تشكيل هوية المتلقي (1)

يبين (بياجيه) ان وعينا بالقضاء قائم على اسكيمات عملياتية Schemata) تعني المعادلات الحسية الحركية للمفاهيم، في كونها تسمح للطفل بالتعامل مع مواضيع مختلفة من صنف واحد، ومع حالات مختلفة لموضوع واحد. وبالمعنى العام تعني الاسكيمات: البنى عند أي مستوى من التطور العقلي)، وهي تشير للخبرات في الأشياء، ويؤكد ان الاسكيمات مقررة ثقافياً وتشتمل على خصائص كيفية ناتجة عن الحاجة للتوجه الوجداني للبيئة، فادراك الفضاء يقتضي بناء تدريجياً ومن المؤكد انه لا يوجد جاهزاً في مستهل التطور العقلي. ويؤكد ان فكرة عالم مبني تتطور تدريجياً اثناء الطفولة. ويشير إلى فكرة "الحفظ" بأكثر الخبرات الأساسية تفيد ان الأشياء دائمية، رغم انها قد تختفي وتعود مرة أخرى، فالهدف هو إنشاء مواضيع دائمية تحت الصور المتحركة للادراك المباشر وهذا يعني أولاً ان الطفل يتعلم التمييز وإنشاء عالم كنظام تشابهات، وثانياً انه يربط الأشياء المتميزة بأماكن معلومة، واضعاً اياها في كلية أكثر شمولاً، في فضاء. وينتهي (بياجيه) إلى ان العالم مبني من تكتل المواضيع الدائمة الموصولة بالعلاقات السببية المستقلة عن الذات والموضوعة في الفضاء والزمان. ويؤكد (تربرغ شولز) ان عالم الطفل متمركز ذاتياً، فالطفل، حركياً وادراكياً، لا يمتلك سوى مقدرة ضعيفة في الوصول إلى محيطه، والصورة البيئية له تتألف من عدد قليل من العناصر، لكن هذا لا يعني ان عالم الطفل مختلف عن عالم الآخرين، وهذا ما جعل (بياجيه) يقول ان فضاء الطفل يمكن ان يرى على انه مجموعة من الفضاءات المنفصلة، كل منها يتمركز بالكامل على نشاط مفرد.
نحاول ان نتحدث هنا عن قضية مهمة ومهملة في نفس الوقت، رغم انها قضية مركزية في تطور أي عمارة، فمسألة تشكيل هوية المتلقي هي مسألة تحاول أن تستحضر المقولة المعروفة "العمارة الجيدة بحاجة إلى عميل جيد"، أي حتى تكون لنا عمارتنا المتميزة نحن بحاجة إلى مجتمع يعي قيمة التميز في العمارة، لأنه في النهاية هو الذي يبني وهو الذي يجعل المعماريين يبحثون عن تلك العمارة المتميزة. ربما نحتاج ان نطرح بعض الأسئلة حول الكيفية التي يمكننا بها تهيئة المجتمع الذي يمكن ان يطلب عمارة راقية؟ وهل فعلاً نستطيع تشكيل هوية المتلقي لكي يسعى لصناعة عمارة راقية، وربما تكون هذه الأسئلة هي مجرد بداية لفهم تركيبة المجتمع ثقافياً، فدون فهم هذه التركيبة لا يمكن ان نفهم المتلقي الذي نريد منه ان يطلي ان تكون البيئة العمرانية التي يعيش فيها جيدة.
لعل ما ذكره (بياجيه) و(شولز) حول أهمية التطور التدريجي لفهم وادراك الفضاء المعماري يجعلنا نثير مسألة الثقافة المعمارية التي يجب ان يعيها ويتعلمها ابناؤنا منذ الصغر، وربما الحديث يتجاوز العمارة ذاتها إلى تربية الذوق الجمالي الذي نفتقر إليه بشدة في مدارسنا وفي حياتنا اليومية. وحتى اقلص مفهوم "تشكيل هوية المتلقي" في المسألة الجمالية، أود ان أذكر للقارئ العزيز ان المسألة مرتبطة بوعي المجتمع جمالياً وثقافياً واقتصادياً وتقنياً، والتربية من الطفولة هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن أن يشكل هوية المتلقي مستقبلاً ليطلب، ليس فقط عمارة متميزة، بل مجتمعاً متميزاً ربما نشير كذلك أهمية وجود الأمثلة الحسية التي تجعل من المتلقي يعي الفرق بين الجيد والرديء وان نسعى جاهدين أن نبين هذا الفرق، لا أن نتعامل مع كل ما يحيط بنا بسلبية.

