|
||
يوم شتوي أشرقت فيه شمس فلسطين بأشعتها الدافئة على غزة، المقصد اليوم زيارة أسواق غزة العريقة، ليس لاقتناص بعضاً من احتياجات المنزل كما هو سبب المتواجدين هناك، وإنما لتحسس عبق التاريخ والحضارة الفلسطينية الضاربة جذورها في الأرض تماماً كما النخيل..
مع التاريخ
من بعيد ترى عيوننا قباب الدكاكين ومناظرها الأصيلة فنلتمس العراقة، ونشتم عبق التاريخ ورائحة الماضي التليد..تتسارع الخطى لتصل إلى السوق الكبير، نسبةً إلى الجامع العمري الكبير الواقع على امتداد شارع عمر المختار أشهر وأقدم شوارع غزة والذي يزداد عمره عن مئات السنين، أما السوق فهو إلى الشرق من الجامع، شيد على هيئة دكاكين صغيرة اصطفت في اتساق وتناغم على جانبي الطريق يميناً ويساراً يفصل بينها ممر وسيط يسمح بحركة المتسوقين ذهاباً وإياباً.
هناك تأسرك البضائع بروعة تنظيمها وتنميقها بطريقة فاتحة للشهية، على الجانب الأيمن بعضاً من السكاكر وحبات الملبس الملونة، ومكسرات اللوز والفستق الشهية، وفي مكان ليس بعيد عنها تجد المخللات الشهية التي تكثر عروضها في شهر رمضان الكريم، أما المشاهد التي تشعرك برونق الماضي وبريق الأصالة فهي للعطارة والأعشاب المختلفة الأشكال والألوان والاستعمالات الطبية، فجميعها متناسقة المظهر متناغمة مع بعضها البعض، تأسرك وتعيدك إلى حقبة زمنية كادت أن تنسل من عقلك ووجدانك.
مع التجار
أما وجوه التجار فما زالت الابتسامة تخط ملامحهم التي تتراوح بين الستينية والعشرينية، فكم من أب أو جد ترك دكانه لخلفائه من بعده فحفظوه وأبقوا على رونقه الأثري القديم..
الحاج "محمد السيقلي" رجل في عقده السادس، يقف أمام محله المتواضع تخطف ابتسامته العريضة أنظار المتسوقين يجذبهم لبضاعته ذات الأنواع المختلفة من العطارة، اقتربنا منه لم يكن بحاجة لأن يعرض لنا بضاعته ذات الجودة العالية من العطارة والأعشاب كالميرمية والكستناء والشاي والزعتر، فشكلها ورائحتها كفيلان بأن يجبراك على الشراء ولو جرامات معدودة، أخبرنا أن عمر محله التجاري يبلغ أربعين عاماً، استأجره من وزارة الأوقاف ويعتبره كنزاً كبيراً، فهو سر مقاومته لتفاصيل الحياة المعقدة ومتطلباتها الكثيرة.
سوق الزاوية
تركنا الحاج السيقلي متابعين المسير لاكتشاف المزيد من خبايا السوق الأثرية، البضائع لا تزال تتناثر باتساق يميناً ويساراً داخل المحال وعلى أرصفتها الملاصقة للمدخل..وبينما نسير استوقفتنا زاوية في اليسار قليلاً كانت تلك ثاني أقدم الأسواق الغزاوية تسمى "سوق الزاوية"، تعج بالبضائع المختلفة منها ما يباع جملةً وأخرى تباع بالقطعة الواحدة نظراً للضائقة الاقتصادية التي تمر بها البلاد،
أمام أحد المحال تتوقف أقدامنا عن المسير، فمظهره يبدو أنه تهالك وصرخة رعد واحدة تؤذن بها السماء في هذا الموسم الشتوي ستتهاوى أركانه، المحل مبني من حجر قدسي قديم أصفر اللون يبعث في نفسك إحساساً بأصالته، فهو يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، صاحبه الحاج "رحيم" وقد ورّثه لأبنائه، يقول أكبر أبنائه لـ" عشرينات " : يعد سوق الزاوية من أكبر وأعرق الأسواق في غزة رغم كل ما يعتريه من تدهور وانخفاض في نسبة المبيعات تصل أحياناً إلى 70%، مؤكداً أن هذه النسبة لن تمحي سنوات الازدهار التي عاشها السوق وتجاره لعشرات السنين في الماضي.
سوق الذهب
تتشابك بنا الاتجاهات..فإلى الوراء نجد أسواق وبضائع متناثرة تعطيك بعضاً من الدفء وتشعرك بكثير من الفخر، نحن الآن باتجاه الشمال من الجامع العمري الكبير المركز الأكبر للأسواق الغزية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، البضائع هنا مختلفة حلي وأقراط وخواتم مطلية بالذهب الخالص وكذلك الفضة الأصيلة.. إنه سوق القيسارية "سوق الذهب".
يعود عمره إلى القرن الرابع عشر ومازال شامخاً متحدياً عوامل التعرية وهجمات المحتل المتوالية، السوق بني موازياً للجدار الجنوبي للجامع العمري الكبير، وفقاً للفلسفة العمرانية التجارية الإسلامية السائدة في ذلك الوقت حسب المؤرخ الفلسطيني "سليم المبيض" في كتابه البيانات الأثرية.
السوق شكل على هيئة قاطرة نمطها العمراني والهندسي يناسب الأجواء المناخية لحوض البحر المتوسط، كما أن المحال امتازت بأسقف معقودة بمصلبات يزيد عمقها عن مترين ونصف وصولاً للبوابة الشرقية للسوق، تتخللها أقواس رخامية بيضاء وحمراء مزدانة بزخارف مسمارية تتوسطها فتحات غير أن الكثير منها وجد مطموساً بسبب عوامل التعرية، القيسارية الخلابة كانت تنقلك إلى الطابق العلوي بسلالم صغيرة وهو لا يختلف ولا يقل روعةً واتقاناً عن الطابق الأرضي.
خان الزيت
وإلى الجنوب من سوق القيسارية كانت آخر محطاتنا في خان الزيت، الذي يعود تقريباً لذات الفترة الزمنية القرن الرابع عشر الميلادي، وجد الخان ليكمل الوحدة العمرانية من الأسواق والجامع العمري الكبير، وكان بمثابة سوقاً لعقد الصفقات التجارية وتبادل السلع تماماً كالبورصة في أيامنا الحاضرة.
أما طبيعة مبانيه فكانت أيضاً مكونة من طابقين بقيت آثارها خالدة إلى يومنا هذا بعكس سوق القيسارية، ووفقاً لما جاء في كتاب المبيض فإن الخان مكون من طابقين يضم غرف سفلية وعلوية الطابق الأسفل اسطبلات ومخازن ومزاود للحيوانات والعلوي غرف للراحة والنوم.


ساحة النقاش