مجلة بغداد السلام الأدبية

لغة الضاد أبحارنا

قصة قصيرة:

 

     ** أهديته ذكرى منّي** 

 

جَلَسَتْ في شرفة غرفتها على كرسيّها الهزّاز ونَظَرَتْ بعيدًا في الأفق كأنّها تبحث عن إناءٍ يتّسع لهمومها وأفكارها لتفرغها فيه وتريح رأسها المتعب وقلبها الجريح وجسمها المرهق من ذاك الحمل الثقيل وتنفض عنهاتراكمات السّنين وغبار الأيّام الذي رزحت تحت وطأته لأعوامٍ طويلة.

حانت منها إلتفاتة، انتبهت لذاك البخار الدّافئ المتصاعد من فنجان قهوتها السّاخنة.

تخيّلت شكل وجهه في ذاك البخار

فإرتسمت إبتسامة على شفتيها الورديّتين فرغم شحوب وجهها

و ميله إلى الإصفرار بسبب المرض 

إلّا أنّها قد حافظت على لون الفراولة في شفتيها و نعومة الورد على وجنتيها.

ولكن ما الفائدة من بقايا هذا الجمال الذي لن يلبث أن يزول بسرعة كما قال الطّبيب. تنهّدت بعمق و ألمٍ وحسرة،ونهضتْ متثاقلة عندما سمعت صوت جرس الباب.

فتحته و رجعت إلى مكانها دون أن تنظر من كان الطّارق،فهي تعرف مسبقًا،فقد اتّصلت قبل ساعةٍ بصديقتها رحاب وطلبت منها الحضور في أسرع وقتٍ ممكن لأنّها ستناقش معها موضوعًا مهمًّا.

دخلت رحاب وأغلقت الباب وهي تسأل صديقتها بإستغرابٍ :"خيرًا يا سيرين ،شغلتني عليك،صوتك على الهاتف لم ينبئني بالخير .

قولي لي ماذا حدث؟"

كانت سيرين قد إستقرّت على كرسيّها في الشّرفة عندما طلبت من صديقتها أن تجلس بجانبها.

وبعد تنهيدةٍ طويلةٍ وعميقة،بدأت 

تتحدّث:"إسمعيني جيّدًا يا رحاب،انت ابنة خالتي وأقرب صديقة لي،تربّينا سويًّا منذ الصّغر وأنا أعتبرك لي أخْتًا وأنت على علم بوضعي الصّحّي،و أنّ جسمي يضعف أكثر فأكثر يوما بعد يوم،ولن يطول بقائي بينكم..." 

قالت ذلك وخنقتها عبراتها فصمتت.

أسرعت رحاب وإحتوتها بين ذراعيها محاولة مواساتها والتّخفيف عنها قائلةً:"إهدئي يا حبيبتي، لاداعي لكل هذا اليأس فرحمة الله واسعة قادر على شفائك فقط ثقي به"

هدأت قليلا وواصلت كلامها بنبرةٍ 

مثقلة بالأسى والمرارة:"لقد ذهبت بالأمس إلى الطّبيب وأخبرني بعد إجراء الفحوصات الّازمة انّني حامل .."فقاطعتها رحاب بعفويّة وهي تكاد تطير من الفرح :"ألف ألف مبروك، هذا أسعد خبر سمعته في حياتي،الله يتمّم حملك على خير يارب"

"لن يفعل"صرخت سيرين بأعلى صوتها

تسمّرت كل ملامح رحاب من شدّة وقع هذه الكلمة وقالت وهي ترتجف خوفًا:"لماذا؟ ماذا تقصدين بكلامك؟"

أجابتها بكلّ هدوء:"سمعتي أسعد خبر؟ إليك الآن أتعس خبر:لقد أخبرني الطّبيب أنّ صحّتي لا تمسح لي بالحمل وأنّه سيشكّل خطرًا بل وتهديدًا لحياتي ونصحني أن أنزّل هذا الحمل بسرعة قبل أن تحدث مضاعفات لا تحمد عقباها"

تهالكت رحاب على الكرسيّ بكل إحباط ولكنها سرعان ما تداركت الأمر وتماسكت من أجل صديقتها

التي تمرّ بأبشع محنة في حياتها.

