بالألوان الطبيعية

 

(يوسف والأشباح) هو الاسم الأصلي لفيلم المخرج أسامة فوزي الجديد. والذي صناع الفيلم تبديله باسم (بالألوان الطبيعية). والسبب الوحيد الذي أراه ممكنا هو اعتقادهم بأن الاسم الثاني مناسب أكثر لمقاييس السوق والنجاح التجاري. لأن كل المقاييس الفنية والمنطقية الأخرى تميل لمصلحة الاسم القديم. الذي يشير ببساطة للصراع الأساسي والأبدي في الفيلم بين الفنان "يوسف"، والأشباح الأربعة التي تحيط به.

وإذا كان أسامة فوزي قد قام في فيلمه الثاني (جنة الشياطين) بتحطيم كل القيم الإنسانية والمجتمعية التي نشأنا وتربينا على كونها القيم الصحيحة. عبر قصة البطل الذي يكتشف السعادة في حياته وبعد موته عندنا يثور على كل القيم السائدة، ويقرر تحطيم كل قيود الأسرة والمال والمركز الاجتماعي بل والأخلاق والدين. ليعيش حياته بالشكل الذي يحلو له. فإن أسامة ومعه السينارست هاني فوزي يتجهان بالحكاية في الفيلم الجديد لمنعطف أكثر تخصصا. ربما كان يمس المخرج شخصيا بشكل مباشر. عبر محاولة فهم العلاقة التي تربط الفنان صاحب الموهبة (وهو يمثل بالتأكيد خطوة أكثر تقدما في الإنسانية عن البطل في جنة الشياطين) بما يحيط به من هواجس وقيود تقف في معظم الوقت في طريق تحققه الفني.

فالبطل هنا هو بوسف (كريم قاسم). الذي ندرك منذ اللحظات الأولى للفيلم أنه موهوب بالفعل. وأن الموهبة التي يمتلكها (بصورة خارجة عن إرادته وربما خارجة عن رغبته) هي التي تحركه ليتخذ قرار الالتحاق بكلية الفنون الجميلة. وهي الخطوة التي اتخدها ضد رغبة الشبح الأول ضمن الأشباح الأربعة التي تظهر له تباعا في الفيلم محاولة توجيهه لما يمثله كل شبح منها من قيمة انسانية واجتماعية. وهو ما سنتناوله بالتفصيل..



أشباح يوسف
الشبح الأول: العلاقات الأسرية / شبح الأم

أم تتمنى أن يحقق ابنها مجموعا كبيرا في امتحان الثانوية العامة ليلتحق بكلية الطب. وترفض التحاقه بكلية الفنون الجميلة باعتبارها مكانا سيفسد أخلاق الابن. وهي أول شبح يظهر ليوسف محاولا تغيير قرارته. فالدور الذي تلعبه انتصار يمثل قيود العلاقات الأسرية والارتباط ش. كأول قيد يراه أسامة فوزي في حياة الموهوب. وكم من موهبة ضاعت بسبب إلتحاق أصحابها بدراسة أو مهنة أخرى بسبب إلتزامهم بما تمليه عليهم الأسرة من تفصيلات!

الشبح الثاني: الدين / الداعية

هل يصلح الدين ليكون مقياسا للحكم على الفن؟ وهل يستطيع الفنان إذا ما استخدم حدود الدين كحدود شخصية له لا يتخطاها في إبداعه أن يعطي كل ما عنده؟ سؤال يجيب عليه المخرج بالرفض القاطع عبر مشهد بديع يجيب فيه الداعية عن استفسار بمدى مشروعية الفن الذي يدرسه البطل في الكلية بأن يطلب منه الابتعاد عن الفنون الغربية الكافرة والتعلم من العمارة الإسلامية البديعة. في نفس الوقت الذي يشير فيه لعمارة سقف المسجد حديث البناء الذي لا يمكن أن تمثل أي شكل من أشكال الفن!. وهي المفارقة التي تعكس بعبقرية وبأقل قدر من الخطابة استحالة الحكم على الفن بمقاييس الدين.

