اسم ظل لعهود طويلةمصدر رعب وفزع في نفوس كثير من المصريين، ظل قرينًا ومرادفًا لكل أنواع الظلموالقهر والجبروت، فزّاعة الشعب المصري على مر العصور بكل جدارة واستحقاق، حتى إنالناس كانوا يخشون ذكر اسمه على ألسنتهم، أو حتى المرور في الشوارع أو الطرق التيتوجد بها مقراته، ومن اضطر للمرور من أمام إحدى هذه المقرات كان عليه ألا يصوببصره تجاه مبنى الجهاز، أو يحد البصر في أحد من حراسات هذا المبنى الرهيب.

باختصارشديد إنه جهاز مباحث أمن الدولة، هذه الفزاعة الرهيبة اليوم تتهاوى تحت ضربات الثورة المباركة،التي كان ظلم وجرائم أمن الدولة أحد أهم أسباب اندلاعها واشتعالها، وهذا الجهازيخوض اليوم معركته الأخيرة من أجل البقاء.

لماذا أنشئ جهاز أمن الدولة؟

كثيرمن الناس لا يعرفون أن الإنجليز هم أول من أنشأ جهاز أمن الدولة في مصر، وذلك فيسنة 1913م، وكان يُطلق عليه اسم القلم المخصوص، ويتبع المندوب السامي البريطانيمباشرة. والهدف من إنشائه متابعة نشاط الأحرار والمجاهدين الساعين لاستقلال البلادعبر كل الوسائل المتاحة عسكريًّا وسياسيًّا، وقد استعان الإنجليز في إنشائه ببعضضباط البوليس المصري، وتولى إدارته لأول مرة اللواء سليم زكي حكمدار القاهرة، الذيكان أحد رجال الانجليز في مصر.

وبعدتوقيع معاهدة 1936م تشكلت إدارتان للقلم السياسي، واحدة للقاهرة والأخرىللإسكندرية، إضافة إلى "قسم مخصوص" يتبع السراي مباشرة، ويرأسه قائدالبوليس الملكي، ولم يكن لوزارة الداخلية أية ولاية على هذا القسم؛ حيث كان قائدهيتلقى أوامره مباشرة من الملك، ورغم أن هذه الأقسام كلها كانت لخدمة الاحتلالالإنجليزي، إلا أن العاملين في هذه الأقسام الثلاثة كانوا من المصريين، سواء منالضباط أو المحققين أو المخبرين.

بعدثورة 52 تغيرت كثير من الأوضاع والهياكل التنظيمية داخل مصر؛ بدعوى أنها من العهدالبائد ولا بد من التخلص منها، ما عدا هذا الجهاز حيث لم يطله التغيير أبدًا،والتغيير الوحيد الذي طرأ عليه هو الاسم فقط، فقد أصبح اسمه "المباحث العامة"،ثم أصبح اسمه أيام السادات "أمن الدولة"، واكتسب هذا الجهاز سمعتهالمخيفة في عهد جمال عبد الناصر، الذي كان لا يطيق فكرة وجود أدنى معارضة لسياساتهالاستبدادية خاصة من جماعة الإخوان المسلمين، وفي عهده امتلأت السجون أو قُل "المسالخالآدمية" بعشرات آلاف من الأبرياء والمظلومين، غالبيتهم لم يَرَ النور بعدهاوقُتل أو مات تحت وطأة التعذيب. وكان المصريون يطلقون على مباحث أمن الدولة لقب "زوّارالفجر"، وكان الذي يزار من قبل هؤلاء الأشباح أو يستدعى لمبنى أمن الدولة،يودعه أهله؛ لأنه أغلب الظن أنهم لن يروه مرة أخرى.

