كثيرة هي الدراسات التي بحثت موضوع الزمن كبعد رابع في العمارة. إذ تنظر الدراسات المختلفة الى عامل الزمن وتأثيره بالناتج التي تفرزه عملية التصميم المعماري. ويبرز الثالوث الإنسان والمكان والزمان كأهم المتغيرات والمؤثرات التي تتناولها معظم الدراسات. بيد أنه يبدو أن الزمن كعنصر أساسي ومهم في العمارة ينظر اليه كمتغير "مبهم", بمعنى أن ماهية الزمن وارتباطاتها الحسية كعنصر "غير حسي" بالعمارة وتأثيراتها لم تتطرق لما يعنيه البعد الرابع في الفكر المعماري ذاته لا كناتج عمراني فحسب. وبكلمات أخرى تنحو الدراسات الى النظر للزمن على أنه متغير فقط واعتبار أن له تأثير على العمارة بدلالة الفروقات الزمنية – كتغير يومي وفصلي, أوالزمانية – كتغير حقب وسلالات بشرية, لكن تأثير "فكرة الزمن ذاتها" المباشرة على العمارة والفكر المعماري –وبحسب علمي- فلم تطالها أفكار الباحثين. ولذلك فإن ما يسعى اليه هذا المقال بالتحديد هو الإجابة على التساؤلات الرئيسة التالية: ما هو مفهوم الزمن بتعريفه الفلسفي؟ وما هو تأثير الزمن "بحسب هذا المفهوم" في العمارة كتفكير وكآلية منهجية في البيئة المبنية؟
للإجابة على التساؤل الأول فيما يتعلق بفكرة الزمن دعونا نبدأ من المقاربة الأساسية التالية: معروف منطقيا أن الماهيات في هذا الكون تقسم الى عدة أنواع, منها ما هو حسي ملموس يتحدد ويعرف بدلالات حسية فقط كالجماد عموما, أو الحسيات التي تتحدد خصائصها بكينونتين واحدها حسية –الأعضاء البيولوجية المادية الملموسة, والأخرى معنوية –الروح, كالمخلوقات الحية كالإنسان مثلا والحيوانات وتشمل النباتات. وهناك ماهيات "لا حسية" تتحدد بدلالة الحسيات كالشمس وضوئها والقمر ونوره. ويستتبع هذه الفصيلة من اللاحسيات التي تتحدد بالحسيات أنواعا عديدة من غير المرئيات كالفضاء أو الحيز الفراغي والبيئات المتعددة الإجتماعية والثقافية والدينية والسياسية التي تتحدد خصائصها وتتنوع من مكان لآخر بحسب طبيعة الحسيات التي تكونها –نحن البشر. وهناك ماهيات في هذا الكون مخلوقة من طبيعة عجيبة لا تتبع أيا من قوانين الماهيات السابقة إذ تتحدد بطريقة غير مباشرة بدلالة ماهيات أخرى حسية وبأفعال هذه الماهيات الحسية معا –كفعل دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها- بيد أنها هي ذاتها "غير حسية" ومثال هذا النوع الزمن. فما هو الزمن بتعريفه الفلسفي؟
الزمن –بتعريفه وبحسب ادعاء هذا المقال- هو مخلوق دنيوي من عالم الخلق المحدود الفاني –لا عالم الأمر الأزلي الباقي- بيد أن له ماهية مختلفة تماما عن سائر المخلوقات الأخرى إذ وظيفته مرجعية لجميع ما حوله ممن في عالمه فقط. ولذلك –بإدعاء هذا المقال- نحن كثيرا ما نخطئ إذ نعمد إلى مد حدود "الزمن" الى أبعد من حدود العالم الذي تشكل فيه والذي خلق لأجله ولغاية واحدة من أجلها خلقت الحسيات التي تشكله وهي الكواكب ودورانها وذلك (لتعلموا عدد السنين والحساب) أي "كمسطرة" و"آلة قياس" لمرور الوقت. كذلك نخطئ أيضا بنسبة التقادم أو الفناء للزمن ذاته. فالزمن "كمسطرة قياسية" ليس مسؤولا عن شئ أنما هو وسيلة وأداة مرجعية للاستناد اليها فيما يخص "الدفق" الوقتي الذي صمم ليجري من الماضي عبر الحاضر الى المستقبل. تماما كمن يخطئ بنسبة إرتفاع المد بأمواج النهر الى المقياس النهري المستعمل لذلك. أما التقادم والهرم والهلاك فمرده البنية التكوينية البيولوجية للأشياء في عالم