الشبح الثالث: الجنس / العاهرة

والحاجة للجنس حاجة أساسية للفنان والمبدع كما هي في حياة أي إنسان. ولكن إلى أي مدى يجب أن يسمح الموهوب للجنس وما يترتب عليه من ارتباط والتزامات بالتأثير عليه والتحكم في مسار قرارته. وعبر ثلاث حكايات ترصد تطور علاقة يوسف بالجنس (الزميلة والعاهرة والمُعيدة) يؤكد الفيلم في النهاية على ضرورة تخلص المبدع من قيود الجنس، وما يترتب عليه من التزامات. وذلك في سبيل تحقق البطل فنيا في النهاية.

الشبح الرابع: المهنية وحسابات السوق / الموديل

فالفنان كأي إنسان يحتاج أن يكسب المال لكي ينفق على احتياجاته الأساسية. بل أنه يحتاج المال بصورة أكبر من الشخص العادي قياسا بأن ممارسة الفن تحتاج لظروف مريحة تتيح للموهوب إخراج أفضل ما بداخله. ولكن كسب المال يحتم على الفنان الدخول في عجلة حسابات السوق والانخراط بها. مما سيأخذ بالتأكيد من طاقة ووقت الموهوب، وسيؤثر بالتدريج على موهبته بشكل سلبي. كما شرح الأستاذ والوالد الروحي (محمود اللوزي) ليوسف في أحد المشاهد الجيدة بالفيلم. ولكن على الطرف الآخر يقف الشبح الرابع (سعيد صالح). الفنان الذي لم يستجب لحسابات السوق لينتهي به الأمر بخلع ملابسه أمام الطلاب ليقوموا برسمه دون أن يكنون له أي قدر من الاحترام. وشخصية الشبح الرابع هي أكثر الشخصيات تأثيرا على حياة البطل. وهي التي أخذت أكبر وقت من شريط الفيلم حتى يتمكن يوسف من التغلب عليها (وربما لهذا السبب قلت أن الفيلم يمس جانبا شخصيا في حياة مخرجه!)


الذين سقطوا في الطريق

لم يفت على أسامة وهاني فوزي بالطبع الانتباه لحقيقة هامة. هي أن كلام الأشباح الأربعة منطقي للغاية. بل هو الأكثر منطقية وقربا من أذهان المشاهدين. فرضا الأم ورضا الرب والحياة الكريمة والجنس كلها أمور جليلة تستحق أن توجه معظم تصرفات البشر (وهو ما يحدث في حياتنا اليومية بشكل جماعي). ولذلك كان من الضروري أن يؤكد الفيلم على أن الأمر يخص شريحة معينة من البشر هي الموهوبين والمبدعين. وكان على كل الشخصيات المتواجدة في كلية الفنون باستثناء البطل ووالده الروحي أن يسقطوا خلال الطريق في عقبة أو أكثر من الأربعة. وذلك ليفهم المتلقي أن المقصود هو الفنان الذي لايعني إلتزامه بما يمليه عليه رأي الجماعة أن يكون سعيدا. بل أن العكس هو الصحيح في معظم الأحيان.

ففخ الدين سقطت فيه حبيبة البطل (يسرا اللوزي). والتي تخلت في سبيله عن حبها وحلمها وموهبتها ومستقبلها. لينتهي بها الأمر كفتاة منقبة تعيش منعزلة عن العالم، وتدرس في قسم لا يتفق مع موهبتها ورغبتها. فقط لأنها تراه القسم المتناسب مع تدينها.

وفخ الجنس سقط فيه صديق البطل وصديقته (رمزي لينر وفرح يوسف). وتطور معهما عندما لم يقفا في طريقه ليقودهما لفخ آخر هو العلاقات الأسرية والاجتماعية. عندما تحمل الفتاة وترفض التخلي عن الجنين، ويرفض الأب الاحتفاظ به ولكنه يغير رأيه ويحاول استعادة ابنه بعد فوات الأوان. لينتهي الأمر بالفتاة بأن تهرب لأوروبا مع رضيعها دون أن نعلم إذا ما كانت قد حصلت على مؤهلها الدراسي أم لا. وينتهي الأمر بالأب محطما يريد الوصول لابنه بأي طريقة ممكنة وهو أمر يبدو مستحيلا.