تشكيل هوية المتلقي (3)

قبل عدة سنوات شاهدت فيلماً سينمائياً يدعى "المدينة المعتمة" the derk city هذا الفيلم الذي يصور مدينة تعيش في الظلام دون ان تشرق الشمس فيها ابداً، تتحول فيها التركيبة العمرانية كل لحظة تجعل من ساكني المدينة في حالة تشوش مستمر لا يستطيعون بأي حال من الاحوال بناء ذاكرة مع المكان ويعيشون حالة اللا انتماء تزيد من حالة التوتر النفسي الذي يعيشه السكان وتجعلهم في حالة اللا استقرار. بين الفينة والاخرى تظهر صور قديمة يعرفها السكان تذكرهم بماض كانوا يعيشونه في زمن ما ومكان ما، صور تشكل ذاكرتهم. تلك المدينة التي كانت عبارة عن مستعمرة في الفضاء يحكمها بعض الاشرار هي مدينة تتشكل باستمرار حاول فيها هؤلاء الاشرار السيطرة على مجموعة من البشر من خلال اقناعهم انهم يعيشون في المدينة التي يعرفونها ولكن في زمن او ازمان مختلفة من خلال التحول اليومي في التركيبة العمرانية فتظهر مبان وتختفي اخرى بصفة مستمرة تزيد من حيرة هؤلاء البشر. تبعاً لذلك ومع تتابع الاحداث، بدأت هوية ساكني المدينة تتشكل تبع هذا التغير الدائم الذي يعشيونه، تختلط المشاعر النبيلة بالمشاعر الشريرة مع تحول المدينة، تظهر العاطفة للمكان مع ظهور صور معروفة مختزنة في الذاكرة، ويسطر القلق مع كل صورة جديدة يراها هؤلاء، خصوصاً اذا كانت الصورة المتغيرة في نفس المكان الذي رأوه بالامس. لقد نجح المخرج الى حد ملفت للنظر في ابراز اهمية البيئة المعمارية كبيئة تشكل الغلاف المحيط بالانسان والتي منها ينسج تجربته الاولى ويبني بها ومعها تجاربه البصرية، هذه البيئة التي تصنع خبرته القديمة وتعينه على تحديد موقفه من كل تجربة جديدة.

مؤخراً شاهدت فيلماً آخر يدعى "عودة المومياء" the Mummy's Return وهو احد الافلام التي يمكن للمشاهد ان يتعرف من خلاله على جزء من العمارة المصرية القديمة خصوصاً عندما اعيد بناء مدينة الكرنك بمعابدها واسوارها وقصورها بالكمبيوتر. حتى الرسوم الجدارية الملونة والزخارف الداخلية اعيدت للحياة بصورة ملفتة للنظر. الفيلم الذي يربط الحقيقة التاريخية بالاسطورة يبدأ قبل 5000عام وتجري احداث الفيلم في الثلاثينات من القرن العشرين (فترة الاكتشافات المهمة للحضارة المصرية القديمة) في ربط شبه خيالي الا انه يدور حول مدينة "أم شير" الاسطورية التي يزعم الفيلم ان الحياة والقوة لـ "آمحو تب" ستعود في تلك المدينة. من الناحية المعمارية لابد للمشاهد ان اخترن عدداً من الصور المبهرة للمعمارة المصرية القديمة والتي صورت ببراعة واحترافية لا يملك المشاهد الا الاقتناع بما يشاهده.

هل نستطيع ان نتحدث هنا عن تكامل الفنون؟ هل نستطيع ان نتحدث عن تداخل الفنون البصرية بالذات؟ الذي اراه ان الفنون البصرية جميعها تقوم بدور مهم في تشكيل هوية المتلقي، فالسينما كفن بصري حركي لابد ان يترك اثراً على شخصية المشاهد، والعمارة كفن بصري معاش يجربه الانسان في كل لحظة لابد ان يصنع الخبرة القديمة عند الانسان، خصوصاً تجربة الفضاء البصري. لعلنا كذلك نثير اهمية السينما في نقل الصورة المعمارية للمشاهد، فمن تجربة فلسفية عميقة مقرونة بالخيال العلمي في فيلم "المدينة المعتمة" الى تجربة اسطورية مقرونة بحقائق تاريخية وآثارية تعكسها البيئة العمرانية الفرعونية في فيلم "عودة المومياء" يسبح المشاهد مع الفضاء البصري المعماري ويبني عبر السيناريوهات التي تطرحها المشاهد تجربة ذهبية بصرية لم يعشها في الواقع ولكنها بالتأكيد اعادت صياغة خبرته القديمة.

