مكتبتي

مجموعة من المقالات والتحليلات والتقارير في أغلب أمور الدنيا

جريدة الجريدة

العدد 1193 - 19/03/2011

تاريخ الطباعة: 19/03/2011

اطبع


معجزة موريشيوس

Joseph Stiglitz

نجح أهل موريشيوس في زيادة نصيب الفرد في الدخل من أقل من 400 دولار أثناء سنوات الاستقلال إلى أكثر من 6700 دولار اليوم، كما تطورت الدولة من الثقافة الأحادية القائمة على السكر، والتي دامت خمسين عاماً، إلى اقتصاد متنوع يشتمل على السياحة والمنسوجات، بل والتكنولوجيا المتقدمة إذا أتت الخطط الحالية ثمارها.

فلنتصور معاً أن شخصاً ما يصف لك دولة صغيرة توفر لكل مواطنيها التعليم المجاني إلى نهاية المرحلة الجامعية، والنقل لتلاميذ المدارس، والرعاية الصحية المجانية للجميع- بما في ذلك جراحات القلب، قد تظن أن مثل هذه الدولة إما أن تكون فاحشة الثراء، وإما أنها تسلك مساراً سريعاً نحو أزمة مالية طاحنة.

والواقع أن البلدان الغنية في أوروبا وجدت بشكل متزايد أنها غير قادرة على تحمل نفقات التعليم الجامعي، وهي تطالب الشباب وأسرهم بتحمل هذه التكاليف. من جانبها، لم تحاول الولايات المتحدة قط منح التعليم المجاني للجميع، بل خاضت معركة مريرة لمجرد ضمان قدرة الفقراء في أميركا على الحصول على الرعاية الصحية- وهي الضمانة التي يعمل الحزب الجمهوري الآن جاهداً من أجل إلغائها، بزعم أن الدولة غير قادرة على تحمل التكاليف.

ولكن موريشيوس، وهي دولة جزيرة صغيرة تقع قبالة الساحل الشرقي لقارة إفريقيا، ليست غنية بشكل خاص ولا تسير في اتجاه خراب الموازنة العامة. ورغم ذلك فقد أنفقت العقود الماضية بنجاح في بناء اقتصاد متنوع، ونظام سياسي ديمقراطي، وشبكة أمان اجتماعي قوية. والواقع أن العديد من بلدان العالم، خصوصاً الولايات المتحدة، تستطيع أن تتعلم من تجربة هذه الدولة الصغيرة.

في زيارة قمت بها أخيراً لهذا الأرخبيل الاستوائي، الذي يبلغ تعداد سكانه 1.3 مليون نسمة، حظيت بالفرصة للاطلاع على بعض القفزات التي حققتها موريشيوس- وهي الإنجازات التي قد تبدو محيرة في ضوء المناقشة الدائرة في الولايات المتحدة وغيرها من بلدان العالم. ولنتأمل هنا مسألة ملكية المسكن: في حين يزعم المحافظون الأميركيون أن محاولة الحكومة لتمديد ملكية المساكن إلى 70 في المئة من سكان الولايات المتحدة كانت مسؤولة عن الانهيار المالي، فإن 87 في المئة من أهل موريشيوس يمتلكون مساكنهم- من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء فقاعة في سوق الإسكان.

والآن يأتي الرقم المؤلم: لقد سجل الناتج المحلي الإجمالي في موريشيوس نمواً أسرع من 5 في المئة سنوياً طوال ثلاثين عاماً تقريبا. من المؤكد أن هذه لابد أن تكون «خدعة». فلابد أن تكون موريشيوس غنية بالماس أو النفط أو أي سلعة أساسية أخرى قيمة. ولكن موريشيوس لا تمتلك أي موارد طبيعية يمكن استغلالها. بل إن توقعاتها بينما كانت تقترب من الحصول على استقلالها عن بريطانيا في عام 1968 كانت هزيلة إلى الحد الذي جعل الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة «نوبل» جيمس ميد يكتب في عام 1961: «سوف يكون إنجازاً عظيماً إذا تمكنت البلد من التوظيف المنتج لسكانها من دون انخفاض خطير في مستواها المعيشي الحالي... والحق أن توقعات التنمية السلمية هناك ضعيفة».

وكأن موريشيوس كانت تسعى إلى إثبات خطأ ميد، فقد نجح أهل موريشيوس في زيادة نصيب الفرد في الدخل من أقل من 400 دولار أثناء سنوات الاستقلال إلى أكثر من 6700 دولار اليوم، كما تطورت الدولة من الثقافة الأحادية القائمة على السكر، والتي دامت خمسين عاماً، إلى اقتصاد متنوع يشتمل على السياحة والمنسوجات، بل والتكنولوجيا المتقدمة إذا أتت الخطط الحالية ثمارها.

أثناء زيارتي كان اهتمامي منصباً على التوصل إلى فهم أفضل للأسباب التي أدت إلى ما وصفه البعض بمعجزة موريشيوس، والتي قد يتعلم منها آخرون. وهناك في واقع الأمر العديد من الدروس المستفادة، التي يتعين على الساسة في الولايات المتحدة وغيرها من بلدان العالم أن يضعوا بعضها نصب أعينهم، بينما يخوضون معارك الميزانية.

