق فبدلا من التوجه إلي الميناء الملكي بقصر رأس التين توجه إلي ميناء خفر السواحل خلف القصر ولما عدنا إلي الميناء الصحيح كان الملك قد توجه إلي المحروسة منذ أربع دقائق أي في السادسة تماما كما جاء في الانذار الموجه له‏,‏ ووجدت علي ماهر وجيفرشن كافري السفير الأمريكي ومعه مستشار السفارة واسماعيل شرين ومحمد علي رؤوف وبعض ضباط الحرس وقد بدأ عليهم الوجوم وران عليهم الصمت‏.‏
ثم انتقل إلي مذكراتي الخاصة وتتضمن رواية للواء نجيب كما دونتها في حينها قال طلب مني علي ماهر عند وصولي أن أصرف النظر عن مقابلة الملك وكذلك أبدي الملاحظة جمال سالم بأنه لاداعي لها ولكني أجبته بأني أعطيت كلمة بأنني سأودع الملك بنفسي شخصيا ولابد من ذلك‏..‏ ومادام الملك قد حافظ علي كلمته فلم يتأخر عن الساعة السادسة فمن باب أولي أن أحافظ علي كلمتي‏.‏
حملنا اللنش بعد أن صعد علي ظهره وخلفي علي السلالم شوقي وجمال سالم وقال بعض زملائي إحذر حتي لاتقرب من عيون المحروسة‏(‏ أي ربما يطلق أحد أتباع الملك النار علي منها‏)‏ واتجه قائد اللنش إلي طرف المحروسة القريب من الميناء ثم انحرفنا موازيا له مارا بالملك الذي كان واقفا علي حاجز السفينة واضعا رجلا عليه وهو منحن قليلا فلم يأخذ باله لهذا لم يرد التحية العسكرية‏,‏ واعتقد قائد اللنش أن في هذه الكفاية وإن المأمورية انتهت فنبهته إلي انني سأودع الملك بالصعود علي ظهر المحروسة فقام بدورة كاملة حتي يرسي اللنش عند أسفل سلم المحروسة وكان مدلي فصعدت وخلفي الضباط الثلاثة والياور فوجدت الملك قد أعتدل في وقفته فحييته عسكريا ورد علي التحية فوقفنا صامتين نحو عشر ثوان‏,‏ فابتدأت الكلام وقلت يا أفندم أنني أسف للتأخير فقد أخطأ السائق في الاتجاه إلي ميناء السراي واتجه إلي ميناء خفر السواحل خلف السراي خطأ وهذه أول مرة يخاطب فيها شخص الملك بدوري مولاي‏..‏
أشكرك ولاتنس أن حكم مصر من أصعب الأمور وكان الله في عونك‏,‏ أوصيك خيرا بالجيش لأنه جيش أبائي وأجدادي‏(‏ قلت‏)‏ أعرف أن جدكم سليمان باشا الفرنساوي هو أول من أنشأه في عهد محمد علي سنة‏1820‏ م‏.‏
تقدم الرئيس محييا ثم تصافحنا فبادره‏(‏ أي محمد نجيب‏)‏ الملك السابق بقوله‏:‏ كنت أريد أن أراكم ولكني لم أتمكن من الانتظار بعد الوقت الذي حددتموه‏..‏ ثم تقدم الزميل قائد الجناح جمال سالم فوضع عصاه تحت إبطة الايسر وأدي التحية ثم مد يده مصافحا فلم يمد فاروق يده وقال اخفض عصاك فخفض العصي وتراجع خطوة للخلف أراح قدميه بأن أبعدها كلا عن الأخري تم كسر ركبته اليسري وأخذ يتأمله‏(‏ أي يتأمل الملك‏)‏ من أسفل إلي أعلي‏..‏ ثم ملا صدرة هواء ونفثه في وجهة وهنا انعقد الكلام في لسانه ولم ينبس بنبت شفه وكان خير خاتمة لهذا المشهد التاريخي‏.‏

 

المصدر: صحيفة الأهرام في 7 يوليو 2002، عدد 42216، السنة 126، http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/7/7/THAW3.HTM
DRDEQENSAYED

ربي اغفر وارحم عبدك السيد محمد الدقن وزوجته - نسألكم الفاتحة والدعاء وجزاكم الله خيرا ولكم بمثل ما دعوتم

  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 503 مشاهدة
نشرت فى 10 سبتمبر 2015 بواسطة DRDEQENSAYED

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

121,685

ابحث

موقع العبد الفقير إلى الله تعالى المؤرخ أ.د/السيد محمد الدقن رحمه الله

DRDEQENSAYED
يهدف هذا الموقع إلى نشر أجزاء من علم العبد الفقير إلى الله سبحانه وتعالى المؤرخ المصري الدكتور السيد محمد الدقن غفر الله له ورحمه، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، وكذلك نشر كل ما قد يكون في ميزان حسناته وحسنات زوجته رحمهما الله، نسألكم الدعاء والفاتحة للفقيد والفقيدة ولكم بمثل ما دعوتم »