ونظرًالشهرة هذا الجهاز وشراسة ودموية القائمين عليه، فقد أصبح من الأمور المقطوع بها فيالحياة السياسية المصرية البوليسية في مجملها منذ ثورة 52؛ إذ إن قيادات أمنالدولة عندما تنهي عملها المفزع بجهاز أمن الدولة تنتقل لتولي مناصب سياسية مهمةكوزراء ومحافظين ورؤساء هيئات ومصالح حكومية، فقد تولى وزارة الداخلية من أبناءجهاز أمن الدولة اللواء عبد العظيم فهمي، وممدوح سالم (وزيرًا للداخلية ثم رئيسًاللوزراء) وسيد فهمي، وحسن أبو باشا، وأحمد رشدي، وحبيب العادلي، وهذه المناصبالسيادية والحساسة أوجدت نفوذًا ضخمًا لأمن الدولة في كل مفاصل الحياة المصريةبشتى تفريعاته، وأصبح مثل الأخطبوط أو الورم السرطاني المنتشر في جميع أجزاءالجسم، يقتله ببطء ويسيطر عليه بالتدريج.

الجهازيضم ضمن تركيبته المعقدة التي تشبه "الخلايا العنقودية" مكاتب رئيسيةمنفصلة تشمل: وحدة جمع المعلومات، مكتب مكافحة النشاط الإخواني، مكافحة النشاط السلفي،مكتب مكافحة الطوائف الذي يختص بنشاط الجماعات الصوفية والبهائيين والنوبيين، مكتبمكافحة النشاط الشيعي، إضافةً إلى مكاتب متخصصة في متابعة الأحزاب والنقاباتوالجامعات والحركات العمالية والنوادي الرياضية والاجتماعية والجمعيات الخيرية،ومكتب متخصص في متابعة أحوال الكنائس المصرية، وقسم مكافحة النشاط الطلابيبالجامعات، ومكتب النشاط الديني وهو مخصص لمتابعة أئمة الأوقاف وشيوخ المساجدوكتاتيب تحفيظ القرآن، والهيئات والمصالح الحكومية.

نفوذهذا الجهاز يطول كل شبر على أرض مصر، وكلمتهم هي الفاصلة في اتخاذ غالب القراراتالسياسية وغيرها في البلاد، حتى وصل نفوذ أمن الدولة للتجسس على قيادات الجيشالمصري نفسه، كما كشفت آخر التحقيقات مع الطاغية حبيب العادلي.

أوهام الهيكلة

هذه الحقائق التاريخيةوالحالية عن جهاز أمن الدولة، نضعها كما هي أمام المطالبين ببقاء جهاز أمن الدولة،وتعديل سياساته وأنظمة ومجالات عمله؛ فالجهاز ما أُنشئ في الأساس إلا لقمعالمعارضين وتعقب الأحرار، فهو لم يكن يومًا جهازًا لأمن الدولة أو حماية الوطن، بل جهازًا للتعذيب والتنكيل والترويع لكل الشرفاء والدعاة والمتدينين وأصحاب الآراءالمعارضة؛ فالجهاز لم يضطلع على الحقيقة بدور وطني أو أمني للبلاد، حتى يظن منه أنيقوم به الآن. كما أن حجم الملفات والاختصاصات والمجالات التي يعمل فيها -أو قُلْيخرب فيها أمن الدولة- أكبر وأعمق وأخطر مما يظن إن هذا الجهاز سيعدِّل سياساته أوأساليب عمله.

إنحجم الملفات التي كان يديرها أمن الدولة طيلة عقود تجعل من الصعب السيطرة عليه أوتفكيكه، كما أن تركيبته الضخمة وحجم الامتيازات والرواتب الكبيرة التي يحصل عليهاجميع من يعمل داخل هذا الجهاز تجعل من قياداته فوق الدولة وفوق القانون وفوق الوطن، ويبدو أن الحديث عن إعادة هيكلة الجهاز وإحداث تغييرات جذرية في قياداته،هو نوع من الثورة المضادة والترتيب السري لتدارك آثار الثورة والضربات المؤلمةالتي نالها الجهاز على يد الثوار، فثمة خطة إنقاذ لهذا الجهاز يشرف عليها القائمون عليه لاستعادة نفوذهم وهيمنتهم على المشهد السياسي والاجتماعي في مصر.