الخلق والتي تجعلها تتآكل مع مرور الزمن إما بفعل عوامل التعرية, وإما –في حالة الإنسان وكما أثبت العلم الحديث, بسبب مرور الدم في الأوردة والشرايين على مدى السنين مما يجعلها عرضة للتآكل تماما مثل المواسير بالمبنى المعماري مما يكسب البشرة طابع التقادم والهرم. وإذا انطلقنا من هذه الفكرة ولإدراك مفهوم وفكرة الزمن علينا أن ننظر للعوامل الحسية التي تشكل الزمن. ومن أجل شمولية البحث ولإدراك فكرة الزمن في عالمنا الفاني يبدو من المفيد أن نتطرق لمفهوم "عكس الزمن" في عالم الأمر الباقي؟ فما هو الأول وما هو الثاني؟
من أجل البحث عن الإجابة سنستعين بالمادة الثيولوجية والمنطقية العلمية المتوفرة في هذا الخصوص. ونبدأ بالتساؤل المنطقي التالي: ما الذي يحدد ويشكل الزمن في عالمنا؟ والجواب العلمي المعروف للجميع هو أن الزمن يتشكل بإحداثيات حسية هي كواكب ونجوم وأفعال -هي دورانها حول بعضها, وسرعة الدوران هذه تحدد بصورة أساسية "وحدات الزمن" القياسية بما نستطيع فهمه وهي الغاية من خلق الزمن. فدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس بسرعة معينة "تخلق" الزمن الأرضي. بيد أن "الزمن" كأداة قياسية انما هو متفاوت التدريج, إذ هو "أزمنة" –وإن شئت فقل "مساطر قياسية" متعددة, تماما كما أن "المكان" ليس واحدا إنما هو "أمكنة". فالزمن على الأرض ليس هو ذاته على عطارد أو المشتري أو الزهرة الذي يدور حول نفسه ببطء وتكاسل شديد إذ يستغرق 243 يوما أرضيا ليكمل دورة واحدة حول نفسه وهو أطول من الوقت الذي يستغرقه للدوران حول الشمس, بمعنى أن اليوم على الزهرة أطول من السنة وهو من عجيب التنوع في هذا الكون. وأقرب هذه الكواكب لزمننا الأرضي هو المريخ إذ أن اليوم المريخي هو 24 ساعة و36 دقيقية أرضية وله فصول أربعة مشابهة لفصولنا الأرضية بسبب درجة ميلان محوره عن الشمس المشابهة لدرجة ميلان أرضنا. وبما أن الأيام على كواكبنا المحدودة التي تنتمي لشمسنا ليست واحدة وهي التي تحدد الزمن في كل مكان منها بدرجة أساسية فمعنى ذلك أن الزمن وفكرته الفلسفية معتمدة اعتمادا كليا على هذه المخلوقات الدنيونية الفانية ولا بد يوما. وما يعتمد على ما هو فان فلا بد أن يكون فانيا أيضا بالمنطق. بمعنى أن "الزمن" الأرضي الذي نعرفه هو مخلوق يموت كل لحظة, أفلا تموت الثواني على الدوام منذ زمن آدم عليه السلام. ومن هنا نستحضر الحديث القدسي الذي معناه (فإني كتبت الموت على كل ما هو تحت العرش). والزمن هو مخلوق من مخلوقات الله تعالى تحت العرش. وهنا تبرز فكرة نناقشها لاحقا في هذا المقال وهي: بما أن الزمن هو مخلوق فان فكيف لخالقه أن ينضوي تحت قوانينه؟ كيف للخالق المطلق أن تحكمه قوانين المخلوق الفاني؟
من هنا تبرز فكرة لنعمل فكرنا المحدود بها وهي فكرة "عكس الزمن" أو اللازمن. ما هو عكس الزمن؟ نحن نعرف أن عكس المادة هي العدم ولكن كيف هو العدم؟ ماذا يعني الصفر بالضبط؟ وبالمثل نتساءل ما هو الخلود أو عكس الإنضباط بالزمن؟ لا أعتقد أن بوسعنا إدراك ذلك تماما إذ نحن محدودون بطبيعة خلقتنا الحالية بضوابط ومحددات كثيرة, إنما بوسعنا الإستقراء بما نعلم مما يحيط بنا من عالمنا. وهذه بعض الأفكار لنعمل فكرنا فيها. ما رأي القارئ الكريم إذا طرحت فكرة أن "الزمن" الدنيوي كإسم جنس - ولنسمه مثلا (حسنين) - قد ينتمي "لعائلة أوسع" من "الزمن" الكوني لكن لكل واحد منها طبيعة مختلفة تماما. ولتقريب ما أقول للمنطق وللذهن, أضرب مثالا من الملموسات –مع مرعاة أن الزمن ليس بملموس كما ذكرنا أعلاه- هناك التفاح والبرتقال وغيره مما ينتمي لعائلة أوسع هي الفاكهة, وكذا عائلة الخضروات وعائلة "البشر" وعائلة الكواكب وعائلة الحيوان وعائلات الطيور وعائلة المكان (الماء والهواء والتراب والنار), فبالمنطق ما الذي يمنع من وجود "عائلة" واسعة ينتمي اليها صاحبنا (حسنين) إذ هو ليس مقطوعا من شجرة إذ ولا بد أن له شجرة عائلة ينتمي اليها أسوة بسائر المخلوقات ومنها المكان. ولا أعني أن عائلته ولا بد أن تكون دنيوية. ما الذي يمنع من وجود صور أخرى لخلقة الزمن تتشكل بمعطيات ومؤثرات حسية أو لا حسية؟ بمعنى أنه ما الذي يمنع من وجود صور فريدة للزمن متطورة بطبيعتها بحيث لا تكون مشابهة لطبيعة زماننا المحدودة بعناصر حسية فانية؟ ما الذي يمنع من وجود صورة أو صور متقدمة فريدة "للزمن" كمسطرة قياسية مرجعية لا تقيس الفناء كما في عالم الخلق الفاني خاصتنا, إنما تقيس الخلود إن كانت هناك حاجة أصلا لقياس الخلود؟ ما الذي يمنع من وجود صورة للزمن تتحدد مثلا –وأقول مثلا- بطواف المائة ألف ملك في السماء حول البيت المعمور الذي يشابه كعبتنا لقياس عالم الخلود كحقب زمنية بما يناسب مفهوم الخلود, وبما أننا سلمنا جدلا أعلاه أن الزمن إنما هو مسطرة قياسية فقط ولا علاقة له بالفناء نفسه إنما هو فان في عالمنا لإعتماده على كواكب تفنى فإن صورة الزمن (إبن عمومة صاحبنا حسنين) في عالم الأمر الخالد ولا بد أن يكون صورة من صور الخلود أيضا؟
وعندما أقول "يشابه" كعبتنا في المثال السابق أود لفت الانتباه الى الحقيقة التالية وهي أن المشابهة إنما هي لتقريب التصور لأذهاننا المحدودة فقط وليس المقصود بها التشبيه إطلاقا. ولدعم ما أقول يحضرني التفسير العصري الرائع الذي فاق التفاسير التقليدية والتي –والله أعلم- قد أغفلت ما التفت اليه د. محمد هداية في تفسيره للآية من سورة البقرة في وصف نعيم الجنة (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها). فالتفاسير التقليدية – المغلوطة والله أعلم- تقول أن أهل الجنة حين تقدم لهم ثمارها وأطايبها يستذكرون ثمار الدنيا فيقولون هذا التفاح هو كتفاح الدنيا الذي رزقناه من قبل. فأين هؤلاء المفسرين من قوله تعالى في الحديث القدسي –وهو ما يعتمد عليه د. محمد هداية في تفسيره الرائع- (أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)؟؟؟؟ إذا كان تفاح الجنة –إن كان هناك تفاح كمسمى أصلا كتفاح الدنيا فكيف يكون مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)؟؟؟؟ وقس على ذلك الحور العين وسائر نعيم الجنة بمعنى أن كل شئ لا بد وأن يكون بالضرورة مختلف تماما عن هذه الدنيا إنما تعمد الآيات والأحاديث الى "وصفها لنا بما نعرف". وبرهان ذلك تكملة الآية الكريمة (وأتوا به متشابها) فالمقارنه هي مع ما تناولوا من قبل "في الجنة نفسها" لا مقارنة مع الدنيا حيث أن الشكل واحد ولكن الطعم متجدد كل مرة إذ لا سأم ولا ملل في الجنة, إذ (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) فطبيعة الخلق كله قد تبدلت, طبيعة البشر أنفسهم وخلقتهم قد تبدلت (فبصرك اليوم حديد) لتناسب الخلود والإستمتاع بطبيعة نعيم الجنة وأهلها والنظر الى وجه الله الكريم والتي لم يقوى عليها موسى في الدنيا وخر صعقا حين تبدى ربه للجبل الذي دك دكا وهو من أشد مخلوقات الله تعالى "الدنيوية". ومن هنا وبما أن كل شئ يعاد تركيب خلقته ليناسب عالم الخلود فما الذي يمنع من أن تكون لصاحبنا (حسنين) الزمني عائلة أو عائلات "زمنية" لكل منها خلقة أعجب من الأخرى ومختلفة تماما عن (حسنين) اسمها الزمن أو تنتمي لفصيلة الزمن؟؟
