عالم الأدب والنقد الأدبي- د. محمدصالح رشيد الحافظ

الموقع خاص بعالم الإبداع الأدبي والإنساني - نصوص ودراسات

عزلة المبدع وهم أم بحث عن عوالم افتراضية؟ الاغتراب Alienation هو غير العزلة النفسية self ــ estrangement كما يحلو الخلط للبعض بين المضمونين . وسواء اكانت العزلة النفسية ــ سوية (صحية) غير مرضية او كانت عزلة نفسية بعوارض مرضية ــ مثل انفصام الشخصية، او الذهان العقلي، او العصاب النفسي... الخ فهي لا تمثل شكلا اغترابيا من اشكال الاغتراب.... وان كان يفترض مسبقا و يشترط ان يكون كل موقف او مظهر اغترابي تستوطنه، تدخله، تتقمصه عزلة نفسية وان كانت في نظر علم النفس الطبي و العقلي ان جميع اشكال العزلة النفسية مرضية، الا انها تختلف لدي الاغترابي او الشخص الاغترابي المبدع في (درجة) و( نسبية ) المرض. والا انتفت خاصية الابداع الفني الجمالي عنده. فالعزلة النفسية لدي الاغترابي المبدع، عزلة نفسية غير مغيبة أي بمعني تعي ذاتها وتدرك محيطها وتعرف بواعث عزلتها، لذا فقد يكون الفرد الاغترابي عصابيا نفسيا من نوع ما وقد يكون معافي نفسيا . فالعزلة النفسية لدي الاغترابي ضرورية لترك مسافة الرصد والمعاينة لوعي الذات اكثر ورغبته الاكيدة في التأثر والتأثير .. وهذا ما لا نجده لدي المصاب المريض بالعزلة النفسية المرضية غير الاغترابية، عليه لا تكون كل اشكال العزلة النفسية او حالات العصاب النفسي بالضرورة تشكل ظواهر اغترابية . والاغترابي، او المبدع بالتحديد ربما لا تكون عزلته النفسية من وجهة نظر طبية نفسية عقلية تمثل انفصاما شخصيا تفقد صاحبها قدرة الابداع او التأثر او التاثير بالاخرين و المحيط بينما تكون بعض حالات العصاب النفسي او الانفصام او الذهان العقلي وغيرها امراضا مصحوبة بعوارض وعلامات وسلوك وتفكير مريض تفقد صاحبها من التعامل السوي مع المحيط، غير مدرك (لذاته) ولا يعي (الموضوع) وعيا سليما. والفرق بين الاغتراب والعزلة النفسية المرضية: ان الاغتراب ابتعاد او انفصال عن الجوهر الحقيقي المثالي للذات، او الانفصال عن الموضوع سواء اكان الآخر ام المجتمع ام المحيط، والاغترابي يستثمر عزلته النفسية بالتأمل ومراجعة الذات والاحتكام الي معيارية حقيقتها الجوهرية المثلي ومن ثم دراسة بواعث اغترابه الاخري الموضوعية واستحضار تصورات ومفاهيم ارتدادية للعودة ثانية للمحيط الذي اعتزله برؤي وابداعات قد تكون فكرية، اجتماعية ادبية، فنية .... الخ. اما العزلة النفسية المريضة غير المبدعة فقد تكون رد فعل سلبي مبعثه ومسبباته المحيط او المجتمع والانكفاء نحو الداخل بسلوكية وتفكير منغلق علي الذات منبت (مقطوع) الصلة بالآخر، مغيب عما يجري في المحيط من حوله. ويجمع من لا حصر لهم من اختصاصيين اجتماعيين وعلماء نفس وادباء ان العزلة النفسية ــ الفصامية هي خاصية المبدعين المتميزين من مفكرين وادباء وفنانين ممن كانت عزلتهم النفسية غير السوية من وجهة الطب العقلي والتحليل النفسي هي مبعث ابداعهم ولو احتوتهم شواغل الحياة اليومية والاندماج الطبيعي!!! مع المجتمع لما اصبحوا مبدعين اساسا. باختصار العزلة النفسية التي هي مبعث ومنشأ كل انتاجية ابداعية ادبية فنية جمالية انما هي تموضع (أناني) للذات في تمايزها الاجتماعي . والاغتراب الذي يحتوي العزلة النفسية يكون اغترابي بالمجموع، بالكل الذي قدرة تأمل الذات ــ المجموع من نصيبه وحده، فالاغترابي ليس ايديولوجيا تثويريا في المجتمع، لكن جزء من فعاليته الاغترابية هي تلك... فهو لا يعيش عزلة نفسية تعني وتنشغل بعبادة وثنية للذات حتي في سماتها المثالية الجوهرية ــ وان كان ليس هناك ذات انسانية بسمات ومواصفات مثالية كاملة باستثناء مواصفات الذات بمقارنتها معياريا بالكمال الالهي المطلق اللامحدود اللانهائي، فعند مقارنة الصفات الذاتية الانسانية بالصفات الذاتية الالهية عندها يمكننا (تصور) فقط انسانية مثلي متمايزة جدا عن بقية البشر... وهو ما لايتوفر عليه البشر. صفات الاغترابي يعي ذاته جيدا، ويتحسس بواعث اغترابه عن موضوعه وحتي عن الكوني وما وراء الطبيعة. يمتلك تصوراً مسبقاً لضرورات تجاوز اغترابه واغتراب الآخر. العودة ثانية الي معترك الحياة في نشدان قهر اغترابه بالاسلوب والمواصفات والمميزات والمؤهلات التي تمكنه من بلوغ غايته. يذهب (بلوير) : ( ان واقع