المعركة الأخيرة

شغب في سجن دمنهور يسفر عن مصرع وإصابة العشرات، محاولة لاقتحام سجن شبين الكوم، رفض من كافة ضباط الشرطة في شتى المدن المصرية للنزول والعمل في الشارع، وعدم الاستجابة لنداءات المواطنين بإنقاذهم من هجمات المجرمين، تأجيل الدراسة مرة بعدمرة؛ بسبب عدم توافر الحماية اللازمة للطلاب والطالبات، هجمات منهجية ومنظمة من المجرمين والبلطجية في استراتيجية واحدة وثابتة، تقوم على بثّ الرعب والفزع وترويع الآمنين، وجرائم تكاد تكون متطابقة؛ هذا هو عنوان المشهد الأمني في مصر هذه الأيام، وهو مشهد لا تخطئه عين المحللين والمتخصصين حتى رجل الشارع العادي؛ فالكل في مصر الآن قد ارتفع وعيه السياسي، وأصبح يعرف سر هذه الفوضى الخلاّقة، وأن جهازأمن الدولة هو العقل المدبر الذي يقف وراء كل هذه المشاهد الفوضوية.

فثمةاعتقاد راسخ نما وترعرع في الشعور الجمعي لضباط الداخلية أنهم فوق الجميع وأسيادالبلاد، وأنهم مواطنون درجة أولى وغيرهم من الدرجة الثانية، ولعل الفيديو المشين الذي أظهر مدير أمن البحيرة وهو يصف الضباط بأنهم أسياد الناس، وأنهم سوف يقطعون يد من يتطاول على سيده، يلخص ويترجم هذا الشعور. بل إن هذا الشعور يتلقاه طالب كلية الشرطة ويتشربه في كليته منذ السنة الأولى لدراسته، وهي المعضلة الحقيقيةوراء الأزمة الأمنية في مصر الآن؛ فضباط الداخلية لن يقبلوا أبدًا العمل تحت شعار (الشرطةفي خدمة الشعب)، فهم قد تربوا واعتادوا على أن الشرطة هم أسياد الشعب، وقد استغل جهاز أمن الدولة هذا الشعور جيدًا، فأزكوا مخاوف باقي ضباط الداخلية وأزكوها بقوة،حتى أصبحنا أمام فراغ أمني خطير يشعر به الجميع في مصر الآن.

ورأييأن القائمين على جهاز أمن الدولة الآن في مصر يقومون بمعركتهم الأخيرة من أجل البقاء، من أجل الحفاظ على هياكلهم وأنظمتهم وسياساتهم القديمة، هذا الجهاز كان يمسك بأطراف الحياة المصرية بأسرها، وقياداته الآن تحاول الدفاع عن هيبتهم ومكانتهم حتى النهاية، تحاول ترتيب صفوفها، وترميم المقار التي تعرضت للحرق،واستعادة الملفات المفقودة، وصياغة خطة إعادة انتشار وتغلغل جديدة لعملاء الجهازفي كافة أنظمة التيارات السياسية والجماعات الإسلامية والحركات الاحتجاجية، على أن يتم التركيز خلال الفترة المقبلة على بحث كيفية التصدي لمستجدات ما بعد الثورة.

لذلك فالثوار لا بد أن يكونوا على بصيرة -وهم كذلك- من خطورة بقاء هذا الجهاز وضرورةإلغائه مهما كان الثمن، ويتحتم عليهم أن يبقوا في الميدان حتى يستأصل هذا الورم السرطاني الذي نخر في جسد الوطن البلاد طيلة قرن من الزمان، وأن أي حديث عن إعادةالهيكلة وتعديل السياسات أو حذف بعض التخصصات، فكل هذه الدعاوى ما هي إلا إهدارللوقت وتضييع للفرصة والتفاف حول المطالب العادلة والشرعية للشعب، وإعطاء الفرصةلهذا الجهاز ليلمَّ أوراقه وينظم صفوفه ويرتب أوضاعه المهتزة، ويعود بكل قوته كماكان في الأيام السالفة. ولكن كل هذه المكائد والدسائس سيتم إبطالها وتذهب أدراج الرياح،ذلك أن الشعب لن يسمح أبدًا بعودة الأوضاع في مصر كما كانت قبل25 يناير.

 

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 72 مشاهدة
نشرت فى 2 يونيو 2011 بواسطة BADRFOUDA

ساحة النقاش

ابو استشهاد

BADRFOUDA
ندعوا الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والى تكوين الفرد المسلم والاسرة المسلمة والمجتمع المسلم والى الحكومة المسلمة والى الدولة المسلمة والخلافة الاسلامية والى استاذية العالم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

132,541