أما عن فخ المهنية وحسابات السوق فحدث ولا حرج. فقد سقط فيه تقريبا جميع شخصيات الفيلم. من العميد الذي يسخر الطلبة لرسم لوحات يبيعها لحسابه. للطالب الذي يوافق على أن يعامله الأساتذة كخادم لهم أملا في التعيين بالجامعة، ويرسم في نفس الوقت لوحا دينية منخفضة المستوى الفني ليبيعها في السوق. للمعيدة التي تمنح جسدها لكل من يمكن أن يفيدها في مشوارها المهني. وصولا للطلبة الذين أضاعوا موهبتهم في تقليد لوحات العميد من أجل المال. وبالطبع فقد فشل كل من سقط في تحقيق أهدافه. فاكتشف العميد أن أمره مفضوح للجميع. وبالتالي فلم يتم تعيين الطالب في سلك الجامعة. ولم تتمكن المعيدة من الحصول على الماجستير. وقس على ذلك كل من سقطوا في طريق التمسك بالموهبة.

الرسالة.. الخلاص والتحقق


يتبنى الفيلم في نهايته نظرة إيجابية بأن المبدع قادر على التخلص من كل العوائق السابقة، والحصول على حريته الكاملة بعيدا عن أي ارتباط يجذبه لأسفل. فيوسف تخلص من هواجسه الأسرية والتحق بالجامعة. وتخلص من هواجسه الدينية واقتنع بمشروعية ما يفعله. وتخلص من هواجس الجنس بتركه للمعيدة. وأخيرا من هواجس المهنية والسوق برفضه للالتحاق بسلك الجامعة. لينتهي الفيلم والبطل يشعر بالسعادة الكاملة لأول مرة. ولاعجب أن السعادة جاءته وهو يقف حرفيا في جزيرة بمنتصف الماء. بمعزل عن أي قيد أو التزام يحد من حريته. ولا عجب اكثر أنها هي اللحظة التي نال فيها رضا جميع الأشباح. الذين يأتون واحدا تلو الآخر ليقفوا بجواره معلنين رضاهم عما وصل إليه.



ولكن هل استطاع الفيلم أن يعبر عما يريده بهذه الصورة المكتملة؟
الأمر المحزن أن الناتج النهائي لم يكن بالروعة المنتظرة. بل أن الكثيرين قد خرجوا من قاعة السينما أثناء العرض وبعده ساخطين على الفيلم. ويمكنني أن أتفهم موقفهم تماما. فمخرج الفيلم وكاتبه لم يستطيعوا أن يتخطوا عدة حواجز كما فعلها البطل. ولعل هذه الحواجز هي ما وقفت في طريق وصول العمل للجمهور بالصورة التي أرادها صناعه..

الحاجز الأول.. حاجز التعاطف وهو حاجز توافر أيضا بصورة أو بأخرى في (جنة الشياطين). ولكنه في (بالألوان الطبيعية) كان أعلى بكثر. فالفيلم يدين الجميع بلا استثناء. ويقول ببساطة أن جميعنا مذنبون. الفنان الحقيقي والفنان الزائف.. الداعية الديني والعاهرة.. عضو هيئة التدريس والطالب.. الكل بلا استثناء مخطىء بخلاف البطل. الذي يحتاج هو الآخر للعديد من الاختبارات والسقطات حتى يصل لذلك. وبالتالي فإن الفيلم قد فقد تماما تعاطف المشاهد بشكل كامل. والقاعدة تقول أن المشاهد يجب أن يتعاطف مع بعض الجوانب الايجابية في شخصيات العمل حتى وإن كانوا شياطين. وهو مالم يتحقق هنا على الإطلاق. فاستطيع أن أجزم أن كل من شاهد الفيلم قد شعر أن الفيلم يدينه ويسخر منه بشكل أو بآخر. وهو شيء قد يكون مقبول فنيا ولكنه يأتي بالطبع على حساب انطباع المشاهد عن الفيلم.

