أغلبية البيوت العربية القديمة منكسرة بزاوية 90 درجة لمنع رؤية أهل البيت من الزقاق أو الحارة عن طريق الباب المفتوح، وقد استعملتْ المداخل المنكسرة قديماً في منازل الفسطاط وبغداد.
إن الوظيفة الرئيسية لانحراف الزاوية القويّ هذا هو دفع الداخل إلى البيت بشكل متواصل إلى الاستدارة بزاوية 90 درجة منذ اللحظة التي تطأ فيها قدمه عتبة الباب لكي لا يرى السيّدات في داخله.
العمارة التقليدية مُشادَةٌ في جزء كبير منها وهي تضع في اعتبارها وضعية النساء في شرط لا يحبّذ حضورهن الفيزيقي بحيث أن العُقدة (أو العقيدة) النسائية في الضمير الثقافي تمتد وتتدخل في تكوين أشكال وجماليات العمارة بأنماطها التقليدية، وحتى ببعض أنماطها الحديثة الراهنة في مناطقَ سَكَنٍ أساسيةٍ من أحياء العالم العربي والإسلامي. بل انها تمضي بعيداً في عملية الحجب. لهذا الحجب مصادر وتقاليد عريقة. ينقل لنا د. خالد عزب ما يلي: «في منازل مدينة رشيد، في مصر، خُصّص الطابق الأول علوي لاستقبال الضيوف، وعند بداية الطابق الثاني علوي ينتهي السلّم الصاعد إلى المنزل من الطابق الأرضي ليبدأ سلّم آخر من داخل الطابق الثاني والطوابق الأخرى، وهو ما يعكس فكرة عزل طوابق المنزل التي تختص بصاحب المنزل وعائلته عن طابق الاستقبال، وفي حالة نقل الطعام للضيوف من الطوابق العلوية إلى الاستقبال يتم ذلك عن طريق (سلّم سري) في إحدى الحجرات كما في (منزل رمضان)، حيث تضع النساء الطعام وتعود إلى مكانها. ويتكلم عن ابتكار اخر في مدينة رشيد هو (دولاب المناولة)، وهو دولاب حائطي يدور على محور خشبي يوضع الطعام عليه ثم يدار الخارج ليقدّم صاحب المنزل الطعام لضيوفه. والفكرة مطبقة في منزلين هما (منزل البقراولي) و (منزل جبري)».
الفناءات والخارج المشبوه
يتكوّن البيت العربي التقليدي من باحة (فناء، حوش، صحن) مُحاطة بغرف الضيوف والاستقبال، ومن دور علوي لسكن أفراد الأسرة في حالات غالبة.
يحجب الفناء الداخلي السكان عن تقلبات الطقس ويترك له حرية التمتع بالسماء لوحدها، وبعبارة أخرى فهو يقوم بعازل حقيقي للسكان عن حركة المجتمع في الخارج.
ومن دون شك فإن فكرة الحوش المُغْلَق تهدف إلى الإبقاء على درجة حرارة منخفضة. أما الجزء العلوي منه فيسعى للإبقاء على السكان في مكان مراقَب وإبعادهم عن العيون، بينما تُترك السطوح، في بعض المناطق، للنوم في العراء في ليالي القيظ القائظ في العالم العربي.
ضرر الكشف
أول هذه التفاصيل وأبرزها هي (المداخل المنكسرة) عند مداخل البيوت التقليدية. إن أغلبية البيوت القديمة منكسرة بزاوية 90 درجة لمنع رؤية أهل البيت من الزقاق أو الحارة عن طريق الباب المفتوح، وقد استعملتْ المداخل المنكسرة قديماً في منازل الفسطاط وبغداد. إن الوظيفة الرئيسية لانحراف الزاوية القويّ هذا هو دفع الداخل إلى البيت بشكل متواصل إلى الاستدارة بزاوية 90 درجة منذ اللحظة التي تطأ فيها قدمه عتبة الباب لكي لا يرى السيّدات في داخله.
إن أصول التنظيرات بشأن (المدخل المنكسر) مسرودة في مصنفات فقهاء القرن الثأمن الهجري وأبرزها كتاب ابن الرامي الإعلان بأحكام البنيان الذاهب، بشكل رئيسي إلى أن المدخل المنكسر عنصر يُحقّق (غرض الوقاية من الكشف) أي الوقاية من إطلال المار في الطريق أو الزائر للدار.
لنرَ أن الفناء الداخلي يظل الميّزة الأساسية لجميع البيوت في العالم العربي لكي يقوم بوظيفة العزل الاجتماعية بين الرجال والنساء. ولو أخذنا بعض بيوت دبي مثلاً لرأينا أن بيت الشيخ سعيد آل مكتوم (1896) وبيت التراث (شُيّد عام 1890) وبيت الوكيل (1934) تتابع المخطط نفسه القائم على فناءات معزولة عن العالم الخارجي، بل عن الضيوف في الفضاء السكني الواحد.
وفي الشارقة ثمة البيت الغربي «بيت الشيخ سلطان بن صقر القاسمي» الذي بني قبل نحو (200) سنة. وبيت النابودة الذي بُني عام 1845، حيث سكن فيه النابودة وزوجته وأبناؤه السبعة، ويتكون من (16 غرفة)، ثلاث منها في الطابق العلوي فيما تقع بقية الغرف في الطابق الأرضي. وفي البحرين لدينا في (بيت الجسرة) مثال آخر. بنى هذا البيت الشيخ حمد بن عبد الله آل خليفة في سنة 1907 .