أولاً: ليست المسألة ما إذا كان بوسعنا أن نتحمل تكاليف توفير الرعاية الصحية أو التعليم للجميع، أو ضمان ملكية المساكن على نطاق واسع. فإذا كان بوسع موريشيوس أن توفر مثل هذه الأمور، فإن دولاً مثل أميركا وأوروبا- وهي أكثر ثراءً بمراحل عدة مقارنة بموريشيوس- قادرة على ذلك هي أيضاً. بل إن المسألة تكمن في كيفية تنظيم المجتمع. فقد اختار أهل موريشيوس مساراً يؤدي إلى مستويات أعلى من التماسك الاجتماعي، والرفاهية، والنمو الاقتصادي- ومستويات أدنى من التفاوت بين الناس.

وثانياً: على النقيض من العديد من البلدان الأخرى الصغيرة، قررت موريشيوس أن أغلب الإنفاق العسكري ليس أكثر من إهدار للموارد. ولا يتعين على الولايات المتحدة أن تذهب إلى هذا الحد: فمجرد اقتطاع حصة بسيطة من الأموال التي تنفقها أميركا على الأسلحة التي لا تخوض بها حرباً ضد أعداء لا وجود لهم كاف لقطع شوط طويل نحو خلق مجتمع أكثر إنسانية، بما في ذلك توفير الرعاية الصحية والتعليم لكل مواطن غير قادر على تحمل مثل هذه التكاليف.

وثالثاً: أدركت موريشيوس أن أهلها في غياب الموارد الطبيعية هم الأصل الوحيد الذي تتمتع به البلاد. وربما كان تقديرها لمواردها البشرية هو الذي قادها أيضاً إلى إدراك حقيقة مفادها أن توفير التعليم للجميع، خصوصاً في ضوء الاختلافات الدينية والعرقية والسياسية المحتملة- التي حاول البعض استغلالها من أجل حث البلاد على البقاء كمستعمرة بريطانية- كان بمنزلة عامل حاسم في ترسيخ الوحدة الاجتماعية. وعلى هذا فقد التزمت بكل قوة بالمؤسسات الديمقراطية وإرساء مبادئ التعاون بين العمال والحكومة وأرباب العمل- أو على وجه التحديد العكس تماماً من ذلك النوع من الشقاق والانقسام الذي يهندس له المحافظون في الولايات المتحدة اليوم.

هذا لا يعني أن موريشيوس لا تعاني أي مشاكل، ذلك أنها مثلها كمثل العديد من الدول الأخرى الناشئة الناجحة تواجه خسارة القدرة التنافسية في ما يتصل بسعر الصرف. ومع تدخل المزيد من البلدان لإضعاف أسعار صرف عملاتها في الرد على المحاولة الأميركية لخفض قيمة العملة بصورة تنافسية عن طريق التيسير الكمي، فإن المشكلة تتفاقم سوءاً. ويكاد يكون من المؤكد أن موريشيوس أيضاً ستضطر إلى التدخل في سعر صرف عملتها.

فضلاً عن ذلك فإن موريشيوس، شأنها في ذلك شأن العديد من البلدان في أنحاء العالم المختلفة، تشعر اليوم بالقلق في ما يتصل بالسلع الغذائية المستوردة وتضخم الطاقة. ذلك أن مواجهة التضخم بزيادة أسعار الفائدة من شأنه ببساطة أن يزيد حدة المصاعب المتمثلة في ارتفاع الأسعار في ظل ارتفاع معدلات البطالة، بل ومن شأنه أيضاً أن يضعف قدرة سعر الصرف التنافسي. ولابد في هذا السياق من التفكير في التدخل المباشر، وفرض القيود على تدفقات رأس المال القصيرة الأجل، وفرض ضرائب على مكاسب رأس المال، وترسيخ استقرار التنظيمات المصرفية الحصيفة.

إن معجزة موريشيوس ترجع إلى تاريخ استقلالها. ولكنها لاتزال تجاهد بعض الموروثات الاستعمارية: التفاوت بين الناس في الأرض والثروة، فضلاً عن التعرض للسياسات العالمية المحفوفة بالمخاطر. إن الولايات المتحدة تحتل واحدة من جزر موريشيوس، وهي جزيرة دييغو غارسيا، باعتبارها قاعدة بحرية، من دون أي تعويض، بعد أن استأجرتها رسمياً من المملكة المتحدة، التي لم تكتف بالاحتفاظ بجزر شيكاغو في مخالفة واضحة لمبادئ الأمم المتحدة والقوانين الدولية، بل وطردت مواطنيها وترفض السماح لهم بالعودة.

ويتعين على الولايات المتحدة الآن أن تفعل الصواب في التعامل مع هذه الدولة الديمقراطية المسالمة: الاعتراف بحق موريشيوس في ملكية دييغو غارسيا، وإعادة التفاوض على العقد المبرم بين الدولتين، والتكفير عن خطايا الماضي من خلال دفع ثمن عادل للأرض التي احتلتها بصورة غير شرعية طوال عقود من الزمان.

* أستاذ بجامعة كولومبيا، وحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان «السقوط الحر: الأسواق الحرة وإغراق الاقتصاد العالمي».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

 
 

 


جريدة الجريدة

المصدر: جريدة الحياة
Almarakby

أشرف المراكبي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 88 مشاهدة
نشرت فى 5 أغسطس 2011 بواسطة Almarakby

ساحة النقاش

Ashraf Al marakby

Almarakby
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

58,571