العالم الانفصامي قد يكون اكثر صدقا من العالم الحقيقي، فالمريض يتحدث عن تخيلاته علي انها حقيقية وعلي الواقع انه وهمي وان امكانية ان يكون الواقع الاجتراري اكثر صدقا من الواقع الحقيقي)(1). مر بنا ان العزلة النفسية باستثناء مجموعة من الادباء والفنانين، سواء اكانت لدي غيرهم حالة انكفاء نفسي مرضي او عقلي او ذهاني، او انفصامي، او حتي لو كانت حالة طبيعية سوية فليس من شرطها او من جوهر سماتها الابداع والخلق او تجلي موهبة او نبوغ. فالعزلة النفسية لدي المصاب باكتآب مزمن او لدي المنفصم الشخصية الحاد، او صاحب الذهان العقلي، او العصاب النفساني المنكفئ في رحلة الداخل بلا رجعة للذات ووعي المحيط، وحتي احيانا صمت المجنون او عزلته وهذيانه، كلها علامات وعوارض لظاهرة سلبية مرضية لا فائدة من ورائها في كل المقاييس وسيتوضح لنا اكثر في مجال قادم. ان ما يذهب له (بلوير) و(فوكو) و(آرتو) و(كرتشمر) و(هولدرين) من تقييم رد اعتباري اخلاقي ــ انساني ــ اجتماعي للجنون ممن يعتبرون حتي هذاءات المجنون ربما كانت او بالاحري جازمين انها تعبير صادق عن الحقيقة والذات ومبعث هذا الاتجاه كما ذكرت عاطفي انساني تعالج الوضع الاجتماعي ومكانته كانسان من حقه ان يعيش الحياة التي تعيش هي به ولا يعيش هو بها . ولتوضيح الفرق بين الاغتراب الطبيعي الابداعي لدي الاديب او الفنان وبين هذاءات المريض الفصامي او الذهاني او المجنون استشهد بوجهات النظر التالية كتمهيد للدخول في مناقشة اشمل للموضوع: 1 ــ يشير الاستاذ الدكتور شاكر عبد الحميد في بحثه القيم (المرض العقلي والابداع الادبي)(2)، ان اخذ الفروق الحاسمة بين التفكير الابداعي والوقوف فريسة (الذهانية) هو ذلك التحكم الارادي والفرضية الواضحة في سلوك المبدع بينما يبدو المريض الفصامي مثلا منقادا مدفوعا بواسطة افكاره .. وان الفنان ينظم افكاره ويشذبها في عملية الخلق الابداعي بينما تبقي افكار المريض اجترارية ضاغطة مستمرة بشكل ملح غير قابل للتحكم، بينما افكار الفنان مصاغة وقد تم تشكيلها في قوالب فنية قابلة للتوصيل والتذوق. 2 ــ يقرر الاستاذ الدكتور محمد علي الكردي في بحثه (الجنون في الادب)(3)، ان الذهان الذي هو انفصام حاد بين الأنا والواقع كثيرا ما يؤدي الي سيطرة الغرائز والدفعات الاولية علي الأنا واعادة صياغة الواقع بطريقة خيالية تتلاءم مع هذه الدفعات. 3 ــ في معرض حديثه في ندوة عن الاغتراب يعرف الاستاذ الدكتور حسن حنفي الاغتراب السوي أي الابداعي بقوله (الاغتراب توحد الذات بالموضوع في الانسان فيصبح الانسان واعيا بذاته عن طريق الموضوع والوعي بالموضوع هو وعي بالذات)(4). 4 ــ المفهوم السايكولوجي لتجربة العزلة النفسية المرضية في حالات الجنون والفصام والذهان والعصاب ... الخ يختلف عن المفهوم السايكولوجي للاغتراب الابداعي السوي ان هذا الاخير حالة او حالات عقلية او نمط من الخبرة او التجربة تتوقف علي التناقض بين توقعات الفرد عن قدرته في التحكم وما يتاح له في الواقع من فرص للسيطرة والتحكم او هو خبرة ذاتية كما يري (اريك فروم) او خبرة او حالة شعورية طبقا لما يراه (كينستون)(5)، كذلك يري الاستاذ الدكتور قيس النوري ان مبررات ودوافع الاغتراب: (انعدام السلطة والانخلاع والانفصال عن الذات والاشياء والتذمر والعداء والعزلة وانعدام المغزي في واقع الحياة والاحباط)(6). 5 ــ اهتم (كرتشمر) بحالات الانفصام الشديدة المعبر عنها بتجليات ابداعية تصعيدية كما في دراسته عن الشاعر الالماني (هولدرين) الذي اصيب بالجنون وقد اطلق (كرتشمر) علي تلك الحالة الانفصامية (تنويعة هولدرين)(7). وهذه الحالة بحسب رأيه تتسم بان الفرد الذي يعاني منها يكون حساسا بشكل كبير لبيئته ومن ثم يتراجع الي الحياة الداخلية الخيالية ... ومن الجدير بالذكر ان تجرية (هولدرين) مع الجنون وتصدع حياة (آرتو) و(فيرلين) و(لتريامون) و(فان كوخ) و(ياجنسكي) و(نيتشه) جعلتهم جميعا لا يقدمون أي نتاج ابداعي يضاف لعبقريتهم السابقة شيئا قبل محنة الجنون.
المصدر: علي محمد اليوسف
  • Currently 40/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
12 تصويتات / 288 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2011 بواسطة Alhafedh

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

39,731