عندما ابتعث الرائد المعماري "حسن فتحي" نمط بيوت النوبة المبنية بالطين والمسقفة بالقبب والأقبية في بداية الأربعينيات لم يكن يخترع شيئًا من عدم، ولم يكن يبتعثه أيضًا كفلكلور يبغي منه أن يحوز إعجاب الأثرياء والأجانب لما يجدون فيه من غرابة وطرافة، إنما كان هذا نابعًا من مسئوليته كمهندس معماري يقوم بدور رائد وهو إحياء التراث المعماري المحلي للعمارة الشعبية المصرية؛ إذ وجد فيه الحل المناسب إن لم يكن الأمثل لمشكلة شديدة الإلحاح وهي توفير بيت لكل فلاح فقير في الريف المصري، بتكلفة اقتصادية منخفضة تناسب دخل هذا الفلاح، على ألا تنتقص هذه التكلفة المنخفضة من حق هذا الفلاح في أن يكون له بيت متين وواسع ومريح وجميل.
جماليات البسطاء
فالبيوت المبنية بالطوب اللبن والمسقفة بالقبب والأقبية حازت جدارة ليس لما فيها من جماليات معمارية فقط، بل ولنتائجها الاقتصادية الجيدة حين تم إخضاعها للحسابات الاقتصادية في التكلفة، والحسابات العلمية والهندسية في المتانة وتصميمات البناء، بالإضافة إلى تناسبها وتجاوبها مع البيئة المحيطة، فخامة الطين التي تُعَدّ مادة البناء الأساسية في هذه البيوت خامة موجودة ومتوفرة في البيئة الريفية من هنا تنعدم تكلفتها تقريبًا، وقد أثبتت البحوث العلمية التي أجراها حسن فتحي على هذا النمط من البناء مدى قوة خاماته وتناسب تصاميمه.. من ذلك تلك الشواهد التاريخية التي تمثلت في بعض العمائر والبنايات والبيوت التي بقيت على الأرض المصرية، مثل: مخازن قمح الرامسيوم بالأقصر التي يعود تاريخها إلى أكثر من 2500 سنة، وهي مبنية بخامة الطوب اللبن ومسقفة بالقبب والأقبية؛ إذ أفصحت بالدليل الواقعي أن هذه الخامة والتصميمات من القوة والمتانة بما جعلها تعيش آلاف السنين.
وإذا كانت بيوت النوبة التي لا يختلف على جمالها ومتانتها وحسن تصاميمها مبنية بالطين والطوب اللبن فقد استنتج حسن فتحي أن العطن والعتمة في بيوت الفلاحين الفقراء ليسا راجعين لكونها من الطين، بل يرجعان إلى الطريقة العشوائية والمعوزة التي يبني بها الفلاح بيته من دون مرشد معين بعد أن انقطع عن تراثه، وفي نفس الوقت لم تُعنَ العلوم المعمارية الحديثة بتقديم حلول مرشدة له في بناء بيته في حدود اقتصادياته وإمكانات بيئته.
فالفلاح المصري الفقير إذا كان يستطيع أن يبني جدران بيته من الطين، فهو لم يكن لديه في حدود خبرته وإمكاناته أن يتغلب على مشكلة تسقيف بيته، فالأخشاب التي يسقف أغنياء القرية بها بيوتهم لم تكن متوافرة في البيئة وتكلفتها ليست باستطاعة الفلاح، ومن ثَم فقد كان الفلاح إما أن يسقف بيته بحزم "البوص" (الغاب)، وهو سقف هش تنشأ عنه مشكلات كثيرة ولا يفي بالغرض، أو يتركه هكذا عاريًا، فطريقة التسقيف بنفس الخامة التي بنيت بها حوائط البيوت "الطين" على هيئة قبب كان الفلاح قد انقطع عنها ولا يعرف مهارات بنائها، وقد ظلَّت هذه الطريقة في النوبة وإن كانت متوارية عن باقي قرى الريف المصري، ولا يعرف مهارات بنائها إلا البنَّاءون النوبيون الذين لم يكن يطلبهم أحد أو يوجههم؛ لتعميم طريقتهم الرخيصة والمتينة والجميلة في تسقيف البيوت في جميع القرى المصرية.
نشرت فى 31 مايو 2010
بواسطة Architecture
عدد زيارات الموقع
449,150
ساحة النقاش