الحاجز الثاني.. حاجز الوسيلة


فالفيلم وإن كان يتحدث عن الفن والموهبة بشكل عام إلا أنه قد اختار الفن التشكيلي كوسيلة للتعبير عما يريد قوله. والفن التشكيلي أحد أكثر أشكال الفنون تجريدا. ويمتاز بسمتين أساسيتين الأولى هى حاجة المتلقي لحد أدنى من المعرفة بقواعده ليتمكن من فهمه، والثانية هي اختلاف تفسير المتلقين للعمل حسب رؤيتهم ومرجعيتهم الشخصية. واعتماد الفيلم على هذا الفن تحديدا وضع عائقا بين المشاهد وبين الوصول لما يريده المخرج. فلم يستطع معظم المشاهدين من معرفة سر وقوع المعيدة في حب البطل دون أن تشاهده بمجرد رؤيتها للوحة التي رسمها (والتي تبدو شبيهة جدا بباقي لوحات زملائه). واختلف الجميع على سر اللوحة التي رسمها يوسف للعاهرة (منى هلا) والتي دفعتها للتوبة بمجرد مشاهدتها. وهل هذه التوبة والتطهر سببها أن اللوحة رائعة تظهرها جميلة جدا.. أم لأن اللوحة سيئة تظهر القبح الموجود داخلها؟ (والأخير هو تفسيري الشخصي). وهل شخصية العاهرة تملك من الأساس الخلفية والاستعداد النفسي الذي يجعلها تتطهر من الإثم بمجرد مشاهدة لوحة؟

وعلى هذا المنوال تسير كل المشاهد التي كانت اللوحات الفنية هي المحرك لها. اللهم إلا مشهدين الأول هو مشهد العتاب بين البطل ووالده الروحي والذي قام فيه الأستاذ (محمود اللوزي) بترتيب جودة اللوحات للبطل حسب ترتيب رسمها فساعد المشاهد على التلقي. والمشهد الآخر هو مشهد التحكيم الذي شرح فيه البطل ما أراده بلوحة الكوميديا الإلهية. والتي كانت فيه اللوحة مبهرة بحق وساعدها شرح البطل لتوصيل المعنى بالكامل للمشاهد.

الحاجز الثالث.. حاجز الخطابة
يمكنني الآن تذكر عشرين مشهد على الأقل من الفيلم يقوم فيها أحد الأبطال بإلقاء منولوج طويل. سواء كان هذا المونولوج موجها لشخصية أخرى، أو كان مناجاة مع الله. عدد ضخم من المونولوجات التي استخدمها صناع الفيلم بإفراط في التعبير عن مشاعر الشخصيات وقناعاتهم بل وسرد ماضيهم. وأنا لست ضد استخدام المونولوج في السينما بالرغم من انتماءه بالأساس لفن المسرح وبعده عن بصرية فن السينما. ولكن هذا القدر المبالغ فيه لابد وأن يعكس (وآسف جدا على قولها) عجزا من المخرج على تقديم نفس المعلومات بصورة بصرية. ويمكنني ببساطة أن أعلم ان اي شعور بالملل قد وصل للمشاهدين من الفيلم كان سببه هذه المشاهد.

الحواجز الثلاثة السابقة ساهمت بشدة في عدم خروج المشاهدين وهم راضين عن العمل. وهي نفس الأسباب التي جعلتني أشعر بالإحباط من مستوى الفيلم الذي انتظرته طويلا نظرا لإيماني الكامل بموهبة مخرجه. والفيلم إذا تمت مقارنته بأغلب الأفلام المصرية في الأعوام السابقة سيكون الأفضل. ولكن إذا قمنا بمقارنته بأعمال مخرجه الثلاثة السابقة والتي تم عرض آخرها قبل ما يزيد عن خمسة أعوام. فسيأتي –للأسف- في المركز الرابع!

ملحوظة أخيرة.. رمزي لينر.. تذكروا هذا الاسم جيدا. فهو مشروع لممثل هائل. أعتقد أنه سيكون له شأن كبير في الأعوام القادمة 

المصدر: SHAW - CINEMANIA
Cinema

SFG

  • Currently 64/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 592 مشاهدة
نشرت فى 1 سبتمبر 2010 بواسطة Cinema

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

46,884