ولذلك كم هو محدود من يظن أن الخالق المبدع الأول الآخر العليم القديم ينضوي تحت قوانين "زمن" مما خلق!!!! أو حتى "فرد" –(حسنين)- من عائلة واسعة من المخلوقات. تماما كمن يحجر فكره فيقول إن مملكة السماء والدار الآخرة تخضع لقوانين المكان, فهي إما نار أو هواء أو تراب أو ماء؟ أفليس الذي خلق لنا هذه الأربعة وعرفنا بها بقادر على أن يخلق غيرها؟؟؟ بلى. ولذلك يحضرني من الأثر أن الله تعالى خلق الخلق كله في الأزل (فليس مقيدا باللحظة التي نظن أن الجنين بالرحم قد خلق فيها, فهذا سيعني أن الخالق محكوم بدوران الأرض حول الشمس وبالزمن الدنيوي الفاني) إذ مسح على ظهر آدم فأخرج ذريته وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ ولذلك يذهب العلماء الى أن الله تعالى خلق الخلق كله في عالم الأمر الأزلي السرمدي الذي لم يخلق به "زمانا" وبذا فهو مطلق أبدي, وينقل هذا الخلق الى عالم الخلق الذي نعرفه بما شاء وكيف يشاء إذ لا يمكننا بحال إدراك كيف لا يخضع الخالق لزمن بعملية النقل هذه من العالمين –من عالم الأمر الى عالم الأمر. فعقولنا مبرمجة في عالمنا الحالي على ضرورة وجود زمن بما ندرك مما حولنا. وكم هو مسكين من تحكمه معطيات الخلق وعالمه عن أن يسبح بفكره في ملكوت الله العظيم. ولذلك علمنا أن الله تعالى خلق الخلق في ستة أيام. وقد يتبادر لذهن أحدهم ممن استولى (حسنين)على فؤاده وإدراكاته أن الله تعالى يخضع للزمن بعملية الخلق هذه وهو سبحانه في عالم الأمر, وما درى المسكين أن في هذه الحقيقة فكرتين أساسيتين: الأولى أن ذلك يدل على عظمة الخلق ذاته, إذ أن الخالق العظيم القدير الذي بوسعه أن يخلق بين الكاف والنون (كن) قد خلق خلقا مترابطا بمرئياته وما لا يبصر منه في انسجام كوني عجيب بحيث أستغرق هذا الخلق لينضج ستة أيام (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون). تماما كما يستغرق الكمبيوتر وقتا من أجل "إنجاز" لوحة هندسية معمارية to process a drawing . وفي هذه الفكرة حقيقة مرعبة ودعوة للتدبر في هذا الخلق العجيب المترابط الذي تطلب (الكمبيوتر الإلهي) ستة أيام كاملة (بما نفهمه نحن المحدودين) ليتم نضجه واستواؤه. الفكرة الثانية أن الستة ايام المذكورة إنما هي لتقريب الفكرة لأذهاننا المحدودة بما نفهمه, إذ أن إدراكاتنا المحدودة تفهم بدلالة المحدود وبدلالة مسطرة قياسية. أفلا نتذكر جميعا أن العرب كانت "تقيس" الأمور بما تفهم؟ وكم ورد في أخبار العرب قياس الزمن بالمسافة أو المسافة بالزمن كقولهم (مسيرة يومين). ولا يعني هذا بحال أن الله تعالى تحكمه قوانين مكان أو زمان, إذ أول ما خلق القلم قال له اكتب. قال وما أكتب؟ قال أكتب ما هو كائن الى يوم القيامة. فالماضي والمضارع والمستقبل هي من متعارفاتنا نحن المحدودين. ولذلك وردت النصوص القرآنية بصيغات متعددة لا تخضع لزمان واحد, (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) أنظر الى اختلاف الأزمان في مادة ( س م ع) في نفس الآية. ومن عجيب قدرة الله تعالى –مما علمت- أن الله تعالى يسمع المرئيات ويبصر المسموعات, والله أعلم إذ (ليس كمثله شيء) سبحانه.