 

تشكيل هوية المتلقي (4)

من الناحية الحسية يمتلك الإنسان مقدرة إدراك الشيء والدراية به عبر تصنيفه وتسميته وتقريبه إلى أشكال وصور معروفة ومن ثم تقييمه وتكييفه ليصبح جزءا من البيئة الحسية المدركة.. كما ان القيم تتكون من عادات شخصية وتقاليد وأعراف تتدرج من القوة إلى الضعف وترتبط بزمان ومكان محددين ومعتقدات غالباً ما تشكل القيم الجوهرية لجماعة ما وهذه القيم لديها القدرة على الاستمرار عبر الزمن.. ومن الناحية الشكلية هناك إطاران يحكمان قدرتنا على معرفة الأشكال وتمييزها عن بعضها البعض، الإطار الأول ظاهري وهو المسؤول عن قدرتنا على التعرف على الأشكال ظاهرياً أي تمييز أي شكل عن آخر والثاني إطار ضمني، يمكننا من تمييز الأشكال في صورتها الوحدوية، فالطاولة، على سبيل المثال، مهما تعددت أشكالها وتصميماتها نستطيع أن نميزها على أنها طاولة.. غير أن الأشكال عندما ترتبط بالقيم يتطور الجانب غير الحسي بها ويصبح هناك معانٍ ضمنية غير مرئىة يعكسها شكل ما في ثقافة ما، في حين أن نفس الشكل لا يعكس نفس المعنى في ثقافة أخرى، ومن خلال درجات المعنى التي يتضمنها الشكل (قوية، متوسطة، ضعيفة) تتولد الهوية في البيئة العمرانية بمستويات مختلفة.. فالأشكال عبر تفاعلها الدائم مع قيم الأفراد والجماعات في ثقافة ما لابد لها أن تتخذ مسارا أو أكثر وأن تجد لها مكاناً في أحد مستويات الهوية يتناسب مع تقبل الجماعات لها وادراجها ضمن الأوساط التوصيلية غير الشفهية التي يستخدمونها للتعبير عن قيمهم ورؤاهم.. إذاً نحن بحاجة إلى أن نتعرف أكثر على الكيفية التي يمكن أن تنتقل بها الاشكال من التعبير عن هوية ضعيفة إلى التعبير عن هوية قوية وبالعكس.

عندما نتحدث عن الهوية المعمارية، فإننا بالتأكيد نتحدث عن هوية المتلقي للعمارة الذي له دور كبير في صناعة تلك الهوية.. لقد ذكرنا ان العمارة المتميزة بحاجة إلى مالك متميز ومستخدم متميز ومعماري متميز.. اذاً الهوية المعمارية هي انعكاس لهوية المتلقي ونتيجة لارادته.. نستطيع هنا أن نتحدث عن حدثين يوضحان دور المتلقي في صناعة الهوية العمرانية.. مؤخراً (يوليو 2001م) كنت قد انتهيت من الفكرة التصميمية لأحد المساكن في مدينة الخبر، ورغم ان فكرة التصميم كانت تحاول أن تركز على صناعة رؤية واضحة للمسكن المناسب للأسرة السعودية المحدودة الدخل، إلا أن صورة المسكن المنطبعة في ذهن المالك كانت مختلفة، فقد أحضر لي صورة من مجلة عبارة عن إعلان يصور مسكن أوروبي يقع على سهل أخضر وقال لي أريد مثل هذا، وعبثاً حاولت أن أغير رأسه، فقد كانت صورة المسكن عنده، والتي رسمتها الصور الفوتغرافية والسينما، تختلف عما حاولت أن أقنعه به، وفي النهاية رأيه الذي سوف ينفذ سواء أنا من سيقوم بالتصميم أو غيري.

وفي مثال آخر في مدينة الخبر احضر لي أحد الأشخاص تصميماً لمسكنه يريد أن ينفذ الرسومات التنفيذية ويقوم بالتصميم الداخلي.

المسكن من الخارج يعكس عمارة عصر النهضة في ايطاليا (عمارة بيلاديو على سبيل المثال) وهو تشكيل معماري مثقل بالزخرفة لكنه ثري.. حاولت أن أقنعه بأنه من الأفضل تغيير التصميم لكنه اجاب انه مقتنع وأنه أغلب رجال الأعمال في مدينة الخبر يفضلون هذا الطراز (وهذا حقيقة)، فلقد أصبح هذا الشكل يعبر عن فئة اجتماعية محددة تتمتع بالثراء.. بالتأكيد نحن هنا أمام تحدٍ واضح، إذ انه كيف يمكننا أن نصنع عمارة أصلية ومتميزة دون أن يكون هناك الإنسان الواعي بأهمية وجود مثل هذه العمارة.. عندما يصبح المتلقي بلا هوية سوف تصبح العمارة بلا هوية، والعكس صحيح.