فقالت "فداك،المهم صحّتك يا غالية،لا تهتمّي لشيء فقط نفّذي نصيحة الطّبيب دون تردّد"  

فنظرت إليها سيرين نظرة جعلتها تندم على ما قالته،وراحت تتكلّم بعصبيّة ظاهرة:" لن أفعل،سأحافظ على حملي وسيكون هذا الطّفل هديّتي الغالية لهيثم فقد كان لي نِعْمَ الزّوج،أحبّني كثيرا وأراد أن يعيش معي السّعادة التي عجزْتُ عن منحها له بسبب هذا المرض الخبيث.

وبما أنّ الأقدار قرّرت أن تفرّقنا فأنا مصرّة على أن أترك له منّي تذكارًا،قطعة من جسمي ومن روحي كلّما رآها تذكّرني واسترجع ذكرياتنا الرّائعة معًا رغم قلّتها.

كانت تحكي والدّموع تنهمر أمطارًا من عيونها وعيون رحاب.

ومع ذلك واصلت حديثها:" رحاب،لقد إستدعيتك لأكلّفك بمهمّة صعبة ولكنّي واثقة أنك قادرة على تنفيذها،فعِدِينِي بذلك الآن"

ردّت رحاب بكلّ ثقة:"أعدك أنّي لن أدّخر جهدًا في تنفيذ ما يرضيك فتمنَّيْ عليّ وسألبّيك بماأستطيعه"

 

"وصيّتي لك يا أختاه أن تكوني أمًّا لطفلي وزوجةً لزوجي بعد رحيلي وإذا أنجبت فتاةً وهذه أمنيتي،سمّوها على إسمي حتى لا تنسوني مهما كثرت عليكم المشاغل،وأخبروها أنّ أمّها تحبّها كثيرا وأرادت لها الحياة ودفعت ثمن ذلك حياتها...انا لا أنتظر منك جوابًا يا رحاب لأنّك وعدتني وإنتهى الأمر فكوني عند حسن ضنّي يا عزيزتي"

قالت ذلك وأغمضت عينيها مستسلمة للنّوم وقد لا يكون نومًا بل إبحار في الخيال والأفكار...

خرجت رحاب وهي تحت تأثير الصّدمة وأغلقت الباب وراءها.

 

  مرّت الأيّامْ والشهور مسرعة وجاء الشّهر التّاسع من الحمل وقد بلغت سيرين مرحلة حرجة من مرضها ولكنّ الله منحها قوّة معجزة حتّى تكمل حملها وساعدها زوجها وكان لها سندًا ودعمًا،أحبّها وتفهّم كلّ ما أرادته ووعدها بتنفيذه إكرامًا لها ولحبّهما ووقف إلى جانبها دون تقصير.

وفي الليلة الموعودة جاءها المخاض فنقلوها بسرعة إلى المستشفى و بمعجزة إلاهية إستطاع الأطبّاء إخراج الطّفلة إلى نور الحياة قبل أن تفارقها الأمّ بلحظات إستطاعت خلالها أن تقبّل فلذة كبدها قبلة استقبالٍ ووداعٍ أخير ثمّ أسلمتْ روحها لربّها.

وبقيت ذكراها معه،ملأت حياته سعادة و أملا وبقي هيثم يرى سيرين يوميّا في كل زوايا البيت 

يناديها ويلعب معها و إستمرّت ذكراها...

 

      بهيجة بن موسى/تونس

Bal3

مجلة بغداد السلام الأدبية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 58 مشاهدة
نشرت فى 18 ديسمبر 2019 بواسطة Bal3
Bal3
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

839