فالزمن الدنيوي هو مرجع لنا فقط لمحدوديتنا إذ ندرك الأمور المعدودة فقط فلا نعرف ما بعد ما اصطلحنا عليه من الأرقام (بما يعرف اللانهاية في الرياضيات والحساب).ولا نستطيع أن نرى أصغر من الجزئ داخل الذرة فاصطلحنا على أنه أصغر الموجودات مع أن المنطق العلمي يقول أن الجزئ ولا بد مكون مما هو أصغر منه وهكذا إلى ما لا نهاية. وهذا الزمن يؤول إلى التناقص يوم الحشر, (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم), (قال بل لبثتم إلا قليلا فاسأل العادين). وهذا ينطبق على أول ميت من عهد آدم قبل ملايين السنين إلى آخر ميت قبل قيام الساعة. الكل يظن أن الزمن في الدنيا قد تقلص إلى يوم أو أقل من يوم؟؟؟؟ ما معنى هذا؟ معناه أن هذه المسطرة القياسية ليست حقيقية بمعنى أنها نسبية مؤقتة لهذا العالم وتعتمد قراءتها على مجموعة مقياسية غير موضوعية كالحالة النفسية التي تطول الزمن أو تقصره إلى غير ذلك أو يتناسب عكسيا مع السرعة ويقترب من الصفر ويتجمد إذا اقتربنا من سرعة الضوء كما ذهب إليه آينشتاين في نظرية النسبية. وهذا كله يدعم الفرضية بأن الزمن في عالمنا محدود لعالمنا فقط ولا يصلح لعالم آخر بخلقته الحالية.
وبما أن الزمن مرتبط بالكواكب والنجوم التي تدور فيستتبع ذلك أنه يمكن قراءته بدلالة متعلقات هذه الحركة وإن كانت غير حسية كالظل مثلا وهو من أبرز متعلقات الزمن بالعمارة. ولننظر إلى قوله تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا, ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) الفرقان الآية 45 . ولذلك تشير الآية الكريمة إلى الظل كماهية "ممتدة" لتعلن الحركية الناتجة من بزوغ الشمس على سطح الأرض الكروي وما ينتج عن استطالة "ومد" ظلال الأشياء نظرا لزاوية سقوط أشعة الشمس وبحيث تتناقص مع ارتفاع الشمس التي هي دليل الظل والزمن في كبد السماء. ولذلك فللزمن مفهومان: الأول مفهوم الزمن كأداة حية متجددة تلقي بظلالها على البيئة المبنية في كل لحظة. والثاني كطبقات مرحلية من الدفق الوقتي بما يميز فترة تاريخية عن سابقتها وبما تحمله من عوامل وتأثيرات اجتماعية وثقافية وغيرها.
والتساؤل الذي يعنينا بعد كل هذه المقاربات الأساسية هو: كيف نظر المعمار للزمن وما هو تأثير هذه النظرة في العمارة كآلية وكناتج؟ غالب الدراسات والنظرات للزمن انطلقت من المفهوم الثاني للزمن ونظرت للعمارة كطرز معمارية تميزت كل منها عن غيرها بالتقادم وبما تحمله كل فترة دون الأخرى. أما النظرة الأولى فندرت الدراسات التي أولتها ما تستحق من الاهتمام. بيد أن المعمار المسلم قد التفت إليها لماما إذ أدرك علاقة الزمن "كمسطرة قياسية" بما حولها من "أدوات حسية مصاحبة" تصنعها فدخلت هذه الأدوات جميعها "وكآلية" لصنع الزمن الأرضي في عمارته. فقد التفت لأهمية الشمس-كالإغريق والرومان والفراعنة من قبل- في تحديد الزمن وبرع المعمار المسلم بخاصة في إدراك هذه العلاقة من الظل بما تعنيه الآية الكريمة فابتكر "المزولة" الشمسية التي تحسب ساعات النهار بدلالة إسقاط حركة الشمس والظل من جسم عمودي على سطح مقعر. وليس هذا فحسب بل شكلت حركة الكواكب والنجوم نقاطا مرجعية مهمة في "الحدث" المعمارية كآلية إفراز نواتج اجتماعية كدفن الموتى عند المصريين والتحنيط وغيرها.
كانت هذه مجموعة من الأفكار التي دارت بذهني أثناء جلوسي بقطار Euro Star وعودتي من باريس إلى لندن العام الماضي مع خواطر تراكمت وتزاحمت طوال العام أحببت أن أضعها تحت اهتمامكم للتفكر والتدبر والنقاش مع ترحيبي الشديد بالاقتراحات والتساؤلات والتصويبات فكلنا بشر خطاؤون وخير الخطائين التوابون, إذ أن النقاش العلمي الموضوعي والتفكر والتفكير هي أبرز المنح والأعطيات التي حبينا بها معشر البشر وهي ما تميز مجتمعات منا عن الأخرى في "عالمنا المعاصر المحدود".
ساحة النقاش