تشكيل هوية المتلقي (5)

ربما نحتاج ان نتكلم عن كلمة "تلقي" ففي الأدب، خصوصاً الأدب الألماني، تعنى نظرية التلقي بتأثير كاتب ما على الأجيال اللاحقة، خصوصاً الكتّاب اللاحقين. ويؤكد (هولاب) ان نظرية التلقي تشير "إلى التحول العام للاهتمام من المؤلف والعمل الأدبي إلى النص والقارئ". ولعل هذا يجعلنا نركز اهتمامنا أكثر على أهمية المنتج المعماري (النص) بصفته العمل الابداعي الفعلي الذي يمكن ان يشكل هوية المتلقي عبر الزمن. يرى (لياوس) انه "لا يمكن الفصل بين النص الذي نقرأه وبين تاريخ تلقيه. ان الأفق الذي ظهر فيه النص في البداية يختلف عن افقنا ويكون جزءاً منه في آن واحد، أي انه يكون بعيداً زمنياً عن الأفق الحاضر ولكنه يكونه ايضاً. وبالتالي فالنص باعتباره وسيطاً بين الآفاق هو بضاعة غير ثابتة: أي كما ان افقنا الحاضر يتغير فإن طبيعة انصهار الآفاق تتغير كذلك. وهكذا فلأن النص ممكن فهمه بفضل الانصهار، فإنه يصبح وظيفة من وظائف التاريخ. باختصار، يدرك النص في صيرورته وليس باعتباره وجوداً ثابتاً. وما ينطبق على النص الأدبي ينطبق على العمل المعماري الذي يمكن تفسيره واستخلاص معاني مختلفة منه باختلاف المتلقي وباختلاف معطيات الزمن الذي يرى فيه المبنى. وهذا ما يؤكده (ايزر) الذي يرى "ان جوهر العمل الأدبي ومعناه لا ينتميان إلى النص، بل إلى العملية التي تتفاعل فيها البنيات النصية وتصور القارئ. وخلال هذا التفاعل تناط بالقارئ مهمة بناء عمل فني فريد لم تتم صياغته بعد. كما تناط به مهمة اكتشاف نماذج المعنى الذي ينشأ من هذه البناءات".

دون شك ان مفهوم التلقي وتشكيل هوية المتلقى يعد من المفاهيم غير الثابتة، فليس هناك آلية واحدة للتأثير على شخصية المتلقي وليس هناك هدف واحد يمكن جعله هدفا للمتلقي. تكمن الاشكالية في تجربة المتلقي نفسه الذي يستنبط المعنى من النص (العمل المعماري)، إذن نحن أما ظاهرة متغيرة لا يمكن حصرها في صورة أو صور معينة. على اننا ونحن نتحدث عن عمارة المستقبل في المملكة العربية السعودية نتطلع إلى صناعة عمارة ترتقي بالمتلقي كما سيرتقي المتلقي بها، وربما نركز على البدايات التي تذهب إليها نظرية التلقي وهي تأثير أحد المعماريين البارزين على المعمارين اللاحقين، اننا فعلاً نفتقر لمثل هذا التأثر الموجود في الغرب، فنحن نميز أحد المعماريين المعاصرين بأنه (كربوزيان) أي متأثر بالمعماري (ليكوربوزيه) وهكذا، بينما لم نستطع حتى هذه اللحظة ان نتحدث عن معماريينا وتأثيرهم على المعماريين والعمل المعماري في المملكة. ربما كذلك نحتاج أن نبرز العمارة المتميزة في بلادنا وان نجعلها ضمن مناهج التعليم، حتى نستطيع أن نبني تجربة الفضاء البصري لدى أطفالنا، فهم بحق متلقي العمارة وهم من سيصنعها في المستقبل.

إذن لنحاول أن نصنع الفرصة للتجربة التي يمكن ان ترتقي بفكرنا المعماري ليس على مستوى الخاصة بل على مستوى العامة، مستوى الجمهور، فالعمارة للجميع، وكلنا نعيش فيها ونتأثر بها وتصنع الصور البصرية في اذهاننا وما لم يتحول الاهتمام إلى العامة من خلال صناعة الوعي المعماري القائم على التجربة الحسية التي تصنعها الأمثلة المعمارية المتميزة، لا نعتقد انه يمكننا ان نرتقي بذوق المتلقي.

 

 

المصدر: د. مشاري عبدالله النعيم (رئيس قسم العمارة بجامعة الملك فيصل) المصدر : جريدة الرياض / العمران والتنمية الاحد 27 رجب 1422 - Sunday 14 October
  • Currently 150/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
50 تصويتات / 1281 مشاهدة
نشرت فى 29 مايو 2010 بواسطة Architecture

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

443,700