كان البيت البغدادي يتألف بدوره من جناح يحتوي على (إيوان) تحفُّ به من الجانبين حجرتان أو أكثر هي القوة الأساسية. أهم ما يميز البيت العراقي التقليدي هو وجود (الفناء) ذاته، أو اكثر من فناء يتوسط بعضها حديقة صغيرة ونافورة. وقد خُصّص بيت للرجال وآخر للنساء وثالث للخدم. وقد يلحق ببعض البيوت الكبيرة محل خاص لإيواء الخيول.
وفي سوريا ثمة قصر العظم الذي أنشأه الوالي أسعد باشا العظم عام 1740م. أما في عصر نصوح باشا العظم فقد تحول القصر من بيت الوالي إلى بيت خاص بالحريم «حرملك» وأضاف إليه «السلاملك» عام 1780 .
في جميع الأمثلة يراعي المهندس بدرجة أساسية توفير أجواء اجتماعية مثالية للرجال. النساء منعزلات في الحوش والمطابخ وأدوار السكن الملحقة بعيداً أو في الطابق العلوي. من جهة أخرى فإن الإطلالات على الخارج تتقلص إلى أبعد حد بالنسبة للجميع. وفي صلب المخطّط الهندسي يصير العالم الخارجي معادياً ويتوجب التقليل من الاحتكاك به. يذهب حصار النساء في العمارة إلى حد بعيد في العمارة العربية. وعلى ما يشرح المعماري ستيفانو بيانكا Stefano Bianca في كتابه بالإنجليزية (شكل السكن المديني في العالم العربي Urban Form in The Arab Word): «يمكن أن تنسحب النّساء إلى حجرات (الميزانين mezzanine) المنخفضة (كابيشكان) التي عندما يُسْتُخْدِمَ الطّابق الرّئيسيّ لاستقبال الذكور. كان الكابيشكان يمتلك نوافذ موضعية استراتيجية تتمكن النّساء عبرها النظر إلى اليورسي أو الطارمة أسفلهنَّ وكذلك مراقبة مستوى الفناء المنخفض من بين صفّ الأعمدة المفتوح».
ماذا تعني استقلالية البيت العربي؟
من بين أمورٍ أخرى يُوصَفُ البيت العربيّ، من طرف المتخصصين، (بالاستقلالية) وهو تعبير يشير من دون شك إلى (اكتفائه الذاتي) أي سعيه إلى أن يكون مجتمعاً مصغّراً منغلقاً على نفسه و يمتلك أقل العلائق مع المجتمع الكبير. نلاحظ في هذا السياق ثلاث ميزات معمارية أخرى للبيت التقليدي وأسلافه، وكلها ذات هدف اجتماعي محدد:
الأولى: ارتفاع جدران البيت العربي ليس فقط لحمايته، وإنما وبشكل مستمر من أجل إبعاد قُطّانِهِ النساء عن العيون.
الثانية: ضيق نوافذه الغادية لهذا السبب مَطَّلاً في غاية الضيق على الخارج المتهم بالشبهة والريبة، إذا لم تطل هذه النوافذ على داخل الفناء فحسب كما هو حال بيت النابودة، أو حال (النوافذ الوهمية) في الطوابق المخصصة للنساء في منازل صنعاء.
الثالثة: علو تلك النوافذ لكي تصير المسافة بين الداخل والخارج في غاية الاتساع، ودوماً من أجل ترك أقل قدر من الهامش له ومنعه من ولوج حرمة المنزل.
لنتوجه، كي نرى بعض هذه المبادئ، إلى منازل وادي حضرموت في اليمن. وفي شبام على وجه التحديد حيث الارتفاعات الشاهقة التي وإن منحت البنايات مرأىً جمالياً لا شك فيه فإنها مقصودة لأغراض وظيفية وقيمية اجتماعية قبل أي أمر آخر. وحيث النوافذ شبه الوهمية الكثيرة التي لا تفرق العين عن بعد بينها وبين النوافد الحقيقية. إن ملاحظة المعمارية سلمى سمر الدملوجي المشيرة إلى «أن المبدأ المعماري الذي صُممّتْ هذه البيوت على أساسه يختلف عن ذلك الذي حكم البيوت العربية التقليدية (حيث) جرى التخلّي عن الفضاءات أو الفناءات المكشوفة في الداخل (الصحن)» لا يغيّر من حقيقة أن أحد مبادئ عمارة شبام هو حجب المرأة بطريقته الخاصة. كل العناصر في البيوت التقليدية في المغرب العربي أيضاً (تونس، الجزائر والمغرب) تكشف أن فكرة (خصوصية) و(استقلالية) المنزل توطِّن ثقافياً استبعاد النساء عن الفضاءات المشتركة والعالم الخارجي. وإذا ما تشابهت الشروط السكنية التي توضع فيها المرأة في مشرق العالم العربي ومغربه فلأن الأمر يتعلق بقرون من أيديولوجية الاستبعاد والرفض.
المصدر: مقال لشاكر لعيبي
نشرت فى 29 مايو 2010
بواسطة Architecture
عدد زيارات الموقع
449,350
ساحة النقاش